نود أن نتكلم عن الحياة الروحية ما بين الناموس والنعمة.
الناموس مأخوذ من كلمة يونانية Nomos بمعنى قانون أو شريعة.
فالناموس بهذا المعنى هو مجموع الوصايا والأوامر التي أعطاها الله للبشر.
وقد ورد في الإنجيل لمعلمنا يوحنا البشير "الناموس بموسى أعطي، وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1: 17)
ونود أن يكون لنا تأمل في هذه النقطة بالذات، لنرى كيف كانت مسيرة العالم ما بين الناموس والنعمة؟ وما هو موقع حياتنا الآن؟
لقد قدَّم موسى للناس شرائع، ولكن من البدء لم يكن هكذا:
لقد خلق الله الإنسان بطبيعة نقية طاهرة، لا تحتاج لقوانين لكيما تحكمها أو ترشدها.
وبعد أن عرفت الوصية، عرفت معها الخطية.
يوسف الصديق رفض أن يقع في الزنا، ولم تكن هناك وصية تقول لا تزن. لقد جاءت هذه الوصية بعد ذلك بأكثر من 500 سنة.
الإنسان المحتاج إلى وصايا، هو شاهد على نفسه إنه جاهلن لا يعرف بعد الطريق. أما البار، فينطبق عليه قول الشاعر:
إذا كنت في حاجة مُرْسِلًا فارسل حكيمًا ولا توصِهِ
الحكيم لا يحتاج إلى وصية ترشده، فحكمته تكفي.
ولما فقد الناس الحكمة، أعطاهم الرب الوصايا العشر، ثم أعطاهم وصايا عديدة جدًا، أدبية وطقسية واجتماعية، إمتلأت بها أسفار الخروج واللاويين والتثنية... مجموعة ضخمة من الأوامر والنواهى.
ولم تصلح حياة الإنسان بالناموس. بل صار الناموس شاهدًا عليه. كان في حاجة إلأى الطبيعة الجديدة، إلى القلب النقي، الذي يحب الخير بطبيعته، من غير أوامر ووصايا.
وهنا نسأل: ما هي مشكلتنا في التوبة؟ ما هي العوائق؟
المشكلة هي أن الإنسان لا يعمل الخطية، خوفًا من الوصية ولكن الخطية في أعماقه يحبها، حتى أنه إن لم تكن هناك وصية، لغرق في الخطية إلى أعماقه.
ومن هنا كان الخير خارجًا عنه، وليس في داخله.
الخطية مالكة لقلبه. ولإرادته. ولكن عقله يقول له إن هناك وصية وعقوبة لمن يخالفها. لهذا يدخل الإنسان في صراع مع الوصية، لأن القلب من الداخل لم يتنق، ولم يصل إلى محبة الله ولا إلى محبة الفضيلة. ما زال محتاجًا إلى ضوابط من الخارج...
ولكن السيد المسيح أعطانا وصية جديدة، هي المحبة.
تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك... وتحب قريبك كنفسك، بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء (مت 22).
فكيف يصل الإنسان إلى هذه المحبة التي يتعلق بها الناموس كله والأنبياء؟ يصل إليها عن ريق النعمة فيه. بالروح القدس، كما يقول الرسول "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا القدس المعطى لنا" (رو 55)
فإذا وصلت إلى هذه المحبة، لا تحتاج إلى ناموس.
إننا نعيش في لجة ضخمة من الوصايا، من الأوامر والنواهي. في الحلال والحرام، ما يجوز وما لا يجوز... وهناك من ينفذون الوصايا، بطريقة ناموسية، حرفية فريسية، يهتمون فيها بالشكل وليس بالروح... كمن ينفذ جدولًا روحيًّا. ويضع علامات من أجل تنفيذ بنوده، وليس من أجل الحب، وإنما تنفيذًا لناموس...
مثل هذا الإنسان يصلي ويقرأ ويتأمل ويحضر القداسات ويتناول وكل ذلك بلا روح، وبلا حب. كما قال الرب "ها الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (مت 15: 8).
