4
اللعنة كعقوبة إلهية
إني أعجب لقارئ مسيحي يقرأ الكتب المقدسة ويقول:
الله لم يلعن أحدًا..! اللعنة لم تكن أبدًا عقوبة قانونية!
اللعنة هي من صنع حرية الإنسان، وليس الله!
فأول اللعنات التي ذكرها الكتاب المقدس، كانت عقوبة من الله، وحكمًا من الله صدر من فمه:
فنتيجة للخطية الأولى، حكم الله على الحية وعلى الأرض باللعنة: فقال للحية "ملعونة أنتِ... على بطنك تسعين، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" (تك 3: 14). وقال لآدم "ملعونة الأرض بسببك... شوكًا وحسكًا تنبت لك" (تك 3: 17، 18). ولما قتل قايين أخاه، بدأنا نرى اللعنة تصيب الإنسان ذاته. فقال الله لقايين "ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك" (تك 4: 11).
وهكذا نرى اللعنة قد شملت ثلاثة أنواع من الخليقة: الحية، والأرض، والإنسان... وكانت لعنة صادرة من فم الله.
ثم كان الطوفان، وهو أيضًا لعنة إبادة شاملة، قال فيها الرب "أمحو عن وجه الأرض. والدليل على أن الطوفان كان لعنة حكم بها الله، أنه عندما رسا الفلك، وأصعد أبونا نوح محرقات تنسم الرب منها رائحة الرضا، حينئذ قال الرب "لا أعود ألعن الأرض أيضًا لأجل الإنسان" (تك 8: 21).
وعلى الرغم من هذه النصوص الكتابية الواضحة، فإن ذلك القارئ لا يقبل كلمات الوحي الإلهي كما وردت في الكتاب المقدس، بل يقول:
لم يلعن الله الأرض، كما يظن من يقرأ الكلمات "ملعونة الأرض بسببك" (تك 3: 17) وإنما اللعنة والبركة هي جزء لا يمكن فصله عن موضوع هام جدًا في العهد القديم بل في الكتاب المقدس كله، وهو "العهد الأبدي" بين الله والإنسان والخليقة (أش 24: 5) والذي نسميه "الناموس الكوني" أي الناموس الطبيعي Natural Law.
"ونحن نرى هذا هروبًا من النص. فإن كانت اللعنة راجعة إلى عهد أبدى بين الله والإنسان والخلقة، فالله هو واضع هذا العهد.
وإن كان مصدر عقوبة اللعنة هو الناموس الكونى، فإن الله هو واضع الناموس، فهو خالق الكون ومنظمه. هو خالق الطبيعة، وهو واضع الناموس الطبيعي، وليست قوة أخرى غيره كما يظن الشيوعيون..! إذن الأمر يرجع أو لا وأخيرًا إلى الله مصدر الأحكام كلها، الذي قال:
"انظر أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة... البركة إذا سمعتم لوصايا الرب... واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب.." (تث 11: 26-28).
وقد كرر الرب هذا القول نفسه في سفر التثنية مرة أخرى، فقال: "أشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة.." (تث 30: 19). وقال الرب "أجعل البركة على جبل جرزيم، واللعنة على جبل عيبال" (تث 11: 29).
وهذه هي اللعنات التي أمر الرب أن يقولها اللاويون على جبل عيبال، ويرد الشعب عليهم ويقولون آمين.
"ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالًا منحوتًا أو مسبوكًا..".
"ملعون مَنْ يستخف بأبيه أو أمه".
"ملعون مَنْ ينقل تخم صاحبه".
"ملعون مَنْ يضل الأعمى عن الطريق".
"ملعون مَنْ يعّوج حق الغريب واليتيم والأرملة".
مع لعنات أخرى عن خطايا متنوعة من الزنا والنجاسة.
"ملعون مَنْ يقتل قريبه في الخفاء.."
ملعون مَنْ لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها".
"(تث 27: 13-26).
ولعنات أخرى كثيرة وردت في سفر التثنية إصحاح 28 (تث 28).
وهو الإصحاح الذي يشمل أنواعًا من البركات لمن يسمع لصوت الرب إلهه... وأنواعًا كثيرة جدًا من اللعنات لمن لا يسمع لصوت الرب إلهه. وقد وردت هذه اللعنات في آية من (تث 28: 15-68) وقيل في آخرها:
"هذه هي كلمات العهد الذي أمر الرب موسى أن يقطعه مع بني إسرائيل في موآب، فضلا عن العهد الذي قطعه معهم في حوريب (تث 29: 1).
