الفصل الخامس: القديس أنطونيوس أعطى أم أخذ؟:
لا شك أن القديس أنطونيوس قد أعطى الرب كل شيء:
إنه حسب الوصية: "مضى وباع كل ما له وأعطاه للفقراء".. أعطى الرب ثلثمائة فدان من أجود أطيان بنى سو يف. وأعطى الرب أيضا ما كان ينتظر من مركز وجاه كوريث لوالده. وأيضا زهد فكرة الزواج وما كان يمكن أن ينجبه من أولاد. وكذلك زهد كل ما في الدنيا من علم ومعرفة ومتع وصلة بالناس...
ومع كل ذلك يلح علينا السؤال: هل هذا القديس قد أعطى أم أخذ؟ أم أعطى فأخذ..؟
وننتقل من هذا السؤال إلى سؤال آخر يتبعه:
هل الرهبنة عطاء أم أخذ؟ أم هي عطاء يتحول إلى أخذ؟ أو عطاء يكافأ بأخذ؟ الأخذ فيها أكثر من العطاء؟
* هذا القديس أعطى الله قطعة أرض (300 فدان).
ولكن الله أعطى الأرض كلها، والسماء أيضًا... فأصبح له في كل بلد من البلاد أديرة، وكنائس، وأماكن مقدسة. وأصبحت له كل البرية أيضًا، وكل الأديرة التي على أسماء قديسين آخرين، لأنه أبو الرهبنة في العالم كله. فهل أعطى أم أخذ؟
إنني حينما أرى الأراضي والأملاك الموقوفة على دير الأنبا أنطونيوس في مصر وحدها. أرى أنها أكثر مما تركه القديس الأنبا أنطونيوس في قمن العروس..! بالإضافة إلى أرض الأحياء...
وانظروا إن كلمة ربنا يسوع المسيح لم تسقط أبدا، حينما قال:
"مَنْ ترك أبًا أو أمًا... أو أخوة أو أخوات، أو زوجة، أو مقتنيات من أجلي، يأخذ مائة ضعف في هذا العالم، وملكوت السموات" (مر 10: 29).
لعل البعض حينما أعطى القديس أنطونيوس أرضه للرب، قالوا عنه: مسكين، ضيع نفسه وأرضه وثروته ومستقبله..! بينما يرد الرب عليهم قائلا: من أضاع نفسه من أجلى يجدها" (مت 16: 25).
ويقول الكتاب للأنبا أنطونيوس: "مناك ربح عشرة أمناء" (لو 19: 16).
* ماذا ترك القديس أيضا غير الأرض؟ هل ترك أولادًا؟!
لنفرض أن الشاب أنطونيوس، بدلا من الرهبنة تزوج وأنجب، كم من أبناء كان سينجب؟ خمسة؟ عشرة؟ عشرين؟.. هودا له الآن آلاف من أبنائه الرهبان في كل جيل، يصل عددهم إلى ملايين منذ بدأ الحياة الرهبانية في أواخر القرن الثالث حتى الآن... يضاف إلى ذلك ملايين من أبنائه الروحيين مثلكم، من غير الرهبان...
حقًا أن السيد المسيح حينما قال أن يعوض: "مائة ضعفًا" كان منكرا لذاته في كرمه، لأنه أعطى بآلاف الأضعاف...
بل قد جعل الله هذا القديس يتخطى حدود المكان والزمان:
هذا الذي ترك بلده، وتوحد في الجبل لأجل الله، تاركا العالم لأجله، أصبح العالم كله يتحدث عنه. اسمه وصل إلى أقطار المسكونة كلها. لا توجد قارة من قارات العالم الست، لا تعرف الأنبا أنطونيوس! اسمه تخطى حدود قريته، بل حدود مصر، بل حدود أفريقيا، حتى في أيامه... وأصبح له أولاد وأديرة وكنائس في كل موضع. وأصبحت له أماكن مقدسة لا تعد. حقًا، هل أعطى أم أخذ؟!
* وماذا أعطى القديس الأنبا أنطونيوس أيضا للرب؟ هل أعطاه عمرا؟ هو ذا الله جعل حياة الأنبا أنطونيوس تتخطى الزمان!
كثيرون تنتهي حياتهم في الأرض بوفاتهم، وينساهم جيلهم بعد حين، وتناسهم الأجيال. هو ذا قد مرَّ أكثر من 16 قرنًا على نياحة الأنبا أنطونيوس، وما زال حيا بيننا حتى الآن، حيا في مبادئه، وفي تعاليمه، وفي أولاده، وفي النهج الذي أختطه، وفي ذاكراه...
