س84 : مَن هو "هيرمان صموئيل ريماروس" أول من تجرأ على نقد العهد الجديد وشخص السيد المسيح؟ وكيف اخترع بدعة "يسوع التاريخ" و"مسيح الإيمان" رغم أنه مات ولم ينشر كتاباته؟ وما هو دور "ليسينج" في نشر أفكار ريماروس؟
ج : 1ــ "هيرمان صموئيل ريماروس" Herman Samuel Raimarus (1694 ـ 1768م) ألماني الجنسية وُلِد في هامبورج وتعلم في مدرسة "يوحنا يوم" العلمية التي كان والده يقوم بالتدريس فيها، ثم درس اللغات القديمة والفلسفة بجامعة ويتينبيرج سنة 1716م، ثم سافر لاستكمال دراسته في هولندا وإنجلترا سنة 1720، 1721م، وعمل أستاذًا للغة العبرية واللغات الشرقية في مدرسة لسييه الثانوية بمدينة هامبورج، ثم صار أستاذًا بجامعة Wismar، وألقى محاضرات في الفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية، وهو من فلاسفة القرن الثامن عشر وأول من تجرأ وهاجم العهد الجديد والسيد المسيح بهذه الطريقة النقدية، ومن أفكار هيرمان ريماروس:
أ - وُلِد يسوع يهوديًا وظل يهوديًا، ولادة طبيعية من أب وأم كسائر البشر، فأنكر ريماروس الميلاد المعجزي للسيد المسيح، كما أنكر أنه هو المسيا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وعند عماده من يوحنا لم يظهر الروح القدس كحمامة، إنما هذا تعبير كتبة الأناجيل عن روح العذوبة التي تكلم بها إشعياء النبي عن يسوع، وأعلن يوحنا المعمدان عن بدء مسيرة نسيبه يسوع، ويسوع هذا هو مجرد معلم بسيط بشر بملكوت الله داخل إطار الديانة اليهودية، وظن يسوع أن هذا الملكوت لن يتحقَّق إلاَّ بالتحرر من الاستعمار الروماني، وقال ريماروس أن يسوع عندما دعى نفسه بأنه "ابن الله" فأنه كان يقصد أن يُفهّم الشعب أنه الملك المسيا، وأن الله يحبه بصورة خاصة، ولم يفكر يسوع في إنشاء دين جديد، وأيضًا لم يفكر في الإيمـان الثالوثي (راجع مقالة البروفيسور جاك شلوسر - يسوع التاريخي - محاضرات نسَّقها وقدم لها الأب أيوب شهوان ص 16، 17، والدكتور القس حنا جرجس الخضري - تاريــخ الفكــر المسيحي جـ 1 ص 157).
ب - لم يكن في فكر يسوع الموت على الصليب، ولم يتنبأ بموته وقيامته، إنما سعى لتحرير شعبه من الاستعمار الروماني، حتى يحل ملكوت الله، وكاد يصل إلى هدفه هذا مرتين: المرة الأولى عندما أرسل رسله السبعين اثنين اثنين إلى كل موضع هو مزمع أن يأتي فيه، والمرة الثانية في دخوله الانتصاري إلى أورشليم، والحادثة الأخيرة هذه ساقته للموت، فذهب للصليب يائسًا باكيًا لأنه فشل في رفع الاضطهاد الروماني عن كاهل شعبه.
جـ - صُلب يسوع ومات ولم يقم، ولم يشأ تلاميذه العودة لحياة العمل، إنما أرادوا الاحتفاظ بنفس المنافع التي تمتعوا بها في حياة معلمهم، وبعد تردد وضعوا الخطة، فسرقوا جسده، وبعد خمسين يومًا، وهي فترة كافية لانحلال جسده وضياع ملامحه واستحالة التعرف عليه ادعوا قيامته من الأموات بعد موته وأنه صعد إلى السماء، فاعتبر ريماروس أن محاكمة يسوع وصلبه وموته سدَّدت ضربة قوية أطاحت بآمال التلاميذ الذين سعوا للسلطة والعظمة والكسب المادي الوفير، مما دفعهم إلى تزوير الحقائق.
د - اعتبر ريماروس أن عدم ظهور يسوع للجميع بعد قيامته يهدم ويفضح مصداقية قصة القيامة، فعدم ظهوره للجميع يتناقض مع القول بمجيئه من أجل خلاص العالم... إلخ وينتهي بقوله: " أنه لمن الجنون أن نتذمر من عدم إيمان الناس ونأسف له، وعندما نرانا عاجزين عن إتيان برهان مقنع تحتاجه بالضرورة مسألة قيامة يسوع، هذا إذا ما سلكنا بموجب مقتضيات العقل السليم".
