كان بيلاطس البنطي فظًا قاسيًا جشعًا، ولهذا لم يدم السلام بينه وبين اليهود، وبيلاطس هذا هو الوالي الخامس على اليهودية منذ أن أخضعها بومبي للحكم الروماني سنة 63 ق.م وصيرها مستعمرة رومانية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى، وكان اختيار الوالي يتم غالبًا من رتبة الفرسان، حيث يقتصر عمله على ضبط المقاطعة وحفظها من أعمال الشغب، بالإضافة إلى تحصيل الجزية لصالح الإمبراطورية، وهكذا اُختير بيلاطس الذي انحدر من أسرة محاربة، فخرج للدنيا فارسًا، وانخرط في جماعة الفرسان، وخدم في ألمانيا تحت إشراف "جرمانيكوس"، وعندما انتقل إلى روما التقى بـ"كلوديا بروكلا" حفيدة الإمبراطور "أوغسطس قيصر"، فوقعت في حبه وتزوجت به، وكلوديا هذه ابنة غير شرعية لكلوديا ابنة أغسطس قيصر وزوجة "طيباريوس قيصر"، فكان لزواج بيلاطس من كلوديا الفضل في تعيّنه واليًا على اليهودية والسامرة سنة 26م، وكان رئيسه المباشر هو الحاكم الروماني لسوريا، وحصل بيلاطس على امتياز لم يحصل عليه غيره من الولاة الرومان إذ سُمح له باصطحاب زوجته معه إلى قيصرية، غير أن بيلاطس هذا كانت تنقصه الفطنة والحنكة السياسية.
كان يجلس في هذه الليلة الباردة أمام المدفأة، يتسامر مع زوجته كلوديا صاحبة الفضل في وصوله إلى هذا المنصب.
كلوديا: بيلاطي... لماذا لم ننزل هذا العام في قصر هيرودس، فإنني كنت أفضل الإقامة فيه عن هذه القلعة الكئيبة التي تموج بالضباط والجنود.
بيلاطس: لقد أردت تقديم خدمة جليلة لهذا الشعب الجاهل، فأحضرت مهندسًا من الإسكندرية وآخر من أنطاكية، لوضع تصميمات لمشروع المياه النقيَّة، لمد أورشليم بكميات وافرة من المياه المتوفرة بالينابيع جنوب المدينة... بدأ العمال في شق القناة من بركة سلوام إلى داخل المدينة نحو خمسة وعشرين ميلًا، وعقدتُ عدة اجتماعات مع أعضاء السنهدريم للتصرف في التمويل اللازم، ولاسيما أنني أُمهد أيضًا عدة طرق لخدمة المدينة، منها الطريق الساحلي والطريق الآخر الذي يصل بين الأردن وأريحا، وأنشأت عدَّة حمامات في السامرة التي لم يكن بها حمامًا واحدًا، ونظير هذه الأعمال العظيمة كان من المفروض أن يقيم لي هذا الشعب تمثالًا في وسط أورشليم، ولكنهم لم يلقوا بالًا ولم يهتموا بتدبير التمويل اللازم بحجة أن المياه من مطالب الجسد... فلماذا إذًا الاغتسالات الكثيرة التي يقومون بها..؟! في هيكلهم يا كلودي إناء كبير يضعون فيه المياه اللازمة لتنظيف الذبائح، ولذلك قلت في نفسي مادامت المياه تُستخدم في الهيكل، فعلى الهيكل تحمل عبء التمويل، ولكنهم اسهجنوا قولي هذا... طلبت منهم قرضًا على أن يتم سداده من ضريبة تُفرض على سكان أورشليم لمدة عام فرفضوا أيضًا... كان أحد أحبارهم متحمسًا لمشروع القناة فهجم عليه خمسة من الإرهابيين ومزقوا جسده بالسكاكين، ولذلك لم يكن أمامي حل آخر.
