س 1: هل يستطيع العقل المحدود أن يحوي الله غير المحدود؟
ج: كان هناك ملكًا لا يؤمن بوجود الله، وطلب من أحد الأساقفة أن يُريه الله، فصعد به الأسقف وقت الظهيرة على جبل عال، وطلب منه أن ينظر إلى قرص الشمس، فلم يقدر الملك النظر إلى قرص الشمس، وقال للأسقف: هل تُريدني أن أفقد بصري لكي ما أرى الله، فقال له الأسقف: إن كنت لا تستطيع أن تحتمل بهاء إحدى مصنوعاته، فكيف تحتمل النظر إلى بهائه ومجده.
وبينما كان الفيلسوف أُغسطينوس مشغولًا بمحاولة إدراك ذات الله، وقد أجهد عقله كثيرًا، وعندمـا استسلم للنـوم نظر في حُلم طفلًا يلهو على شط البحر... لقد صنع حفرة صغيرة، وبدأ يأخذ بجردل صغير من ماء البحر ويضع في الحفرة حتى امتلأت وفاضت، والطفل لا يكُف عن محاولاته، وعندما سأله أُغسطينوس: ماذا تفعل يا ابني؟ أجابه الطفل: هل تساعدني يا سيدي في نقل كل ماء البحر إلى حفرتي هذه؟ فأجابه أُغسطينوس: لكن هذا من المستحيل يا ابني.
حينئذ سمع صوت يقول له: وهكذا يا أُغسطينوس عقل الإنسان المحدود يستحيل عليه أن يدرك ويحوي الله غير المحدود.
فقال "القديس أُغسطينوس": "إن عقل الإنسان المحدود لا يستطيع أن يحيط بغير المحدود أو يستوعبه، ولكن مع ذلك فإن الروح القدس الساكن فينا يمكنه وحده أن يُنير بصائرنا ويجعلنا ندرك حقيقة هذا السر". وقال "القديس باسيليوس الكبير": "إن عقلنا المفكر ضعيف، ولساننا أضعف، فمن الأسهل قياس البحر كله بقدح صغير عن أن ندرك عظمة الله غير المدركة بالعقل البشري" (2).
قال "صوفر النعماتي": " أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ، أمْ إلَى نِهايَةِ القَدِيرِ تَنتهِي؟ هُو أعلَى مِن السَّماوَاتِ فمَاذَا عَسَاكَ أنْ تَفعَلَ؟ أعْمَقُ مِن الهَاوِيَةِ فَماذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ وأَعرَضُ من البَحرِ" (أي 11: 7-9)، فكيف يحوي العقل المحدود الله غير المحدود؟!
إن كنا كثيرًا ما نقف عاجزين عن إدراك بعض فروع المعرفة مثل كيفية عمل الكهرباء، وإمكانات الكمبيوتر العميقة، ووسائل الاتصال الحديثة، مع أن هذه الأمور مادية محسوسة وهيَ من صُنْع الإنسان، فكيف يستطيع الإنسان أن يدرك الأمور الخاصة بالذات الإلهية؟ إنها أسرار تستعصي على العقل البشري، ولا يمكن أن ندرك منها إلا بمقدار ما أعلنه الله عنها، والأمر العجيب أن الله أعلن لنا هذه الأمور الإلهية بواسطة أُناس معظمهم من البسطاء الذين ليسوا من أصحاب الثقافات والفلسفات والمعارف العالمية، وقد أيدهم الله بعمل المعجزات العظيمة شهادة لصحة إعلاناتهم.
لذلك نحن نؤمن ونصدق هذه الإعلانات دون إقحام العقل أكثر مما ينبغي، ودون عناء البحث عن الأدلة المادية، فيقول "الفيلسوف ديكارت": "إن مسألة الإيمان بالله هيَ مسألة وعي لدى الإنسان قبل أن تكون مسألة دليل، وعي يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية، وعي متصل بهذا الوجود بل وقائم عليه"(3)، ولا يمكن أن نُخضع الطبيعة الإلهية للمقاييس البشرية العقلانية التي أضاعت سابليوس وأريوس ومقدونيوس... حقًا يا أحبائي من الخطورة أن نجعل مقاييس الطبيعة المخلوقة قياسًا للطبيعة الخالقة. إنما يعلن الله ذاته للمتواضعين والعطاش المشتاقين لمعرفته.
