أيضًا دَبَّر الله لكل مخلوق ما يريحه.
فالدب القطبي polar bear مثلًا، خلق له الله فروًا لتدفئته إذ أنه يعيش في بلاد باردة، بينما الحصان مثلًا لا يحتاج إلى ذلك. الجمل خلق له الله خفًا في قدميه يمشي به على الرمال. والقرد خلق له مرونة في كل فقراته تمكنه من تسلق الأشجار. خلق الأجنحة للطيور، والزعانف للأسماك. والحيوانات الضعيفة دبر لها وسيلة للهرب.
مررت مرة على تكعيبة العنب، فرأيت تدبير الله العجيب:
في الشتاء تنفض الكرمة أوراقها، فتدخل أشعة الشمس لكي يتدفأ من يجلس تحت التكعيبة في فصل البرد. وتعود أوراق الكرمة فتملأ التكعيبة في الصيف، لكي يستظل من يجلس تحتها في فصل الحر. حكمة عجيبة في التدبير. وهكذا من كل الأشجار النفضية... إلى جوار نفع كل هذا في تدبير حياة الشجرة نفسها.
كذلك هناك تدبير إلهي عجيب في وظائف أعضاء الإنسان.
دبَّر له الله كل شيء: العدسة العجيبة الموجودة في العين، والمضخة العجيبة الموجودة في القلب، والمراكز العجيبة التي في المخ، والحساسية العجيبة التي في سائر الحواس، كاللمس والشم والذوق، والمفاصل العجيبة الموجودة في الأطراف، والمرونة العجيبة الموجودة في الفقرات. والعمل العجيب الذي تقوم به كل أجهزته.
يكفي أن يأكل الإنسان مثلًا قطعة من الحلوى، فتقوم الأسنان واللسان بعملها: اللسان يلوكها، والأسنان والضروس تحطمها، وتهيئها للبلع. ثم تتناولها مجموعة من الإفرازات، منها ما يخص المواد الدهنية، وما يخص المواد السكرية، وما يخص المواد النشوية، لكي يتم هضمها ثم تمثيلها، وتتحول إلى أنسجة ودم... في جسم الإنسان من نفس النوع
وكما دبر الله الخلق، وانتهى من عمله خالقًا، استمر يدبر حياة خليقته، وعمل الأجرام والطبيعة التي خلقها: وذلك بتدبير الخليقة جملة، وكل مخلوق على حده.
خذوا تدبير الله لحشرة مثل النحلة... كيف منحها هذا التدبير العجيب جدًا في جمع الرحيق من الزهور، وتحويل الرحيق إلى شهد، وكأنها عالم في الكيمياء. واستخراج غذاء الملكات، وكأنها صيدلي ماهر يعد أقوى علاج. كذلك منح الله النحلة تدبيرًا عجيبًا في صنع الخلايا، وكأنها مهندس بارع.
ومنحها تدبيرًا حكيمًا جدًا في العمل الإداري، والعلاقة بين العمال، وبينهم وبين الملكة، حتى قال في ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي:
مملكة مدبرة بامرأة مؤمَّرَة
تحمل في العمال والصناع عبء السيطرة
أعجب لعمال يولون عليهم قيصرة
وهكذا منح الله أيضًا تدبيرًا عجيبًا للطيور في رحلاتهم الطويلة، وقيادة تلك الرحلات. ومنح الخليقة الحيوانية تدبيرًا منظمًا في النسل، كما منح النباتات أيضًا في ذلك نظامًا وتدبيرًا، به تبذر الشجرة بذرًا يصنع ثمرًا، بذره فيه كجنسه (تك11:1، 12).
كذلك قام الله بتدبير حياة الإنسان جملة وأفرادًا.
فكل إنسان يدبر الله حياته بطريقة كلها حكمة، كما لو كان هذا الإنسان الفرد عملًا خاصًا يدبره الله، بحيث ينتهي هذا التدبير إلى القصد الإلهي، لو أن هذا الإنسان قد سلم نفسه لعمل الله وتدبيره...