كلوديا: وما هو الحل الذي رأيته يا بيلاطس؟
بيلاطس: تتبعت أخبار ضريبة الهيكل التي تفرض على يهود الشتات في آسيا ومصر والفرات، وللأسف فقد وصلت جباية مصر إلى الهيكل دون أن أتمكن من وضع يدي عليها، أما جباية آسيا فقد احتجزتها في قيصرية، وأمرت "ماركيوس" أن يهاجم ضريبة الفرات متى وصلت إلى أورشليم، وبدلًا من إدخالها للهيكل يدخلها إلى هذه القلعة، وأحسن ماركيوس التصرف، إذ أتم هذه المهمة بدون إزهاق روح واحدة، وبهذا حصلنا على المال الوفير مع كثير من الحُلي الذهبية والمجوهرات التي أرسلها يهود الشتات لتزيّين الهيكل.
كلوديا: يا لك من داهية يا بيلاطي!!
بيلاطس: ولكن هؤلاء اليهود الأغبياء لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل أثاروا حشدًا كبيرًا لاسترداد الجباية، ولكنني سبقت وأعددتُ العدة لمثل هذا الموقف، حيث ضاعفتُ الحراسة على هذه القلعة، كما دفعتُ بنحو ألف رجل من رجالي بملابس مدنيَّة يخفون سيوفهم بين طيات ملابسهم، وصاروا يهتفون مع الهاتفين ضدي، وعندما طلَّلت عليهم من البوابة وحاولت أن أُفهمهم أن هذه الأموال ستعود إليهم في شكل خدمات، وإن المياه النقيَّة ستصل إلى عقر مدينتهم لأول مرة. ثم أمرتهم بالانصراف، ازدادوا صراخًا، وراحوا يقذفون القلعة بالأحجار، ويقذفونني بأفظع الشتائم، ويصبون عليَّ اللعنات، ولم يكن هناك مفرًا من المواجهة، فأمرت بدق الطبول وإذ برجالي المندسين بينهم يشهرون سيوفهم وينقضون عليهم، فصُدموا وأصيبوا بذعر كبير، وركضوا يحتمون بالهيكل، فأمرت رجالي بالكف عنهم بعد أن سقط منهم قتلى كثيرون.
كلوديا: يا لك من داهية يا بيلاطي!!
بيلاطس: جاء حنان وقيافا يطلبان مقابلتي، فرفضت لقاءهم لأنهم هم الذين أثاروا هذه الجموع ضدي، وتسببوا في هذه المذبحة، فأرسلوا وفدًا يشكونني إلى القيصر... أعلنت قانون الطوارئ في أورشليم وحظرت التجول ومنعت الاجتماعات المشبوهة، وعندما قبضنا على أحد شبابهم المتهور، وكان شابًا عنيدًا قوي الحجة جهوري الصوت قد أتى من طرسوس، نصحناه بالبعد عن هذه المهاترات حتى لا يُعرّض نفسه للموت... قبضنا أيضًا يا كلودي على عدة فرق من الشباب الطائش الذين كتبوا على جدران المنازل والقلعة عبارات مستفزة ضدي وضد القيصر.
ثم وفد الكثير من يهود الجليل إلى أورشليم، وعندما علموا بما كان من أمر الجباية ومصادرتها احتجوا وثاروا ثورة عارمة، وعندما صاروا يهتفون أمام هذه القلعة أرسلت إليهم مُحذّرًا، ولكنهم لم يكفوا عن بذائتهم... أمرتُ الجنود فأعملوا فيهم السيوف، وعندما هربوا إلى فناء الهيكل كان رجالنا أسبق منهم إذ سلكوا السرداب من القلعة وظهروا في فناء الهيكل... كان مع الجليليين بعض الحيوانات التي سيقدمونها ذبائح، فاختلطت دمائهم بدماء ذبائحهم... أما من نجا منهم فقد عاد إلى الجليل في نفس اليوم يخبر ملكهم أنتيباس بما كان، فغضب أنتيباس مما حدث، ولذلك نحن يا كلودي هذا العام في هذه القلعة ولم نذهب لنقيم في قصر هيرودس مثل كل عام، مع أنني عندما علمت أنه حلَّ في أورشليم أرسلت إليه بعض الجنود لحراسة قصره.
كلوديا: بيلاطي... لماذا لا تحاول أن تكون سياسيًا أكثر من أن تكون عسكريًا حتى تتجنب شكاوي اليهود؟
بيلاطس: إن هذا الشعب يجهل ما هو لخيره يا كلودي... لقد بلغ سكان المدينة نحو خمسين ألفًا، وفي الأعياد يصل أعدادهم إلى مئات الألوف، فمن أين لهم بالمياه التي تكفيهم ليشربوا ويغتسلوا... إنني فكرت في مصلحتهم، واعتبرتُ مشروع المياه هذا مشروعًا قوميًا يجب أن يُموّله الشعب الذي يستفيد منه، ولذلك فعلتُ ما فعلتُ.