والحقيقة أن مقولة: "ربنا عرفوه بالعقل" لا تُمثل الحقيقة المُطلَقَة، وذلك لأن العقل يُخبرنا عن وجود خالق عظيم للكون، ولكنه يعجز عن إدراك عظم محبته وأبوته وعدله وقداسته ما لم يعلن لنا الله ذاته مثل هذه الأمور. وإن كان الإنسان يستطيع أن يفهم أعمال الله من خلال الخليقة، ولكن جوهر الله سيظل فوق مستوى العقل والتصوُّر، فيقول "البابا أثناسيوس الرسولي": "الله خارج كل شيء بحسب جوهره، لكنه في كل شيء بأعمال قدرته" (4)، ويقول "الكاتب جورج بتريل": "بالتأكيد فإن الطفل حديث الولادة يعرف من الكون وطرقه قدر ما يعرف أحكمنا عن سبل الله، الذي تمتد سيطرته فوق السموات والأرض، وفوق الزمان والأبدية(5).
والحقيقة أن اللغة البشرية عاجزة عن التعبير عن الأمور الإلهية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فيقول "القديس أُغسطينوس": "إننا عندما نتكلم عن الله، فإن اللغة البشرية توجد عاجزة عن التكلم عن الإلهيات"، وقال "القديس غريغوريوس أسقف نيصص": "في أي موضع نتكلم عن اللاهوت فإننا نجرحه. أي نجرح الله لأنه لا يوجد في اللغة البشرية ما يصف الله نفسه أو يُعبِّر عنه. فاللغة البشرية المحدودة لا يمكن أن تفي بحق عن المدلولات الكاملة الإلهية التي لله غير المحدود، ولذا فهيَ إزاء الكمالات الإلهية ليست إلاَّ تعبيرًا عما يستطيع البشر فهمه وإدراكه"(6). وهذا دعى البعض للقول بأن البحث في ذات الله هو نوع من الجهل والشرك، فقال "الخليفة أبو بكر": "سبحان من الجهل بذاته (يقصد ذات الله) فهو عين العلم"، كما قال: "إن البحث في ذات الله إشراك والجهل بذات الله إدراك"، وقال "الإمام الغزالي": "إذا استحال أن تُعرّف نفسك بكيف وأين فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الربوبية بأن أو كيف، وهو مقدس عن الأين والكيف" (7)، وقال "أحمد أمين": "إذا عجزنا في أنفسنا عن "مـا" دائمًا وعن "كيف" كثيرًا فكيف نستطيع أن نجيب عن "ما" و"كيف" في ذات الله وصفاته؟! (8) وقال "المشير أحمد عزت": "العجـز عـن إدراك سر الروح إدراك، والبحث عن كنه ذات الله إشراك" (9).
وقال "الشيخ محي الدين": "أعلم أن الحق تعالى لا يُدرك بالنظر الفكري أبدًا، وليس عندنا أكبر من ذنب الخائضين في ذات الله بفكرهم، فإنهم قد أتوا بأقصى درجات الجهل" (الباب ص 373) (10)، بل أن جوهر الله سيظل مخفيًا عنا حتى في الملكوت، فيقول "الأسقف كاليستوس": "لأن الله سر يفوق إدراكنا، فلم نعرف أبدًا جوهره أو كيانه الداخلي، لا في هذه الحياة ولا الدهر الآتي. فلو نحن عرفنا الجوهر الإلهي لتبع ذلك أننا نكون قد عرفنا الله بنفس الطريقة التي يعرف بها ذاته، وهذا مستحيل بالمرة، طالما أنه هو الخالق ونحن مخلوقين. لكن وبينما الجوهر الداخلي لله يظل إلى الأبد فوق إدراكنا، فإن طاقاته ونعمته وحياته وقوته تملآ الكون كله" (11).
_____
(2) الأسقف كاليستوس - الطريق الأرثوذكسي (ص 48).
(5) المرجع السابق ص15.
(6) نيافة المتنيح الأنبا يوأنس - إيماننا الأقدس ص 140.
(7) المرجع السابق ص 126.
(8) ضحى الإسلام جـ 3 ص 38.
(9) العلم والدين ص 150 أورده ثروت سعيد في كتابه حقيقة التجسد ص 185.
(10) أورده القس صموئيل مشرقي في كتابه حقيقة الثالوث ص 69.
(11) الأسقف كاليستوس - الطريق الأرثوذكسي ص31.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/trinity-and-unity/limited-mind.html
تقصير الرابط:
tak.la/dd8c9vc