إنه من الأسماء الخالدة التي لا تنسى. إنه روح كبيرة، أكبر من الموت. لم يستطع الموت أن ينهى رسالتها. فلم تقتصر حياته على جيله، بل تختطه عبر الأجيال، ولا تزال بيننا. إنه صاحب حياة بدأت ولم تنته...
عند رهبنة كل راهب، يصلون عليه صلاة الأموات(أعنى المنتقلين). على اعتبار أنه مات عن العالم. ولكن قديسنا هذا بموته عن العالم، دخل في الحياة التي لا تنتهي، وما زال بها حيا بيننا.
أتراه أعطى الله حياة كرسها له، أم أخذ حياة لا تنتهي؟!
* هل لأجل الله أيضًا ترك جاهًا وسلطانًا وعظمة وشهرة؟
إذ كان أبوه بالجسد ذا جاه وعظمة يورثها لأبنه... هناك وأتخيل لو بقى القديس أنطونيوس في مكان أبيه، آي مستقبل كان ينتظره؟ أتراه كان سيصير عمدة البلدة قمن العروس؟ أو أعظم رجل في المركز أو في محافظة بنى سو يف، مدى حياته، ثم ينساه الناس، كما نسوا أسم أبيه على الرغم مما كان له من عظمة وجاه وغنى..!
هوذا الأنبا أنطونيوس في جيله، يرسل إليه الإمبراطور قسطنطين يطلب بركته، ويأتيه الفلاسفة والنبلاء من كل مكان يطلبون حكمته. وينال شهرة لم ينلها أحد. وتسميه الكنيسة: "العظيم الأنبا أنطونيوس".
أتراه حقًا في هذه النقطة، أعطى أم أخذ؟!
* ماذا ترك أيضًا لأجل الله؟ أتراه ترك الكهنوت؟
فلم نسمع أنه نال من درجات الكهنوت أو رئاسة الكهنوت...
ولكن هوذا أولاده صاروا بطاركة وأساقفة. بل أن البابا البطريرك في أيامه (القديس أثناسيوس الرسولي) كان أحد أولاده الروحيين. وجميع بطاركة العالم يسجدون في مواضعه المقدسة ويطلبون بركاته...
وكل رتب الكهنوت، مهما علت، تطلب في القداس الإلهي صلوات الأنبا أنطونيوس، وتتشفع به الكل يعتبرون أنفسهم أولاده...
صدقوني، لو أكتشف قطعة قماش صغيرة، ثبت أنها من ثوب للأنبا أنطونيوس لتنافس عليها كل بطاركة العالم وكهنته ورهبانه.
ترك الأنبا أنطونيوس الكهنوت ورئاسته. فصار كل رجال الكهنوت من أولاده. أتراه في ذلك أعطى أم أخذ؟!
حقًا أن الله يعطى أكثر مما يأخذ، بما لا يُقاس:
يأخذ حبة قمح، ليعطيك سنابل مملوءة قمحًا.
يأخذ نواة بلح، ليعطيك نخلة، تحمل آلافًا من ثِمار البلح.
وللأسف، البعض يحجمون عن العطاء. تطلب الكنيسة من أم أن تعطى أبنها للرهبنة أو الكهنوت، فتبكى وتمرض كأن كارثة ستحدث!
تعجبني جدًا في الأمهات، القديسة حنة أم صموئيل النبي. لم تنجب أبناء. ولما وهبها الرب صموئيل، أعطته للرب وكان وحيدها! فأعطاها الرب أولادا آخرين كثيرين، لعلكم لا تذكرون أسماءهم (1صم 1: 22)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أما الابن الذي أعطته للرب فهو الوحيد الذي خلد أسمه، وعرفت هي به أنها "أم صموئيل".
أعط أذن للرب، وسيرد لك أضعافًا، دون أن تطلب أو تنتظر.
الأنبا أنطونيوس أعطى حياته للرب، وليس فقط أملاكه. فماذا حدث؟
أعطاه الرب بدلًا من هذه الحياة الأرضية، حياة روحية خصبة. حياة أبدية مثمرة في ملكوته، أعطاه أيضًا حياة أبنائه...
بل أن الأنبا أنطونيوس ذاته، تَحَوَّل إلى رمز...