هذه هي لعنات الناموس، التي أمر بها الرب، وقطع بها عهدًا.
وهناك لعنات أخرى ذكرها الرب في مناسبات معينة:
مثل قوله لأبينا إبراهيم "أبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه" (تك 12: 3). هنا الله يلعن من يلعن إبراهيم. كذلك قوله لبني إسرائيل ".. لكي تنقرضوا، ولكي تصيروا لعنة وعارًا بين كل أمم الأرض" (أر 44: 8). وقوله أيضًا "بذاتي حلفت يقول الرب أن بُصرة تكون دهشًا وعارًا وخرابًا ولعنة. وكل مدنها تكون خرابًا أبديًا" (أر 49: 13).
وأيضًا قول الرب "ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة" (أر 48: 10). وكذلك "المعّلق (أي المصلوب) ملعون من الله" (تث 22: 23).
قال أيضًا عن أورشليم الخاطئة "وأجعلك خرابًا وعارًا بين الأمم التي حواليك... فتكونين عارًا ولعنة وتأديبًا.." (حز 5: 14، 15).
وقيل في سفر زكريا النبي "هذه هي اللعنة الخارجة على وجه كل الأرض" (زك 5: 3). كلها أحكام من الله.
وهناك لعنات صدرت من رجال الله، بسلطان منه لهم.
مثل لعنة أبينا نوح لكنعان بقوله "ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لأخوته" (تك 9: 25-27). وقد ظلت هذه اللعنة سائدة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقد أعتمدها ربنا يسوع المسيح في حديثه مع . المرأة الكنعانية (مت 15: 22، 26). ومثال ذلك لعنة أليشع النبي للصبيان باسم الربوقد نفذت فيهم تلك اللعنة (2 مل 2: 23، 24). وأبونا إسحق في مباركته لابنه يعقوب قال له "ليكن لأعنوك ملعونين" (تك 27: 29).
السيد المسيح أيضًا لعن التينة، ولعن الذين على شماله.
فمن جهة التينة قال "لا يأكل أحد منك ثمرًا إلى الأبد" فقال له بطرس "يا سيدي، أنظر: التينة التي لعنتها قد يبست" (مر 11: 14، 21).
وقال الرب أيضًا للأشرار الذين أوقفهم عن يساره "اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41).
ويذكر الرب السبب في ذلك كعقوبة لهم في قوله "لأني جعت فلم تطعموني، عطشت فلم تسقوني. كنت غريبًا فلم تأووني... الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر، فبي لم تفعلوا" (مت 25: 42-45).
فكيف يقول أحدهم: اللعنة لم تكن أبدًا عقوبة قانونية!!
هل اللعنات التي أعلنت على جبل عيبال لم تكن عقوبة لمن يستخف بأبيه وأمه! أو من يضل الأعمى أو من يزنى ويضطجع مع المحرمات! أو من يقتل! أو من يصنع له تِمثالًا منحوتًا... إلخ. (تث 27: 15-25).
وهل لم تكن اللعنات التي وردت في (تث 28) عقوبة، وقد وردت في أولها "إن لم تسمع لصوت الرب إلهك، لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه... تأتى عليك جميع هذه اللعنات وتدركك.." (تث 28: 15).
أما عن عبارة "إن اللعنة هي من صنع حرية الإنسان وليس الله!!". فإننا نرد عليها بأن هناك فرقًا بين الصنع والاستحقاق، أو الحكم والاستحقاق.
الله هو الذي أصدر الحكم باللعنة. والإنسان استحق هذا الحكم الإلهي بانحراف إرادته البشرية نحو الشر. وليس هو الذي صنع اللعنة لنفسه!!
كذلك الله هو الذي أصدر الحكم بالموت على الخاطئ بقوله "النفس التي تخطئ هي " تموت (حز 18: 4، 20). والإنسان استحق حكم الله بموته. وليس هو صانع الحكم بنفسه ولنفسه وفي نفسه!!
حقًا إن اللعنة هي ثمرة خطية الإنسان التي بها استحق حكم الله عليه باللعنة. وإن كانت جزءًا من الناموس الكوني، فإن واضع هذا الناموس الكوني هو الله.
أما إزالة الله للعنة، فتتوقف على توبة الإنسان وانتفاعه بالفداء.
وهذا واضح من قول الرب "إن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون" (لو 13: 3، 5). وواضح أيضًا من قول القديس بطرس لليهود في يوم الخمسين "توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع لغفران الخطايا" (أع 2: 38). ومن قوله أيضًا في موضوع قبول الأمم مما ردده السامعون إن "الله أعطى الأمم التوبة للحياة" (أع 10: 18).