هـ - كتب الإنجيليون أناجيلهم بعيدًا عن الوحي الإلهي، وزوَّروا تاريخ يسوع، ونسبوا له الميلاد العذراوي وصُنْع المعجزات والقيامة من الأموات، فجاءت صورة يسوع التي سجلتها الأناجيل غير حقيقية ولا تنطبق على الواقع، بل هيَ من خيال التلاميذ لكي يروّجوا لكرازتهم، فتاريخ يسوع بحسب ما جاء في الأناجيل هو خداع متعمَّد من قِبل التلاميذ، فهم "مزورون أتقياء"، ولم يفكر ريماروس استحالة اتفاق التزوير مع التقوى، ولا التقوى مع التزوير.
و - أنكر ريماروس المعجزات الكتابية بما فيها المعجزات التي صنعها يسوع، وأيضًا معجزة قيامته من الأموات، واعتبرها أنها ضد قوانين الطبيعة التي وضعها الله بنفسه كخالق ومدبر للوجود كله، وقال أن الوثنية تزخر بالأعاجيب وتتفنن الأديان في ذكر الروايات الخارقة، أما الدين الصحيح فهو الذي يتمتع بالمصداقية الداخلية... وصوَّر ريماروس المسيحية على أنها تعمل خلال العصور على إخضاع العقل للإيمان، والتمسك بالإيمان بدون اقتناع عقلي، هذا من جهة ومن جهة أخرى حاول المعلمون المسيحيون استخدام "الخدعة التقية"، وبهذا أسَّسوا دولة داخل دولة (راجع مقالة الأب الدكتور جورج حبيقة - يسوع في كتاب ريماروس، والأب أيوب شهوان - يسوع التاريخ ص 260-267).
2ـــ كتب ريماروس ما كتبه من نقد في نحو أربعة آلاف صفحة، وإذ لم تكن لديه الجرأة لنشرها أخفاه، وقد كتب في مقدمة أبحاثه الكتابية هذه تحت عنوان "دفاع عن عبَّاد الله العقلانيين": " أنه لأحرى بالحكيم، ليعيش بسلام، أن يخضع للآراء السائدة والتقاليد المتبعة ويتساهل معها ويلزم الصمت، من أن يُسبب تعاسته وتعاسة الآخرين بقوله قبل الأوان ما يفكر به" (الأب الدكتور جورج حبيقة - مقالة يسوع في كتاب ريماروس)(618).
ويقول "الأب الدكتور چورج حبيقة" أيضًا: " ويزداد الأمر وضوحًا عندما يقول لنا ريماروس في المقاطع التالية أن مسيحيته إنما هيَ نتيجة الصدفة... وأن انضمامه إلى الكنيسة لم يكن وليد تفحص حر، وخيار معلَّل للدين الأمثل والأفضل... يقول ريماروس أن صلاة الشكر ليست حكرًا على المسيحيين، فاليهودي والمسلم يُصعِدون إلى الله آيات الحمد ذاتها، غير أن الأسلوب المتبع في المسيحية، على حد قول ريماروس، هو أكثر رياءً وأوهى، إذ يُطلَب إلى طالبي العماد والانتساب إلى الكنيسة أن يجاهروا أولًا بإيمانهم بالآب والابن والروح القدس للحصول على المقابل في سر العماد. وهكذا في سن الطفولة وقبل التمكن من اللجوء إلى طاقاتنا العقلية لإدارة حتى الأمور العادية في حياتنا، قبلنا المعمودية ِبِاسم الله، وأصبحنا مسيحيين في غفلة من العقل...
بهذا الأسلوب النقدي اللاذع، وفي مقدمة مسهبةٍ تقع في ثلاثة عشر مقطعًا، يُمهّد ريماروس لاستدعاء الكتاب المقدَّس في عهديه القديم والجديد للمثول أمام محكمة العقل العليا، فالهدف الأساسي الذي حدّده في مقارناته البيبلية هذه والأولى من نوعها وشموليتها ينشطر إلى شطرين، في الشطر الأول سيحاول ريماروس أن يبرهن أن ادعاءات الأديان الوضعية بأنها مهبط للوحي الإلهي، هي مجوَّفة وكاذبة، وخارج العقل والطبيعة والكون بأسره، استحالة مطلقة لإمكانية التواصل مع الله والتزود بإيحاءاته، والاسترشاد بمشيئته. وفي الشطر الثاني، سيسعى ريماروس بكل ما أوتي من علم وإطلاع وسعة معارف إلى إثبات ما يعتبره حقيقة دامغة ألاَّ وهيَ أن الكتاب المقدَّس في شقيه القديم والجديد، لا يتعدى كونه مجموعة من النصوص، يتحكم فيها الاختلاط الذهني والالتباس وعدم الدقة والوهم والاختلاق والكذب والغباوة" (الأب الدكتور جورج حبيقة - مقالة يسوع في كتاب ريماروس)(619).