أصبح ليس مجرد شخص، وإنما صار رمزًا، رمزًا لحياة الوحدة والصلاة والتأمل والزهد والنسك، رمزا لحياة الرهبنة بكل ما فيها من فضائل وروحانيات. وكما قيل في إحدى القصائد:
أنت رمزٌ لحياة طُهِّرَت اشتهَى الخالقُ يَوُمًا أن تَكُون
أصبح رمزًا لحياة الهدوء والسكون، رمزًا للحياة التي تتخلى من الكل لكي ترتبط بالواحد، الحياة السامية المقدسة التي لا تنشغل بتفاهات العالم وكل متعه، لأنها تفرغت لله وحده...
أعطى راحته وهدوءه، وتعرض لحروب الشياطين وإيذائهم...
بالتخويف، بالضرب، بالتشكيك، في صورة وحوش، في صورة نساء، بأصوات مرعبة، في وحدة بلا أنيس...!
ولكن الله أعطاه الاحتمال، والقوة، والانتصار، وعدم الخوف، وأعطاه سلامًا داخليًّا عجيبًا، وأعطاه مهابة روحية، بحيث صارت الشياطين هي التي تخافه وترتعب من قوته الروحية، صارت له موهبة إخراج الشياطين. أتراه في كل ذلك أعطى أم أخذ؟!
* كذلك في تَرْكهُ العمران وسكناه القفر، هل أعطى أم أخذ؟
يبدو ظاهريًا أنه ترك بهجة العمران، ودخل في وحشة القفر. من أجل الرب. ولكن الرب جعل القفر عامرا بهذا الملاك الأرضي. وحول البرية إلى سماء، كواكبها هم هؤلاء الملائكة الأرضيون. وصار هذا القفر مكانا مقدسا يأتيه الناس من أقاصي الأرضي ليتبركوا حتى بترابه، وصار جبل انطونيوس جبلا مقدسا وبرية انطونيوس صارت برية مقدسة. وكل شبرا داسته قدماه، باركه الرب ببركه خاصة. وفجر له في القفر عين ماء. هل حقًا أعطى أم أخذ؟! إن الناس يشتهون بركة بريته أكثر من كل مباهج العمران...
الله يعطينا طبعًا أكثر مما يأخذ منا. ولكن...
ولكن المهم أن نبدأ نحن بالعطاء. ولا نفكر حينما نعطى أننا نعطي. وأيضًا لا نفكر أننا سنأخذ عوضًا...
إن مَنْ يجعل علاقته بالله علاقة طلب مستمر وأخذ، هو إنسان متمركز حول ذاته. أما الإنسان الروحي، فأنه يعبر عن حبه لله، بالبذل المستمر، ويقول للرب: "من يدك أعطيناك" (1 أي 29: 14). بل في تقديمه شيئاٌ لله، يشعر بتفاهة ما يقدمه، إذا ما قورن بما أخذه منه.
هوذا مثل من خارج الرهبنة، هو موسى النبي:
لا شك أنه ترك قصر فرعون، و"أبى أن يدعى أبن ابنة فرعون"، و"ترك كل خزائن مصر"، وصار راعي غنم في البرية... تراه خسر أم كسب؟!
لقد ترك الإمارة، فإذا بالرب يقول له: "جعلتك إلها لفرعون" (خر 7: 1). وإذا بفرعون يتوسل أكثر من مرة إلى موسى، طالبا منه أن يصلى عنه، الضربات. وكان واضحا أن موسى، في موقف أقوى من فرعون... ثم صار موسى قائدًا لشعب بأسره، وأصبح رجل معجزات، يشق البحر، ويفجر من الصخرة ماء. لا شك أن موسى قد أخذ أكثر مما أعطى، بما لا يقاس.
إن علاقتنا بالله هي علاقة أخذ مستمر، بلا عطاء:
هل تقول أنك تعطى الله وقتا للصلاة؟ كلا، إنك لا تعطى وقت الصلاة بل تأخذ بركة ونعمة، وتنال عملا من الروح القدس داخلك، وبركات لا تحصى.
الله أعطاك أسبوع عمر، وأنت تقدم له يوما من هذا الأسبوع الذي وهبك إياه، فهل أنت تعطى؟! كلا بل أنت تأخذ بركة هذا اليوم. وكما يقول الكتاب أن: "السبت قد أعطى للإنسان" (مر 2: 27).
القديس أنطونيوس، حينما أعطى حياته لله، لم يكن يفكر إطلاقًا أنه سيأخذ كل ما أخذه، وما جال ذلك بفكره.
وفي نفس عملية العطاء بالنسبة إليه، كانت عملية أخذ:
أخذ فيها بركة الجلوس مع الله، وبركة حياة السكون والتأمل. وأخذ فيها بركة هذا الطقس الملائكي. وأخذ النعمة الكبرى التي عملت فيها حتى استطاع أن يصمد في الوحدة.