كلوديا: لكنك يا بيلاطي تفرح بإذلالهم وكسر أنوفهم... ألاَّ تذكر مشكلة البيارق؟ وكيف حاصرونا في قيصرية لعدَّة أيام؟
وهنا أقبل أحد الحراس يخبر الوالي بأن قيافا رئيس كهنة اليهود في انتظاره أسفل القلعة...
بيلاطس: وماذا يريد في هذه الساعة من الليل..؟! دعه ينتظر...
ومدَّ بيلاطس ساقيه وأسند رأسه للخلف وأستمر في حديثه مع زوجته... أوه... ماذا كنت تقولين يا كلودي؟.. مشكلة البيارق...
إنني كنت سياسيًا بارعًا فيها، وأنتِ تعلمين أنني أصدرت أوامري بدخول البيارق وإقامتها على أسوار القلعة ليلًا، وفعلًا دخل الجنود تحت ستار الليل يحملون الألوية التي ترتفع فوقها صور ثلاثة من القياصرة وهم طيباريوس قيصر، وجدكِ أوغسطس قيصر ويوليوس قيصر، ووضعوها فوق أسوار القلعة، وفي الشرفات، ومن الطبيعي أن تُرى من الهيكل... كان ذلك عن قصد حتى يرونها ولا ينسون أنهم تحت الحكم الروماني العظيم، وعليهم أن يخضعوا لسطوة القيصر وممثله الشرعي الذي هو أنا، ويكفون عن عنادهم وهياجهم وثوراتهم... لقد قصدت كسر أنوفهم التي طالت وشمخت...
ومع بزوغ نور الصباح يا كلودي كان أحد كهنتهم يستعد لتقديم ذبيحة الصباح، وإذ به يلمح تلك البيارق فصرخ صرخة مدوية كأن خنجرًا اخترق قلبه، ولم يمض وقتًا طويلًا حتى كان قيافا يدق باب القلعة مطالبًا ماركيوس بإنزال البيارق وإبعادها عن مرمى البصر... أجابه ماركيوس بأدب جم موضحًا له أن الأمر ليس في سلطته إنما في سلطة الوالي ذاته، فرد عليه قيافا بحدة، وأعلمه أن مجلس السنهدريم عقد جلسة طارئة وقرَّر رفع الأمر إلى القيصر رأسًا بسبب هذه الاستفزازات.
وفي ساعات قليلة أحتشد الآلاف من رجال اليهود يحملون العصي والأحجار، يعلنون نقمتهم ليس على السلطات الرومانية فحسب، بل وعلى رؤساء كهنتهم، متهمين إياهم بالتسيب والتساهل معنا، فتصدى لهم قيافا وأعلمهم أنهم سيرسلون للوالي احتجاجًا شديد اللهجة، وسيرفعون للقيصر تقريرًا يطالبون فيه بتنحيتي، وطلب منهم ترشيح من يمثلهم لمرافقة وفد السنهدريم إلى قيصرية، فاستطاع قيافا بخبث أن يوجه ثورة الشعب ضدي وينجو هو وأقاربه...
وجاءوا إلى قيصرية... مسيرة تعد بالآلاف، حتى سدُّوا منافذ القصر والشوارع المؤدية إليه كما أبصرتِ بعينيكِ يا كلودي، وشعرت أن أقل تحرش بهم كفيل بوقوع مذبحة رهيبة... التقى بي حنان وقيافا واليعازر بن حنان يلتمسون الخروج من المأزق حرصًا على مراكزهم وسط الشعب الهائج إلى الدرجة التي يستحيل ضبطها، وأكدوا القول بأن قيصر روما يتفهم أمورهم الدينيَّة، وقد أوصاني بعدم إستفزاز الشعب في عقيدته... طلبت من قيافا أن يصرف الشعب لحين التصرف في الأمر، ولكنه قال إن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يهدئ من روع الشعب على أمل إصلاح الأوضاع سريعًا... ظلت الجماهير قبالة القصر كما رأيت يا كلودي عدة أيام، وهم يزدادون إصرارًا وصلابة، فلو أنني أذعنت لمطالبهم وأمرت رجالي بإنزال البيارق لصرتُ لقمة سائغة في أفواههم، ولاتهموني بالضعف والجبن، ولو كنت قد استخدمت القوة فإن الأمر لن يصل هذه المرة إلى حد إلقاء اللوم عليَّ من قبل القيصر، بل قد يصل الأمر إلى إقالتي من منصبي.