خذوا مثلًا يوسف الصديق: أراد الله أن يجعله ملكًا على مصر وكل أحوالها. فلكي يصير كذلك، لا بُد أن يصل إلى فرعون ويكون موضع ثقته. ولكي يصل إلى فرعون، يدبر الله أحلامًا لفرعون يحتاج إلى تفسيرها. ويعجز كل السحرة والعرافون عن ذلك. ثم يدبر الله أن رئيس السقاة يخبر فرعون بأمر يوسف الصديق وقدرته على تفسير الأحلام.
ولكي يحدث ذلك يدبر الله أحلامًا يحلمها رئيس سقاة فرعون في السجن مع رئيس خبازيه، ويحتاجان إلى تفسيرها. ولكي يتم ذلك يسمح الله بطريقة يدخل بها يوسف إلى السجن، وهي مؤامرة امرأة فوطيفار ضد يوسف. ولكي يحدث هذا يدبر الله خدمة يوسف في بيت فوطيفار.
ولكي يتم ذلك يدبر الله شراء الإسماعيليين ليوسف وبيعه لبيت فوطيفار. ولكي يتم هذا يسمح الله بأن يقوم أخوة يوسف بإلقائه في البئر ثم بيعه. ولكي يحدث هذا يحسده أخوته بسبب القميص الملون وبسبب أحلامه. وهكذا دبر الله حلمين يحلمهما يوسف الصديق، وفيهما معنى رئاسته لأخوته...
"أليس تديرًا عجيبًا، هذا الذي لخصه يوسف لأخوته بقوله لهم: أنتم قصدتم لي شرًا. أما الله فقصد به خيرًا، لكي يفعل كما اليوم" (تك20:50). "لستم أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله" (تك8:45).
حقًا ما أعجب مقاصد الله وتدبيره!!
هل يستطيع يوسف أن يقول لله "لماذا تفعل بي يا رب كل هذا؟" كلا، بل هو تدبير الله المحب الذي به أوصله إلى الرئاسة. وبه جعله أبًا لفرعون وسيدًا لكل مصر (تك8:45).
مثال آخر، هو داود: أراد الله أن يقيمه ملكًا.
ولكي يفعل ذلك، لا بُد أن يشتد داود وتحنكه التجارب والضيقات، حتى يدبر مملكة واسعة وحروبًا كثيرة... بينما كان داود شابًا صغيرًا، أشقر مع حلاوة في العينين (1صم11:16، 12).
لذلك دبر الله أن يتعرض داود لحروب شاول ومؤامراته ضده. فاكتسب من كل ذلك خبرة، واكتسب احتمالًا، ونبلًا في المعاملة.
وفي المدة اختبر الحرب وتقوى فيها، حتى أنه قال في المزمور: "مبارك الرب صخرتي، الذي يعلم يدي القتال وأصابعي الحرب" (مز1:144). وهكذا أمكن للتجارب والضيقات أن تصقل شخصيته، وتجعله رجل دولة من نوعية قوية. كما أن هذا التدبير الإلهي، جعل داود أيضًا رجل صلاة، يعرض كل ما في قلبه على الله: يعترف، ويطلب، ويشكر، ويسبح، ويترك لنا في مزاميره كنزًا من الصلوات والتأملات تستخدمها كافة الكنائس.
وأيضًا تدبير الله الحكيم، استخدمه مع نبيه صموئيل:
كان يريده نبيًا يخدمه في الهيكل، ويمسك قنينة الدهن التي بزيتها المقدس يمسح الملوك. فسمح أن تكون أمه عاقرًا تشتهي أن يكون لها ابن، بينما تغيظها ضرتها. فلما ضاقت بها الحالة، وبكت، ذهبت إلى الهيكل، ونذرت في صلاة حارة إن أعطاها الله ابنًا، أن تكرسه لله يخدمه في هيكله كل الأيام (1صم11:1). وقد كان... فلما ولدت صموئيل، تربى في الهيكل منذ صغره. واستحق ما أراده الرب له...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
كذلك دَبَّر الله الطريقة التي يخضع بها يونان، وتتوب بها نينوى.