إنه لم يقل إطلاقًا: "سأعطي الله صلواتي". بل كان شعوره: أريد أن أتمتع بالله والوجود معه، وأن يعطيني الله هذا الشرف وهذه المتعة، متعة الوجود في حضرته.
شعور الإنسان بأنه يعطي الرب، شعور خاطئ روحيًا:
فنحن باستمرار نقترب إلى الله، لكي نأخذ...
ثم، من نحن حتى نعطى الرب؟! ومن هو الرب الذي نعطيه؟
الله مالك السموات والأرض، وخالق السموات والأرض، وصاحب كنوز النعم التي لا تحد ولا تفرغ... هل من المعقول أننا نعطيه؟!
الأرملة التي أعطت رجل الله إيليا حفنة دقيق وقليل زيت، هل أعطت أم أخذت؟ انظروا، هوذا: "كوز الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص "طول مدة المجاعة (1مل 17: 14).
وهكذا الأنبا أنطونيوس، علمنا أن الحياة الروحية هي أخذ دائم من الله، أخذ بركة، ومتعة، في كل عمل روحي.
ولو لم يكن القديس أنطونيوس، يأخذ متعة روحية، في كل أيام حياته في البرية، أتراه كان يستطيع الحياة في القفر؟!
لو لم يكن يأخذ نعمة وقوة، أتراه كان يستطيع مقاومة كل حروب الشياطين، في كل عنفهم وكل حيلهم..؟!
إنه كان يعيش جوار النعم كلها، يغترف منه بالليل والنهار، نعمة، وقوة، وبركة، ومتعة روحية...
كان ممكنًا للشاب أنطونيوس، بالغِنَى الكثير الذي ورثه، أن يتعلم، ويأخذ من العالم معرفة وعلما وشهادات دراسية.
ولكنه من الله أخذ معرفة عميقة، ما كان ممكنا للعالم أن يعطيها... معرفة كانت تذهل كل فلاسفة وعلماء عصره...
وكان الناس يأتون من أقاصي الأرض، لكي يسمعوا من فمه كلمة منفعة، أو كلمة حياة، يخلصون بها...
إنها كلمات أخذها من الله، لها عمقها، ولها قوتها وفاعليتها وتأثيرها، وليست معرفتها من النوع الذي يعطيه العالم.
لقد فَضَّل أن يعيش في جهالة مع الله، تاركا علم العالم." فأعطاه الله فما وحكمة" (لو 21: 15). وأعطاه علما يفوق الكل فانذهل علماء الأرض من هذا (الأمي). فهل الأنبا أنطونيوس أعطى أم أخذ، وهوذا العالم كله يستفيد من تعاليمه...
ولأنه رفض من أجل الله معرفة العالم، أعطاه الله علما روحانيًا، علمًا إلهيًا... أعطاه علم معرفته...
ليس في الأمور النسكية فقط، وإنما حتى في اللاهوتيات أيضا وقد أفحم الأريوسيين لما نزل إلى الإسكندرية، وكان لكلماته تأثير عميق. ويعتبره العلماء أستاذا للقديس أثناسيوس...
أن الله حينما يضع كلمة في فم إنسان، يزود هذه الكلمة بقوة وتأثير وفاعلية، لا يستطيع أحد أن يقاومها...
كان الأنبا أنطونيوس جهازًا جيد التوصيل لكلمة الله، ولنعمة الله، ولبركة الله، وللسلام الممنوح من الله...
كان إنسانًا يأخذ من الله، ويعطى للناس، نفس القوة...
لقد فرحت السموات، لما وجدت على الأرض هذه الآنية المختارة، التي تستطيع أن تحمل نعمة الله للناس، وفي نفس الوقت تحتفظ ببساطتها وهدوئها، دون أن ترتفع، ودون أن تنتفخ...
ولم تكن كلمات هذا القديس فقط هي التي تفيض نعمة، وإنما كانت حياته أيضا كذلك، وكانت هكذا ملامحه.
كان كل إنسان يرى الأنبا أنطونيوس، يحب أن لا يفارقه. كان وجهه يفيض بركة، وحديثة يفيض نعمة، وحياته تفيض روحا... لذلك لا نعجب لتلمذه الذي قال له: [يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبي..].
بالنسبة إلى الله، كان القديس أنطونيوس يأخذ باستمرار...
وبالنسبة للناس، كان هذا القديس يعطي باستمرار، كسيده...