وعندما حاولت أن أتفاوض معهم لم يكفوا عن الصراخ وصاروا مثل مجانين، بينما أحاط بي كهنتهم كحزام أمان لي... أعطيت الإشارة لضباطي ليغادروا المكان مع قواتهم ليعلموا أنه ليس في نيتي استخدام العنف ضدهم، فهدأت ثورتهم بعض الشيء... وتحدثت إليهم موضحًا بأن القيصر لا يرغب في التدخل في شئونهم الدينية، وأنني أنا شخصيًا أحترم مشاعرهم، وإن رفع البيارق مجرد إجراءًا إداريًا كما هو متبع في كل مكان يخضع لسلطة قيصر، وطالبتهم بالانصراف، فعادوا إلى جنونهم وقذفوني بأبذأ السباب والشتائم، ولم أتمالك أعصابي، وكان لابد من الرد السريع والرادع، فأعطيت الإشارة لجنودي فانطلقوا يشهرون أسلحتهم وانقضوا على الجموع، ولكن الأمر الذي أثار ذهول الجنود أن واحدًا من اليهود لم يتحرك من مكانه، وأيضًا لم يظهروا أي نوع من المقاومة... لم يرتعد أحدهم من بريق السيوف، بل انحنى أحد قادتهم أمام أحد الجنود يطالبه بأن يذبحه ذبح الشاه صارخا " الموت أهون علينا من رؤية هذه البيارق تشرف على الهيكل " وأصاب موقفهم هذا جنودنا بالشلل التام، وعندئذ أسرعت بالتدخل... أشرت لرؤساء كهنتهم أن يتبعوني، وأبلغتهم كم كان تأثري لهذا المشهد الرائع... شعب يموت عن عقيدته... فشكرني رؤساء الكهنة، وأنتِ تعلمين يا كلودي نهاية القصة الأليمة... أصدرت أوامري بإنزال البيارق، ومع هذا فإن هيرودس أنتيباس قد أستغل هذه الفرصة وأبلغ القيصر بما كان مع شيء من المبالغة والتضخيم، وقد أرسل إليَّ القيصر يشكرني، فهو يعرف كفائتي في التغلب على مثل هذه المشاكل، ومع ذلك فإنه وبخني على إثارة مشكلة بلا داعٍ في منطقة بهذه الحساسية من العالم...
كلوديا: أتمنى لك يا بيلاطي حظًا سعيدًا... لتعطيك الآلهة حكمة وحنكة، ولا تنسَ الدروس الثلاث: جباية الهيكل، والبيارق، ومشكلة اللوحات المنذورة التي أقمتها في قصر هيرودس وهو على مقربة من هيكلهم، فلم يطيقوا أن يروا التقدمات تقدم للآلهة الرومانية بجوار معبدهم، مما دفعهم للشكوى للإمبراطور طيباريوس قيصر...
بيلاطس: نعم يا كلودي... لن أتغافل توبيخ قيصر، وأعلم تمامًا أن الحادثة الرابعة مع هذا الشعب اليهودي الملعون ستكون بمثابة النهاية لأيامي في منصبي هذا.
كلوديا: لقد بذلتُ مجهودًا كبيرًا في تسوية المشاكل السابقة، والفضل كله يرجع إلى سيدات روما من أسرتي الإمبراطورية.
بيلاطس: أعلم هذا يا كلودي... لقد قررت الحفاظ على منصبي، ولن أهتم بأحد قط أكثر من نفسي، حتى لو كان القيصر نفسه...