3ــــ بعد موت ريماروس جاء "جوتهولد ليسينج" Lessing ونشر بعض آراء ريماروس خلال الفترة (1774 - 1778م) تحت أسماء مستعارة مثل "مقتطفات من مجهول" أو "مقاطع لمؤلف مُغفَل" وتحت عدة عناوين مثل: "استحالة وجود وحي يؤمن به البشر بطريقة معلَّلة"، و "في تاريخ القيامة"، و "فـي هدف يسوع وتلاميذه"، و "التشهير بالعقل من على منابر الموعوظين في الكنائس".. إلخ.، ويقول "الأب الدكتور چورج حبيقة" أيضًا: " أن ملف الاتهام ضد المسيحية الذي كونه ريماروس بِاسم "عبَّاد الله العقلانيين" ينتهي إلى رفض قاطع للعهد الجديد. والسبب في ذلك يعود إلى عدم التطابق في شهادات الإنجيليين. ويُرجِع المؤلف هذا التناقض إلى "الكذب والاختلاف".. "(620).
وبلا شك كان ليسينج مؤيدًا لآراء ريماروس، فقال أن مجرد قول يسوع عن نفسه أنه صنع معجزات وطرد أرواح شريرة قول غير معقول، وقول المسيحيين أن الأناجيل كُتبوا بوحي من الروح القدس فهذا أشبه بخندق قبيح فاضح لا أريد عبوره، منكرًا الوحي الإلهي (راجع جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 495، 496).
4ـــ يعلق "الأب الدكتور چورج حبيقة" في مقالته "يسوع في كتاب ريماروس" على آراء ريماروس الهدامة، فيقول أنه يناقض نفسه، فبعد أن شدَّد على أن المسيحية تغلبت على الوثنية بمعطيين أساسيين وهما استعمال العقل والسلوك الأخلاقي التقوي عاد لينتقد المسيحية وعقائدها، ويتهمها بأنها تقيم دولة داخل دولة، ويقول "الأب چورج": "هل كان أوريجانوس مختلًا عقليًا، نتساءل هنا بحق، حتى يلجأ إلى يوميات الجماعة المسيحية الأولى وسلوكياتهم المفترض أن تكون معروفة من قِبل الكثيرين في المجتمع آنذاك، ليستقي منها معطيات مهمة في خطابه الدفاعي عن المسيحية وعقائدها، إذ يتساءل في كتابه ضد سلسيوس (كلسوس): علام تلومون المسيحية؟ على أنهم لا يعيشون في الفسق والعهر، ويدفعون الضرائب ويحافظون على السلم"(621).
ويتعجب "الأب الدكتور چورج حبيقة" أيضًا من ريماروس الذي لم يرى في السيد المسيح إلاَّ مجموعة مساوئ ولم يلتفت إلى مبادئه السامية، فيقول: " ولكن كيف لنا أن نتفهم موقفه من يسوع الناصري بالذات واتهامه إياه بالكذب والتدجيل والسعي المسعور إلى سلطة زمنية وتأسيس مملكة أرضية، بغية الحصول على خيرات الأرض وثرواتها؟ كيف حصن ريماروس نفسه ضد عظمة كلام يسوع وقراءته عن المحبة والخروج من الذات، وإفناء الذات من أجل الآخر، والكفر بالذات من أجل خيور الزمن الآتي، وإرساء "الحكم" في مدينة المحبة والسلام التي كان يدعو الناس إليها، مع الانسحاق والتواضع والخدمة وبذل الذات من أجل إسعاد الآخر؟ هل قرأ ريماروس المقطع الذي يدعو فيه يسوع إلى الغفران الدائم والمصالحة المستمرة مع الآخر، وحُب الأعداء، وكسر حلقة العنف بالمغفرة من على صليب الهوان والذل؟ ألم يقرأ مَثَل الابن الضال ومَثَل السامري؟ ألم يرَ ثورة يسوع على رؤساء الكهنة والفريسيين ودفاعه عن الزانية وعن كل مظلوم؟ لماذا لم يؤخذ بشخصية يسوع الناصري وكلامه كما حدث لقائد ثورة اللا عنف غاندي في الهند، عندما صرخ بعد انتهائه من قراءة الإنجيل وأطلق نداءه المدوي إلى المسيحيين قائلًا: "أعطوني مسيحكم، وخذوا مسيحيتكم!.. "(622).
_____
(618) أورده الأب أيوب شهوان - يسوع التاريخي ص 259.
(619) أورده الأب أيوب شهوان - يسوع التاريخي ص 259 - 260.
(620) المرجع السابق ص 268.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/84.html
تقصير الرابط:
tak.la/89hghtn