أمره أن يذهب إلى نينوى وينادي عليها بالهلاك. وهو بعلمه الإلهي المسبوق يعرف أن يونان سيعصاه. وفعلًا دبر له السفينة التي هرب فيها من وجه الرب. ودبر عاصفة وأنواء تكاد تغرق السفينة. وبهذا التدبير خاف ركاب السفينة، وصلوا وآمنوا، وذبحوا ذبيحة، ونذروا نذورًا" (يون16:1). وهكذا بعصيان يونان، خلص الله ركاب السفينة.
ثم دبر الله حوتًا عظيمًا، فابتلع يونان. وبهذا التدبير رجع يونان إلى نفسه، وصلى، وأنقذه الله، فنادى على أهل نينوى، فصاموا وصلوا وتابوا ورجعوا عن طريقهم الرديئة، فغفر لهم الله وخلصوا. ولكن يونان أغتاظ لسقوط كلمته واشتهى الموت.
فدبر الله يقطينة تظلل على رأس يونان، ودبر دودة تضرب اليقطينة فذبلت. ثم دبر أن تضرب الشمس يونان، فطلب الموت لنفسه، وهنا دبر حوارًا معه تخلص به نفسه...
عجيبة هي تدابير الله التي خلص بها أهل السفينة وأهل نينوى ويونان نفسه. وكيف استخدم الريح والبحر والحوت واليقطينة والدودة والشمس... كله في إطار واحد هو التدبير الإلهي الحكيم المتقن.
وما أكثر تدابير الله التي استخدمها مع قديسين ومع خطاة أيضًا:
دبَّر للقديس الأنبا بولا موكب جناز لميت، وحديث بين بعض المشيعين فشعر بتفاهة الحياة وأحكام الناس، كما سمح أن يأخذه ملاك إلى البرية، ودبر له معيشته في البرية، وغرابًا بطعام. ودبر كذلك أن يزوره القديس الأنبا أنطونيوس في أواخر حياته فيعرف منه قصته ويرويها لنا، ويدفنه...
ودبَّر الله للقديس الأنبا أنطونيوس أن يتأثر بموت أبيه، ويتأثر بآية من الإنجيل يسمعها في الكنيسة، وأن يتأثر بكلمة من امرأة لا تستحي... قالت له: إن كنت راهبًا فاسكن في الجبل. فليس هذا الموضع يصلح لسكنى الرهبان...
ودبَّر الله وسيلة للتوبة لكل من مريم القبطية، وبيلاجية، وبائيسة، وسارة وأوغسطينوس، وموسى الأسود. كل منهم له قصة من تدبير الله، تظهر فيها يد الله واضحة، بحيث اقتادهم إلى التوبة، وليس هذا فقط، بل حولهم إلى قديسين وقديسات تنتفع البشرية بسيرتهم وبصلواتهم...
دبَّر الله حلولًا لمشاكل كثيرة، ما كانت تخطر على بال.
دبَّر إنقاذ موسى وشعبه، بشق البحر الأحمر، الأمر الذي يحدث لأول مرة في التاريخ، ويظهر فيه عمل الله وتدبيره. كما دبر إعالة كل هؤلاء في البرية، بالمن والسلوى لإطعامهم، وبالماء الذي انفجر من الصخرة ليستقوا منه (خر6:17). ودبر لهدايتهم في الطريق عمود نار بالليل، وسحابة تظللهم بالنهار (خر21:13).
كثيرًا ما لجأ البشر إلى حلول بشرية ففشلت، ثم تدخلت الحلول الإلهية...
وفي هذا المجال قصص عديدة جدًا لسنا نظن هذه الصفحات تتسع له الآن...!
ثم هناك أمر أهم من كل ما ذكرناه، وهو:
التدبير الإلهي لخلاص البشرية، وقصة الفداء العجيب، ومتى بدأت وكيف تمت؟
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/mastermind.html
تقصير الرابط:
tak.la/w6vhvqw