وهكذا تغافل بيلاطس قيافا الذي كان ينتظره عند باب القلعة. أما قيافا الذي اعتراه القلق فقد أخذ يصرف وقته في التأمل في هذه القلعة تارة، وفي الهيكل تارة أخرى، هذه القلعة الجاثمة على صدر الهيكل، والتي بناها هيرودس الكبير -محل قلعة حنانئيل التي عاصرت أرميا النبي- بطول مائتي متر وعرض مائة متر وارتفاع يزيد عن خمسة وعشرين مترًا، وأسماها باسم صديقه الروماني "مارك أنطوني" ولذلك عُرفت باسم "قلعة أنطونيا" وينحدر من هذه القلعة الملعونة سردابًا يصل إلى رواق الأمم بالهيكل، ففي حالات اندلاع الشغب يندفع الجنود الرومان في ثوان إلى فناء الهيكل، وبالقلعة أماكن تكفي لإقامة كتيبة رومانية كاملة بالدور الأرضي، بينما يقيم بالدور العلوي الوالي، حيث الصالات والأروقة المتسعة، أما عن أسوأ مكان في القلعة فهو السجن الصخري الرهيب الكامن مثل الجب أسفل القلعة.
ولكم يشق على الإنسان اليهودي الاقتراب من هذه الأماكن، أما دخولها فممنوع عليه منعًا باتًا لكي لا يتنجس، حتى أن بعض المجرمين والقتلة من اليهود الذين يقودهم حظهم العثر إلى سجن القلعة، لا يشغلهم ما سيلاقونه من أهوال بقدر ما يشغلهم الاشمئزاز من دخول هذا المكان النجس، وكأن جرائمهم الشنيعة لا تدنسهم بقدر ما تدنسهم هذه الأماكن التي يسكنها الأمم الغلف...
أما الهيكل فيظهر في هذه الأيام المقدَّسة مزينًا بأبهى صوُّره، فأضواء المصابيح الكثيرة التي تضئ رواق سليمان يَلمع ضوءها بالخارج، والنقش الضخم لعنقود العنب الذهبي على جدار الهيكل الخارجي ينكسر عليه ضوء القمر الفضي الهادي فتراه غاية في الروعة، ولكن توتر قيافا الزائد يمنعه من التمتع بهذا المنظر الرائع... كيف يتغافله الوالي وهو رئيس الكهنة المبجل، ويتباطئ عليه إلى هذه الدرجة؟! ولكن هذا هو بيلاطس، الذي لن يتغير سلوكه حتى يُقال من منصبه... إنه يتحيَّن الفرصة لإذلال اليهود ورئيس كهنتهم، واضطر قيافا إلى دفع المزيد للحارس ليعود إلى بيلاطس ثانية.
وجاء الحارس إلى بيلاطس الذي كان منهمكًا في الحديث مع زوجته كلوديا، يخبره بأن رئيس كهنة اليهود مازال مرابضًا بباب القلعة، ويود لقائه في أمر عاجل ومُلح، فنهض بيلاطس وهو يقول: ماذا يظن قيافا؟! وهل الوالي الروماني بمسئولياته الجسيمة وانشغالاته الكثيرة رهن إشارته، يطلبه في أي وقت يشأ فيجده تحت تصرفه؟! وهبط بيلاطس درجات السلالم الرخامية إلى مدخل القلعة حيث يقف رئيس كهنة اليهود، الذي ما أن رأى طلعة بيلاطس حتى رسم ابتسامة صفراء عريضة على شفتيه، قابلها بيلاطس بمثيلتها.
بيلاطس: ما الأخبار يا رئيس؟
قيافا: لا أشك يا سيدي إنك تتبعت أخبار يسوع الناصري، ودخوله إلى أورشليم يوم الأحد الماضي، وكأنه قيصر روما العظيم، ولاشك أنك تعلم جيدًا أنه أصبح مصدر الخطر الوحيد في هذه المدينة الآمنة، فقد يشعل نيران الثورة ضد كل شيء، ضدكم وضدنا، ولذلك رجوناك أن تقبض عليه وتحاكمه، ولكنك تركت الأمر لنا، والليلة نحن بصدد القبض عليه ومحاكمته أمام مجمع السنهدريم الموقر... لقد رصدت عيوننا يسوع في أحد منازل أورشليم، وهو في حالة نفسية متردية كما أخبرنا بذلك تلميذه يهوذا، وهو الآن في معزل عن الآلاف من أتباعه، ولذلك فنحن نضمن القبض عليه في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، دون أدنى خسائر في الأرواح.