ولقد أعطاه الله الكثير، لما زهد كل شيء، لأجله...
أعطاه موهبة المعجزات والآيات والعجائب، فكان يشفى المرضى، وكان يخرج الشياطين... وكان الناس يقصدونه لا من أجل المعرفة الروحية فقط، والبركة، وإنما أيضًا لأجل معجزاته.
هل هذا يقارن بما تركه من مال أو جاه أو أهل؟!
إنه لما أغمض عينيه عن المال، فتحهما الله للرؤَى السمائية:
فكم من مرة رأى ملائكة، وكم من مرة تحدث معهم؟!
لقد ظهر له ملاك يشرح له كيف يصلى ويعمل ويقاوم الملل. والملاك هو الذي سلمه قلنسوة الرهبنة...
وفي إحدى المرات رآه تلاميذه ناظرًا إلى السماء وساهما، فعرفوا أنه رأى شيئًا، فسألوه. فأخبرهم عن نياحة الأنبا آمون أب جبل نتريا، إذ رأى روحه يزفها الملائكة بالتهليل إلى السماء.
طوباك أيها القديس الأنبا أنطونيوس، إن عينيك اللتين رفضتا أن تنظرا إلى المال، وهو ملقى على الرمال، صارتا تنظران الملائكة وأرواح القديسين، أيها البار المفتوح العينين... وماذا أيضا؟
قال القديس الأنبا أنطونيوس: [أبصرت مرة فخاخ الشيطان مبسوطة على الأرض، فألقيت نفسي أمام الله وقلت: يا رب، مَنْ يفلت منها؟. فأتاني الصوت من السماء "المتواضعون يفلتون منها"]..
طوبى لهاتين الأذنين اللتين أغلقتهما أمام أغاني العالم وطربه وأحاديثه، فاستحقتا أن تسمعا صوت الله في هذه المناسبة وغيرها، وأن تسمعا تهليل الملائكة وهم يحملون روح الأنبا آمون...
حقًا، كلما نترك شيئًا لأجل الله، نأخذ أضعافًا، وبنوعية أفضل، "ليس بكيل يعطي الروح" (يو3: 24) إنه يعطي بلا حدود...
إن الذي ترفض من أجله خزائن العالم، يفتح أمامك خزائن السماء والمواهب الروحية، كما حدث للقديس الأنبا أنطونيوس، الذي ترينا حياته، مقدار عمل الله في النفس البشرية...
لقد ترك الزواج والنسل الجسدي، انظروا عدد وحلاوة أولاده:
من أولاده القديس مقاريوس أبو الإسقيط، والقديس الأنبا آمون أب جبل نتريا، والقديس ببنوده رئيس أديرة الفيوم، والقديس إيلاريون مؤسس الرهبنة في سوريا وفلسطين. ومن أولاده الأنبا بولس البسيط، والأنبا بيساريون، والأنبا سرابيون، والأنبا شيشوي... وكثيرون...
حقًا "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد" وسعى خيامك لأن أولادك يصيرون أكثر من ذات البعل... (أش 54: 1).
إنني لا أستطيع أن أدخل في جزيئات، وأقول أن الأنبا أنطونيوس ترك من أجل الله مالًا، أو أرضًا، أو وقتًا، أو زواجًا أو أولادًا...
أنما هو أعطى الله الحياة كلها، كذبيحة طاهرة قدامه. فأخذ الله هذه الحياة، وقدسها وباركها وزودها بالمواهب، وأعطاها للعالم.
عندما يقول الله: "يا ابني، أعطني قلبك" (أم 23:26)، هل تظنون أنه يريد أن يأخذ هذا القلب؟ كلا، بل هو يريد أن يملأ هذا القلب حبًا وبركة وبرًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويريد أن يأخذ هذا القلب فيطهره من كل خطية، ويجعل روحه القدوس يسكن فيه... كمن يقول لك: "أعطني جيبك الفارغ لأملأه خيرات". أهو يأخذ أم يعطى؟
عندما تعطي الله قلبك، إنما تعطي فراغك، والله يملأ...
تعطي ضعفك وتأخذ قوة الله. كمن يعطى العشور، لتفتح له كوى السماء، ويفيض اله عليه حتى يقول كفانا كفانا (ملا 3: 10).
تقدم لله، أعطه إرادتك، ليعطيها قوة، ويرجعها إليك منتصرة...
أتكون إذن تعطى أم تأخذ؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/anthony/gave.html
تقصير الرابط:
tak.la/3hhn6j5