كثيرون شهد لهم الناس بالعظمة وكانت شهادات زائفة وخاطئة أو جاهلة أو متملقة...
أما يوحنا المعمدان فإن الذي شهد له بالعظمة هو الله وملاكه.
قال عنه ملاك الرب الذي بشر أباه زكريا بميلاده "ويكون عظيمًا أمام الرب" (لو 1: 15). عجيبة هذه العبارة جدًا أن يكون عظيمًا أمام الرب"، الذي أمامه يقف كل إنسان شاعرًا بضآلته، كما قال أبونا إبراهيم "عزمت أن أكلم المولى وأنا تراب ورماد" (تك18: 27).
عبارة "عظيمًا أمام الرب" لا تعني شعوره هو بعظمته، إنما تعني أن الرب قد منحه عظمة لكي يقف أمامه.
وهكذا لصقت العظمة بيوحنا من قبل أن يولد بشهادة الرب.
أعمال عظيمة قيلت عن هذا النبي العظيم: منها "أنه يرد كثيرين إلى الرب إلههم"، "يرد العصاة إلى فكر الأبرار"، "ليهيئ الطريق قدام الرب"، "يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته". و"يهيئ للرب شعبًا مستعدًّا" (لو 1: 16-17) وكثيرون يفرحون بولادته... وفي كل ذلك نسأل الملاك الذي بشر بميلاده عن سر هذه العظمة العجيبة، فيجبنا بقوله أنه...
![]() |
من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو1: 15).
حقًا، هذا هو سر عظمة يوحنا. سمعنا في الكتاب المقدس أن الروح القدس حل على كثيرين: حل روح الرب على شمشون (قض13: 25)، وعلى شاول (1 صم 10: 10-11)، وعلى داود (1 صم 16: 13)، وعلى كثير من الأنبياء، ولكن لم نسمع مطلقًا عن أحد منهم أنه "من بطن أمه قد امتلأ من الروح القدس". نلاحظ هنا استعمال عبارة "امتلأ من الروح"، وليس مجرد حلول الروح عليه. هذا الأمر قد اختص به يوحنا المعمدان. لم يسبقه إليه أحد. ولكن لعلنا نسأل:
متى إمتلأ المعمدان بالروح القدس من بطن أمه؟
كان ذلك في قول الرب "ولما سمعت أليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وإمتلأت أليصابات من الروح القدس" (لو 1: 41)... وصرخت أليصابات وقالت للقديسة مريم "حين صار صوت سلامك في أذني، أرتكض الجنين بإبتهاج في بطني" (لو 1: 44).
في هذه اللحظة، لحظة سلام مريم والدة الإله إمتلأ يوحنا بالروح القدس وهو في بطن أمه.
بالروح أحس بالجنين الإلهي في بطن العذراء، وابتهج به وكأنما ركض للقائه!! وقيل إنه أرتكض بابتهاج، كما قال الرب لليهود "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (يو8: 56). العجيب هنا أن أليصابات أحست بأن جنينها إرتكض بابتهاج في بطنها. يمكن أن تحس جسديًا بحركة (إرتكض).
أما عبارة (بابتهاج) فقد ظللت حائرًا أمامها فترة.
حائرًا أمام أمرين. أولهما ابتهاج الجنين... مشاعر جنين في بطن أمه! والأمر الثاني هو أن الأم تحس بأن حركة جنينها في داخلها هي حركة ابتهاج!!
لا شك أنها موهبة من الروح، إذ قيل عن أليصابات في تلك اللحظة إنها كانت قد "إمتلات من الروح القدس" (لو1: 41). وبالروح يمكن أن يوهب لها هذا الإنكشاف... وهنا تزول حيرتي...
وعظمة يوحنا المعمدان لم يشهد بها ملاك الرب فقط. إنما أكثر من هذا، شهد بها رب المجد ذاته حينما قال: "ماذا خرجتم لتنظروا. أقصبة تحركها الريح. لكن ماذا خرجتم لتنظروا. إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة. هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك. لكن ماذا خرجتم لتنظروا. أنبيًا. نعم أقول لكم وأفضل من نبي. فإن هذا هو الذي كتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (مت 11: 7-11).
قال عنه الكتاب أيضًا إنه ملاك:
أو هو "الملاك الذي يهيئ الطريق قدام الرب" (مر 1: 2)، وشهد بهذا اللقب السيد المسيح نفسه (مت 11: 10). ووردت عنه النبوة في سفر ملاخي النبي: "هأنذا أرسل ملاكي، فيهيئ الطريق أمامي" (ملا3: 1).
كان أيضًا كاهنًا من بني هارون، ابنًا لزكريا الكاهن...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ولعل أعظم ما في حياة يوحنا أنه عمد السيد المسيح له المجد.
أتي إليه السيد المسيح ليعتمد منه كباقي الناس... ومن أجل الطاعة قام يوحنا بعماد المسيح. واستحق أن يرى الروح القدس بهيئة حمامة، وأن يسمع صوت الأب قائلًا "هذا هو اپني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 16-17) وهكذا تمتع بالثالوث القدوس روحًا وحسًا...
بل إن الله أرشده إليه قبل العماد:
وفي هذا يقول القديس يوحنا المعمدان: "وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء قال لي: الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله" (يو1: 23-24).
وتظهر عظمة يوحنا المعمدان في أنه تم عمله العظيم في مدة قصيرة لعلها ستة أشهر أو أزيد قليلًا...
هذه الستة أشهر هي الفرق بين عمره وعمر السيد المسيح جسديًّا، حسبما قال الملاك جبرائيل في تبشيره للعذراء بالحبل المقدس. وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها. وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا" (لو 1: 36).