بيلاطس: وما هو العائق إذًا يا رئيس؟
قيافا: أولًا نلتمس من سماحتك مساعدتنا في هذا الأمر، بإرسال أحد الضباط مع جنوده ليساعدنا في القبض على إنسان مارق خارج عن القانون.
بيلاطس: ليكن لك... وما هو الطلب الآخر؟
قيافا: بعد انتهاء محاكمته بمعرفة مجلسنا الموقر، نلتمس من سماحتكم التغاضي عن الإجراءات الإدارية، فلا يوجد وقت لتقديم اسمه وجريمته للحصول على تصديقكم أولًا قبل عرضه عليكم، فهذا الأمر يحتاج لعدَّة أيام، والوقت الآن مُقصّر والأيام شريرة، لذلك نأمل أن تعفينا من هذه الإجراءات الإدارية، والسماح بعرضه مباشرة عليكم.
تبسَّم بيلاطس ابتسامة حقيقية إذ شعر بسلطانه على هذا الشعب العنيد، وداعب قيافا قائلًا: ولكن كيف تقول عن هذه الأيام المقدَّسة لديكم أنها أيام شريرة؟
قيافا: طالما يسوع على قيد الحياة، فأنه كفيل بتحويل أيامنا المقدَّسة إلى أيام شريرة.
بيلاطس: اطمئن يا قيافا أن سيف العدالة الرومانية سيأخذ مجراه.
قيافا: هل يمكنني الحصول على وعد منكم للاهتمام بالأمر، وإنهاء المحاكمة في أقصر وقت ممكن، قبل فترة الأعياد؟.. إننا لا نقدر أن نتنبأ بما يمكن حدوثه؟ فقد يشعل أتباعه ثورة عارمة تأتي على الأخضر واليابس... علينا وعليكم...
بيلاطس: تقصد علينا وعليكم... الأخضر واليابس...
قيافا: المحصلة واحدة.
بيلاطس: اطمئن يا قيافا فإن العدالة الرومانية ستأخذ مجراها.
قيافا: معذرة سيدي، عند حضورنا صباح الغد لن نتمكن من دخول دار الولاية بسبب استعدادات الفصح، فنلتمس من سماحتكم الخروج إلينا.
وهز بيلاطس رأسه مبديًا موافقته على مضض...
وقفل قيافا عائدًا إلى من ينتظرونه على أحر من الجمر، وعاد بيلاطس إلى المدفأة حيث زوجته كلوديا، وهي كأي امرأة يدفعها الفضول لكشف المستور، ظلت في صمتها تنتظر أن يخبرها بيلاطسها بما كان، وتجاهل بيلاطس الأمر، وعاد يُكمِل حديثه الذي قطعه قبل لقائه بقيافا... أما كلوديا فدفعها فضولها للسؤال المباشر: بيلاطي... تُرى لماذا جاء قيافا في هذه الساعة من الليل؟!
بيلاطس: أنت تعرفين يا كلودي موضوع يسوع الذي يدعونه نبي ناصرة الجليل.
وتبسَّمت كلوديا وكأنها تسمع أخبارًا سارة، وقالت: لقد أقام العازر شقيق مريم ومرثا بعد موته بأربعة أيام... وبعد أن كان قد أنتن..!! تُرى ابن مَن من الآلهة هذا يا بيلاطي؟
بيلاطس: أنهم يريدون محاكمته.
كلوديا: وأي شر عمل..؟! ما هي الشكاية التي يقدمونها عليه؟.. أيحاكمونه لأجل إحساناته معهم ومعجزاته التي بلا عدد، وقد عمت الربوع؟!!
بيلاطس: هذا هو الشعب الجاحد... لا تفهمين كيف يفكر!! ولكن يسوع الذي كشف عورة رؤساء كهنتهم وبقية القيادات المتعصبة لن يفلت من براثنهم.
كلوديا: تُرى الذي شفى المرضى بكلمة من فيه، وأقام الموتى، يعجز عن حماية نفسه من هؤلاء..؟! وهل ستوافقهم على شرهم يا بيلاطي..؟! وهل ستيسر لهم ما تصبوا إليه نفوسهم الحاقدة؟!!
