س85 : كيف نشأت بدعة الفصل بين "يسوع التاريخ " و "مسيح الإيمان"؟ وما هو مضمونها؟ وما هيَ المراحل التي مرّت بها؟
: نشأت فكرة الفصل بين "يسوع التاريخ" و "مسيح الإيمان" من محاولة الفصل بين الأمور التاريخية والأمور الإيمانية، والتشكيك في شخصية يسوع المسيح وألوهيته ومعجزاته وقيامته، وقبل القرن الثامن عشر لم يكن هناك أي ذكر لهذه البدعة، وظهرت بظهور آراء هيرمان صموئيل ريماروس التي نشرها ليسينج خلال الفترة (1774-1778م)، فرسَّخ لبدعة يسوع التاريخ ومسيح الإيمان، وتوالى النُقَّاد الذين فصلوا بين يسوع التاريخ كمعلم مرموق، وبين مسيح الإيمان كما صوَّرته الأناجيل، فتصوَّر هؤلاء النُقَّاد أن ما جرى من أحداث تاريخية تخص يسوع على أرض الواقع تسلمته الكنيسة الأولى وفسَّرته في أضواء القيامة، وهو ما دُعي بالتفسير الفصحى أو القراءة الفصحية، فضخموا وزخرفوا في الأحداث وأضفوا عليها الكثير من المجد، وبهذا ظهرت صورة مسيح الإيمان ابن الله صانع المعجزات قاهر الموت.
تصوَّر هؤلاء النُقَّاد أن يسوع كان مجرد إنسان وُلِد ولادة طبيعية، وكان معلمًا بارزًا، لكنه لم يكن ابن الله، ولم يصنع معجزة واحدة، أُقتيد للصلب كمجرم أثيم، أو ذهب للموت يائسًا باكيًا لاستحضار ملكوت الله على الأرض، وظنًا منه أن موته سيرضي الله، فصلب ومات ولم يقم. وإذ رفض التلاميذ الرجوع إلى حياتهم الأولى حياة العمل والشقاء، بعد أن تعودوا أن يعيشوا عالة على المجتمع، ادعوا قيامته من الأموات، ونادوا به إلهًا، ونسبوا له المعجزات الباهرات، وفعلوا ذلك بعفوية شديدة، حتى أن هيرمان صموئيل ريماروس دعاهم كما رأينا من قبل "مزورون أتقياء". وصار هدف أصحاب فكرة يسوع التاريخ ومسيح الإيمان، هو استعادة الصورة الأولى التي كان عليها يسوع الناصري وكما عاشها على الأرض بدون تضخيم وبدون مبالغات وزخارف.
مرت هذه البدعة بمرحلتين أساسيتين، هما: مرحلة النقد التاريخي المتطرف - مرحلة النقد الإيماني المتطرف
وقد برزت هذه المرحلة في القـرن التاسع عشر، حيث أراد بعض النُقَّاد مثل "أدولف فون هارناك" Adolf Von Harnack و "لوازي" Loisy أن يجردوا قصة يسوع مما لحق بها من إضافات ومبالغات وأساطير وزخارف (بحسب تصوُّرهم) مثل انشقاق السماء في لحظة عماد السيد المسيح وظهور الروح القدس على شكل حمامة، ومظهر التجلي، والمعجزات الخارقة للطبيعة مثل المشي على الماء وإسكات العاصفة... إلخ، وذلك بهدف الوصول إلى شخصية يسوع الناصري التاريخية الحقيقية، ومع بداية القرن العشرين ظهرت مدرستان للنقد التاريخي، هما مدرسة تاريخ الأديان، ومدرسة نقد الشكل.
انتقد "كهلر" Martin Kahler سنة 1812م النقد التاريخي المتطرف، ثم جاء بعده "رودلف بولتمان" (1884-1976م) الذي قال أنه لا يوجد شك في شخصية يسوع التاريخ ولكن من المستحيل الوصول إليها، لأن تركيز الجماعة الأولى متمثلة في التلاميذ الأثنى عشر كان على شخصية مسيح الإيمان، وهذه الجماعة هيَ التي كتبت الأناجيل في ضوء القيامة، فجلَّ ما بوسعنا أن نصل إليه هو مسيح الإيمان القائم من الأموات الذي آمن به المسيحيون الأولون (راجع الأب فاضل سيداروس - تكوين الأناجيل ص 35).