هذه هي حياة الناموس، وصايا بلا روح، وتنفيذ بلا قلب.
هذا الناموس أراد المسيح أن يحررنا منه، بالنعمة.
إنه يقول "إن فعلتم كل ما أمرتم به، فقولوا إننا عبيد بطالون" (لو 17: 10).
كل ما أُمِرْتُم به هو الناموس، قد تنفذونه كعبيد، ولكن في نفس الوقت تكونون بطالين، إذا خلت نفوسكم من الحب والنعمة.
فهل أنتم عبيد أم بنون، وهل تحبون أن تنفذون؟
هل أنتم تحبون البر أم تخضعون لوصيته؟
هل تحبون البر كطبيعة، أم تدخلون في صراع مرير بين الخير والشر؟
لقد جاء المسيح يحررنا من هذا الخضوع اللاارادي للوصايا.
جاء ليغرس فينا حبًا وروحًا، فلا نعيش بعد عبيدًا للوصايا. وصدق الرسول حينما قال: "إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 26)
إن الذي يقيم نقاشًا حول بعض الأطعمة، وهل تعتبر إفطارًا أم صيامًا، وهو لا يزال في الناموس.
لم يدخل بالنعمة في روح الصوم، ولا في الحب الإلهي، تسيره أوامر، وقوانين ومخاوف.
إن أقصى ما يصل إليه البر البشري أو البر الذاتي، هو انتصار الإنسان في حروب دائرة فيه بين الخير والشر، وهذا يدل على أنه فيه شهوتين تتصارعان إحداهما للخير والأخرى للشر.
وما دامت هناك الشهوة للشر، إذن فالقلب لم يتحرر بعد.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الإنسان الذي يحيا في النعمة، يعيش في محبة الخير.
الخير الذي صار له طبيعة أو طبعًا، يعملاه بلا صراع، بلا حرب داخلية، بلا مجهود.
هذا قد وصل إلى حرية القلب... قد تحرر قلبه من عبودية العادات والشهوات والجسد والمادة... لا توجد خطية تؤثر عليه ولا خطية تنتصر عليه، ولا صراع داخله.
إنها حالة يسميها الآباء (عدم التألم) يصلي الإنسان لنوالها.
في عدم التألم، لا توجد خطية تهز الإنسان من الداخل، ليضعف أمامها... إنها الحالة التي قال عنها يوحنا الرسول:
"المولود من الله لا يخطئ، والشرير لا يمسه" (1يو 5: 18).
هناك خطايا، لا يستطيع الإنسان البار فعلًا أن يرتكبها. كالسرقة والحلفان، والقتل، والدجل... وبالتالي كثير من الوصايا الأخرى... هذا الإنسان قد تتحرر.
نريد أن نرتفع فوق مستوى الناموس، وندخل بالنعمة إلى الحرية، نريد أن نصلي ليل نهار: اعطانا يا رب هذه الحرية.
حرية القلب غير المستعبد، غير المهزوم، غير المقيد بمحبة الخطية، ليس في داخله اشتياق إليها. القلب الذي لا تتفق الخطية مع طبيعته "إننا نحتاج إلى هذه النقاوة الداخلية، بمحبة الخير".
لأن كثيرين يهتمون في عبادتهم بالإنسان الخارجي وليس بالداخل.
يهتم الواحد منهم بالممارسات من صوم وصلاة ومطانيات واجتماعيات دينية وما إلى ذلك، ويترك نقاوة القلب من الداخل. وتصبح حياته مجرد ممارسات كالتي انتقدها سفر أشعياء النبي (1: 11: 16)
لا تعيشوا عبيدًا للنواميس والممارسات. وإنما اطلبوا من الرب أن يحرركم قلوبكم بنعمته. وإن تحررتم ستسلكون في جدة الحياة، وفي حرية مجد أولاد الله.