بيلاطس: كلاَّ يا زوجتي العزيزة كلودي... سأبذل قصارى جهدي حتى تأخذ العدالة الرومانية مجراها، على أن لا تؤثر هذه المشكلة على منصبي ومستقبلي.
كلوديا: أنني أذكر يوم رأيته مع الكساندر ضابط المخابرات ورجلك الأول... " لقد فوجئنا بحشد كبير من الناس يتدافعون أمامنا ويتدفقون في اتجاه البحر... ولم يلحظ وجودنا أحد منهم... وكان هؤلاء يهودًا من كل نوع ومعظمهم من الرجال الأقوياء المخلصين، كما كان بينهم بعض المرضى والمقعدين، منهم من كان يزحف ومنهم من حمله أصدقاءه المقربين، وكلهم كانوا يشيرون إلى قارب يسير بمحاذاة الشاطئ، في البداية ظننتهم غاضبين لكن الكساندر أخبرني أنهم ينادون على يسوع الذي كان هناك في القارب، ويرجونه أن يأتي ويُعلّمهم، وكانوا يتكلمون بالآرامية التي لا أعرفها... وعندما رسا القارب عند البيت الريفي رأيت الناس يندفعون بسرعة نحو الشاطئ، وأستأذن الكساندر للذهاب وراءهم، فطلبت منه أن يصحبني فذهبنا معًا. لا تخف فإن معنا حراسة كافية. بعد نصف ساعة وجدنا الشاطئ يموج بالجماهير، وكان يسوع واقفًا على ربوة عالية يعظهم ويُعلّمهم، وفي المؤخرة كانت هناك جماعة من وجهاء أورشليم، عندما رآهم الكساندر همس في أذني بأنهم جواسيس من أورشليم جاءوا يراقبون ويسمعون، ثم تركني ومضى ليتحدث معهم.
لقد رأيت الواعظ بوضوح، وهو شخص ملئ بالثقة في نفسه مترفع ومخيف. في البداية كان الناس في هرج ومرج، كما كانت هناك مقاطعة لكلامه ارتفعت بين الصفوف الخلفية التي لم تكن سامعة، ولكنه أسكتهم ببضع كلمات، وكأنه قائد يلقي الأوامر على رجاله فينفذون. وكان كلامه يدل على أنه واثق من أن الجميع سيذعنون له في كل ما يقول.
ثم بدأ حديثه هادئًا، وشيئًا فشيئًا رفع صوته حتى صار واضحًا ومسموعًا عند الجميع... وقليلًا قليلًا بدأ صوته يخفت حتى صمت في خشوع وكأنه لا يشعر بهذا الحشد الهائل الملتف حوله. فسرت همهمة بين الجماهير لكن في غير غضب وحاولوا التقدم نحوه إلى الأمام، وكان الكساندر شاخصًا إليه لا يقدر أن يحول بصره عنه لدرجة أنه لم ينتبه إلى أسئلتي التي كنت أوجهها إليه... ثم ألتفت إليَّ وقال أنه يجب أن يوافيكَ بتقرير.
وفجأة حدث شيء غريب إذ رفع يسوع يده وقال شيئًا بصوت عال، فتدافع الجميع نحوه ثم جلسوا كلهم على العشب في حلقة كبيرة من حوله فيما عدا أولئك الرجال الجواسيس - أنهم لم يتحركوا من أماكنهم وظلوا واقفين، وأنا واثقة من أنه سبق لي رؤية بعضهم يذهبون إلى السنهدريم.
بعد ذلك نادى يسوع على بعض الأشخاص الواقفين قريبًا معه فأحضروا له خبزًا كسره إلى كِسر... ثم أعطى الكِسر لهؤلاء الرجال وهم بدورهم راحوا يوزعون منها على الناس الذين راحوا يأكلون، بينما كان الواعظ يواصل الحديث، وكم تمنيت لو كنت أستطيع أن أفهم ما يقول... وعندما لاحظ الناس أنه على وشك ترك المكان هاجوا وماجوا والتفوا حوله. وكان بعضهم يحملون في أيديهم النبابيت والسكاكين والعصي، وراح بعضهم يصيح مهددًا، والبعض الآخر يبكي متنهدًا، بينما سقط كثيرون عند قدميه... وفي تلك اللحظة لم يكن الكساندر معي لأنه في شبه غيبوبة وسمعته يُردّد الكلمات {ملك... ملك إسرائيل... ملك اليهود. المسيا} ولا أعرف ما تعنيه هذه الكلمة الأخيرة (المسيا) لكنك تعرف معناها بلا شك...