إذن الله لا يزيل اللعنة بدون توبة. بل بالإيمان والمعمودية والتوبة ينال الإنسان الخلاص، وبالتالي زوال اللعنة، باستحقاق الدم المسفوك عنه (مر 16: 16؛ أع 2: 38؛ لو 13: 3، 5).
أما عن عبارة إن اللعنة هي حرمان من النعمة.
أيضًا هذا راجع إلى الله، فهو الذي يمنح النعمة، وهو الذي يحرم البعض من نعمته.
فإن حرمه من نعمته ووقع في اللعنة، يكون هذا حكمًا من الله، وقد استحقه الإنسان. مثلما حل روح الله على شاول الملك فتنبأ (1 صم 10: 9، 10). ثم فارقه روح الله، فبغته روح رديء من قِبل الرب (1 صم 16: 14).
لا نقل إذن إن الإنسان بخطيئته يوقف عن الأرض البركة والنعمة.
بل التعبير السليم هو أن الله يوقف عن الأرض البركة والنعمة بسبب خطيئة الإنسان. فالذي يمنح البركة هو الذي يمنع البركة. هو وحده له السلطان في الحالين. وليس للإنسان سلطان أن يمنح أو يمنع. هو يتسبب ولكن السلطان لله.
أما قول ذلك القارئ إن "الله لا ينزع البركة بإرادته عن الإنسان، ولا حتى عن الأشرار!! فهو كلام غير لاهوتي وغير كتابي!
أليس الله هو واضع الناموس الخاص بالبركة واللعنة (تث 11: 30). أليس الله هو الذي بإرادته أمر الكاروبيم أن يحرس طريق شجرة الحياة بلهيب سيف من نار، حتى لا يأكل منها آدم وهو في حالة الخطية (تك 3: 22-24). ولكنه في سفر الرؤيا "منح من يغلب أن يأكل من شجرة الحياة" (رؤ 2: 7).
"مَنْ له أذنان للسمع فليسمع".
بقى أن نقول إن كل لعنات الناموس قد حملها المسيح عنا.
وهكذا قال الرسول "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا. لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة" (غل 3: 13).
وهنا يتحمس أحدهم ليقول “كيف يمكن أن يقال أن الآب صب لعنة وغضبًا على ابنه، ليعاقبه بدلًا منا على الصليب (مارتن لوثر) حتى ما يقتص لحق عدالته وناموسه؟!!.. فهل كان موت الرب تقديسًا للبشرية وزرعًا للحياة أم كان لعنة... ويدلل على ذلك بقوله "لم تكن الذبائح في العهد القديم مصدر لعنة أو تحمل لعنة، بل قدس أقداس"والإنسان لا يستطيع أن يقدم ذبيحة ملعونة لله...
والإجابة هي أن المسيح لم يكن ملعونًا، حاشا. بل كان حامل لعنة. ولم يكن مصلوبًا وهو خاطئ، بل حامل خطايا...
وبسبب محبته لنا في حمله خطايانا ولعنتنا، تمجد بصلبه.
وهكذا وهو مزمع أن يقدم ذاته عنا، قال للآب “مَجِّد ابنك، لكي يمجدك ابنك أيضًا” (يو 17: 1). أي مجده في محبته للبشر، حتى أنه يحمل أوجاعهم وخطاياهم واللعنات الواقعة عليهم، ويخلصهم. لأنه ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو 15: 13).
وبنفس الوضع كانت الذبائح. كانت بلا خطية تحمل خطايا غيرها. ولأنها تموت عن غيرها، اعتبرت قدس أقداس.
لم تكن الذبيحة ملعونة، إنما تحمل اللعنة التي يستحقها مقدمها. كانت المحرقة تحتمل أن تظل النار تشتعل فيها حتى تتحول إلى رماد، ثم يحمل الرماد إلى مكان طاهر (لا 6: 11). لأنها رمز للبذل بالنسبة إلى الإنسان. ورمز للطاعة والتسليم إلى الله. وهكذا اعتبرت قدس أقداس.
أما الآب فلم يكن يعاقب الابن، بل سُر بآلامه إذ صار بصلبه مخلصًا للبشر. وبهذا الخلاص أرسله كفارة عنا (1 يو 4: 10).
لم يكن الابن موضع غضب الآب بل حمل غضب الله على الخطاة. والابن أيضًا استهان بالخزي واحتمل الصليب من أجل السرور الموضوع أمامه (عب 12: 2).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/new-heresies/damnation.html
تقصير الرابط:
tak.la/ha6tf9c