وَثِقوا أنه إذا تحرر الإنسان الداخلي، سيسلك الإنسان في عمق الروح، بلا تعب.
وسيصلي ويصوم ويتأمل، ويمارس كل الأمور الخارجية بطريقة روحية، يحب الله، وبحرارة وعمق...
فاسأل نفسك: هل حررتك النعمة من الداخل أم داخل أم لا؟ هل لا تزال عبدًا للخطية؟ أم ما زالت تصارعها؟ أم قد دخلت في مذاقة الملكوت، ومذاقة عدم التألم كابن لله؟
هل الخطية حروب خارجك؟ أم هي في قلبك من الداخل؟
أم أن قلبك قد تحرر من سلطانها، وتهيأ لسكنى الله؟
هذا القلب النقي هو الذي يطلبه الرب قائلًا "يا ابني أعطني قلبك" أعطني قلبك، وافعل بعد ذلك ما تريد... أريد هذا القلب، وغيره لا أريد شيئًا، لست أريد البر الخارجي. إنما بر المسيح الذي من عمل الروح فيك.
قد يُعْجَب إنسان باللمبات القوية وبالنجف وبكل الأجهزة الكهربائية العجيبة الموجودة في المكان. ولكن المهم في التيار... بدون هذا التيار الكهربائي لا فائدة من جميع اللمبات القوية.
هذا التيار هو عمل النعمة فيك، عمل الروح القدس في قلبك، وبدونه باطلة كل أعمالك. إن كنت تصلي، ولم تخرج صلاتك من هذا القلب، فباطلة هي صلاتك. وهكذا الوضع بالنسبة إلى أصوامك وتأملاتك ومطانياتك.
كلها نسميها (وسائط النعمة) أي الوسائط التي تعمل نعمة الرب عن طريقها، لأجل خلاصك، وتحريرك من خطاياك.
إن كان قلبك لم يصل بعد إلى الله، فأنت ما زالت تعيش في الناموس وليس في النعمة. وكل طاعتك للوصايا، تُسَمَّى حينئذ (بر الناموس).
أما إن عملت نعمة المسيح في قلبك، وسكبت فيه المحبة الإلهية من الروح القدس، حينئذ يكون لك بر المسيح.
اطلب من المسيح إذن أن يعطيك بره، أن يغسلك فتبيض أكثر من الثلج أن يحررك الابن، حينئذ تفعل البر تلقائيًا، حبًا لله. وحبًا للبر... بلا جهاد...
اطلب من الرب أن يعطيك محبة الخير، فيكون البر فيك طبيعة أو طبعًا.
وَتَصِل إلى الوضع الذي لا تستطيع فيه أن تخطئ لأن الخطيئة لم تعد تتفق مع طبيعتك الجديدة...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
عِش في النعمة، في محبة الله، وليس في بحر واسع من الأوامر والنواهي، وليس في ميدان من الصراعات بين الخير والشر...
قد جاء السيد المسيح ليعطيك هذه النعمة التي تغيرك وتبررك وتطهرك، وتقدسك وتنميك في محبة الله. وتسمو بك في أجواء روحية فوق المادة والعالم. وهكذا ترفع مستواك، فتصير فوق مستوى الخطية، وفوق قيود الوصية.
اطلبوا هذه النعمة بكل قواكم، بكل قلوبكم وكل إرادتكم. اطلبوا أن تحرركم هذه النعمة من كل رباطات العالم والمادة والشيطان، وتعطيكم قلبًا جديدًا متحررًا من كل العادات والرغبات الخاطئة كما قال المرتل في المزمور "قلبًا نقيًا اخلق في يا الله. وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي" (مز 50).
ارتفعوا بالنعمة إلى فوق... فوق الأوامر... تفعلون البر كأبناء على صورة أبيهم في القداسة والحق والنور، وليس كغرباء أو عبيد يؤمرون فيعطون...
ارتفعوا فوق العالم وعيشوا في سماء دائمة...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/grace/between-law-grace.html
تقصير الرابط:
tak.la/9cgzsz4