وقد استطعت أن أُلاحظ أن يسوع كان يَرُدَ الجماهير عن نفسه ولا يصغى إلى أقوالهم، ثم أبعدهم عنه ببعض الكلمات والإشارات وأنا واثقة من أنه كان يوضح لهم أنهم قد إرتكبوا خطأً جسيمًا فيما فعلوا. أنه دائمًا عند رأيه... فأقام الراكعين عند قدميه وألزم الآخرين بإنزال أسلحتهم. وكان في ذلك اللحظة جريئًا وحاسمًا. ثم أخذ طريقه نحو البحر وحاول بعضهم منعه من الرحيل فلم يفلحوا، ولهذا بدت على وجوههم إمارات الخيبة والفشل، وعندما قلت لألكساندر أنه غضب عليهم لأنهم نادوا به ملكًا عليهم، أجابني أنه رفض أن يملك عليهم لعلمه أن هذا سيكون بداية النهاية له.
قبل أن يصعد يسوع أسرع إليه رجال أورشليم وتحدثوا معه حديثًا قصيرًا... وأعتقد أن هؤلاء كانوا متحيرين وربما خائفين أيضًا، أما هو فلم يظهر عليه أي أثر للخوف، فقد كان يتحدث كمن عنده الاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات والوقوف حتى في وجه العالم بأسره... وقد علمت أنهم كانوا يتوعدون يسوع لأن عيونهم كانت مثبتة عليه وهو في القارب... "(1).
وكان بيلاطس ينصت لزوجته باهتمام وهو يتصفح ملفًا ضخمًا بين يديه ثم أخرج إحدى أوراقه وقال: هذا هو التقرير الذي قدمه لي الكساندر، وقرأ منه " الأمر في الجليل متوقف على كلمة واحدة منه لكنه لا يقولها، والجميع هنا في حيرة من أمره حتى وهم منجذبون إليه. لقد شفى مرضى كثيرين من حالات يُصعب البت في صحتها، وكانوا الناس من حوله كالطين في يد الفخاري، لا أحد يعترض أو يعارض. لكن حدثت مصادمات بينه وبين كل من الكتبة والكهنة. فهو يهاجمهم ويهاجم ناموسهم (يقصد تقليداتهم) بعنف شديد، لقد كان مرعبًا ومسهبًا في أقواله ضدهم، وبهذا يهدم كل ما للكهنة من سلطان وتسلط على شعب اليهود، ولاشك في أن هذا سوف يثير حفيظتهم عليه، لأنهم لن يغفروا له هذا وسيقتلونه عندما يرون أن الجماهير قد بدأت تنصرف عنه، وتوجد دلائل كثيرة تشير إلى أن الناس قد بدأوا فعلًا ينقلبون عليه لأنه خيب آمالهم فيه وصدَّهم بشدة عندما ظنوه ملكهم الجديد ومخلصهم المنتظر، وعندما رفض أن يملك عليهم كطلبهم وتركهم ومضى عبر البحر راحوا يشيعونه بنظرات ملؤها السخط والغضب... أنه يهاجم السنهدريم "(2).
كلوديا: والآن جاء قيافا ليضع تقرير الكساندر موضع التنفيذ.
بيلاطس: وهذا ما علينا مواجهته غدًا يا كلودي...
وبعد إنتهاء الجلسة أوت كلوديا إلى فراشها، وصورة يسوع رجل الفضيلة والقوة لا تفارق مخيلتها... لماذا يحتج عليه بنو شعبه ويريدون أن يودعونه الموت؟! وظلت تذكر ما سمعته بالأكثر من يونا زوجة خوري وكيل هيرودس التي كانت تَّتبع خطوات يسوع... أنه يُجسّم الفضيلة في أسمى صورها... فلماذا يريدون أن يذبحوا الفضيلة؟!!
_____
(1) رسائل من بيلاطس البنطي إلى سينكا الفيلسوف الروماني - نقلها عن الإنجليزية جاد المنفلوطي ص 68 - 73
(2) المرجع السابق ص 74
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/with-him/water.html
تقصير الرابط:
tak.la/mwncg86