وكل من المعمدان والمسيح بدأ عمله في نحو الثلاثين من عمره.
خدم يوحنا هذه الستة أشهر. ولما ظهر المسيح بدأ يختفي هو، وفي هذه المدة الوجيزة استطاع هذا القديس أن يهدي كثيرين إلى التوبة، وأن يشهد بشهادة قوية للرب، وأن يمهد الطريق أمام المسيح. وقدم للعالم كله مثالًا عملية بأن:
قوة الخدمة ليست في طولها، وإنما في عملها، وفي مدى فاعليته ومدى تأثيرها وثمرها...
أليس عجيبًا أن كثيرًا من الخدام النافعين، لا يتركهم الرب يخدمون طويلًا!! يكفي أنهم قدموا عينة ممتازة للخدمة والبر. قدموا مثالًا يحتذى به. واكتفى الرب بما قدموه، وأطلقهم بسلام. وقد قدم يوحنا مثالًا ممتازًا للخدمة الجادة، وللروحيات العميقة، تنسم منها الله رائحة الرضي، وصرفه بسلام.
وتبرز عظمة يوحنا في أنه عاش بكماله على الرغم من أن جيله كان مظلمًا...
كان عصرًا شريرًا. وكان أشر ما فيه قادته الروحيون من أمثال كهنة اليهود ورؤسائهم والكتبة والفريسيين والصدوقيين. وقد قام فيه من قبل بعض المعلمين الكذبة مثل ثوداس ويهوذا الجليلي اللذين تكلم عنهما غمالائيل (أع 5: 36-37) وقد أزاغا كثيرين.
وكان عصرًا يتميز بالحرفية والبعد عن الروح. ويتصف رجال الدين فيه بالرياء والكبرياء. وعلى الرغم من وجود أضواء بسيطة مثل سمعان الشيخ وزكريا الكاهن وحنة النبية، إلا أن العصر في مجموعه كان فاسدًا، وصفه الرب بأنه "جيل فاسق وشرير" (مت 12: 39).
ولكن القديس يوحنا لم يتأذ من فساد جيله، بل على العكس كان بركة لجيله وسبب هداية له وتوبة.
ومن عظمة يوحنا أنه كان ابن الجبال تربى على حياة الزهد والنسك...
وعاش في البراري طوال عمره "إلى يوم ظهوره لإسرائيل" ينمو ويتقوى بالروح" (لو 1: 80)... عاش ناسكًا "خمرًا ومسكرًا لا يشرب" (لو 1: 15) "يلبس وبر الإبل، ومنطقة من جلد على حقويه (مر1: 6). ويأكل عسلًا بريًا.
وفي البرية تعلم الصلاة والتأمل، وتعلم الشجاعة وعدم الخوف، وأيضًا الصلابة والإيمان. وتعلم القوة الناتجة عن الزهد...
أعده الله في البرية، كما أعد العذراء في الهيكل.
فنشا شجاعًا لا يهاب إنسانًا... يصلح أن يكون صاحب رسالة. كان يقول الحق بكل قوة، ولا يهمه ماذا تكون النتائج...
أخطأ هيرودس الملك. ولم يكن يجرؤ أن يوبخه أو يواجهه بالحق سوى يوحنا المعمدان. فكان الوحيد الذي قال لهيرودس: "لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك" (مت 14: 4). ألقاه هذا الملك في السجن، فلم يهتم. إن ناسكًا مثله زهد كل شي، لا يخاف السجن، حتى لو تعطلت خدمته، وكان فكره في ذلك: إن كان الله يريده أن يخدم فسيخدم. وإن كان الله لا يريد فلتكن مشيئته. المهم أن يشهد للحق.
وكان ما كان... وقطعت رأس يوحنا المعمدان، ولكن هذا الصوت الصارخ في البرية ظل يدوي في أذن هيرودس، يزعج ضميره وأفكاره ونومه وصحوه. ويقول له في كل وقت "لا يحل لك".
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
صوت يوحنا لم يَمُت بموت يوحنا.
وظل هيرودس يخاف يوحنا حتى بعد موته. فعندما وصلت إلى علمه كرازة المسيح القوية ومعجزاته، قال لغلمانه: إن هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات، ولذلك تعمل به القوات!! (مت 14: 2).
إن يوحنا قد عامل هيرودس كالباقين: شهد له بالحق، لأنه كان محتاجًا إلى هذه الشهادة...
وفي توبيخه للملك، شابه إيليا النبي.
إيليا وبخ آخاب الملك على عبادته للأصنام (1 مل 18: 17-18). وتعرض بهذا لغضب زوجته إيزابل التي هددته بالقتل (1مل 19: 1-2). ويوحنا المعمدان وبخ هيرودس الملك، وتعرض بذلك لغضب هيروديا التي أراد الزواج بها. فتسببت في قتله (مت 14: 6- 11).
وهكذا سلك يوحنا "بروح إيليا وقوته" (لو 1: 17).
ونادَى قائلًا للناس "توبوا فقد اقترب ملكوت السموات" (مت3: 2)... وكان شديدًا في رسالته، يوبخ وينتهر ويبكت وكان الناس يقبلون تبكيته بقلب مفتوح.
وفي ذلك يقول الكتاب: "لما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته قال لهم يا أولاد الأفاعي من أراكم تهربون من الغضب الآتي، فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمرة جيدًا تقطع وتلقي في النار" (مت 3: 7- 10).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/pamphlet-4-epiphany/john-the-baptist.html
تقصير الرابط:
tak.la/8dat6q2