ويقول "بولتمان": " أن الشكوك بشأن هل وُجِد يسوع حقًا؟ هي شكوك لا أساس لها ولا تستحق التفكير فيها، فليس من شخص عاقل يمكن أن يشك في أن يسوع يقف كمؤسس وراء الحركة التاريخية، التي كانت أول مراحلها الواضحة ممثلة في الجماعة الفلسطينية الأقدم. ولكن إلى أي مدى حافظت هذه الجماعة على صورة موضوعية حقيقية له ولرسالته؟ هذه هيَ قضية أخرى محل فحص وجديرة بالدراسة"(623).
ويؤكد "فولر" وجهة النظر السابقة فيقول: "بولتمان يقول أن كل ما نعرفه أن يسوع أُعدم على يد الرومان باعتباره مجرمًا سياسيًا، ولكن ليس باستطاعتنا أن نقول الكثير بعد ذلك"(624).
كما قال "بولتمان": "أنه ليس في استطاعتنا أن نعرف سمات يسوع وصفاته الشخصية. إذًا لا يمكن أن نثبت صحة أي كلمة من كلامه، وكل ما يمكن أن نقوله عن حياة يسوع وعن شخصيته هو ألاَّ نقول شيئًا... يرجع ذلك إلى عدم التأكد من الوثائق التي لدينا وخصوصًا أنها قليلة، فمن الصعب التأكد مما إذا كانت هذه الأقوال هيَ فعلًا أقوال المسيح أم هيَ إضافات من الكنيسة الأولى" (راجع ص 38 من كتاب جوجل..)(625).
وأيضًا يقول "بولتمان": "أنني أعتقد بالفعل أننا الآن لا نستطيع تقريبًا أن نعرف أي شيء بشأن حياة وشخصية يسوع، طالما أن المصادر المسيحية المبكرة لم تبد اهتمامًا بكليهما، ولكنها علاوة على ذلك فهيَ مؤلفة من شظايا أو شذرات عديدة تتسم بالطابع الأسطوري، وأي مصادر أخرى عن يسوع ليس لها وجود... شخصية يسوع وتلك الصورة البراقة التي عرفناها عن شخصيته وحياته لا يمكن الاستدلال على صحتها" (626).
وبهذا ابتعد "بولتمان" عن يسوع التاريخ، وتطرف نحو البحث عن مسيح الإيمان، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وتغيّر السؤال من: "مَن هو يسوع التاريخ؟" إلى "مَن هو مسيح الإيمان" والحقيقة أن ما جاء في الأناجيل يمثل شخصية يسوع المسيح، شخص واحد لا أثنين، دُعي "يسوع المسيح"، كما دُعي "المسيح يسوع"، هو هو يسوع التاريخ، وهو هو مسيح الإيمان. هذا هو إيماننا الذي نتمسك به للنفس الأخير، صار إنسان وعاش محتقرًا من القيادات اليهودية وصُلب عريانًا، مع أنه الإله المتجسد والمتأنس من أجل خلاصنا، مات عنا موتًا فدائيًا، وقام وأقامنا معه، وصعد إلى السماء وأصعدنا معه، وجلس عن يمين الآب وأجلسنا معه في السماويات، التي تتعلق بها عيوننا وقلوبنا بعيدًا عن أقوال النُقَّاد، التي نحن مضطرين للخوض فيها لكشف زيفها، وحتى لا يسقط في حبائلها أولادنا وأحفادنا.
ويقول "الأب فاضل سيداروس": " سعى التياران السابقان (النقد التاريخي المتطرف، والنقد الإيماني المتطرف) إلى إلزام الاختيار بين "يسوع التاريخ" (التيار الأول) و "مسيح الإيمان" (التيار الثاني). أفليس من الممكن الخروج من هذا المأزق ومن هذا الاختيار غير الصائب؟ أليس "يسوع التاريخ " هو في نهاية الأمر "مسيح الإيمان"؟ أليس من الممكن أن نرتقي من "مسيح الإيمان" إلى "يسوع التاريخ"؟ أليس "يسوع التاريخ" و "مسيح الإيمان" مرتبطين ارتباطًا وثيقًا لا يتحمل الفصل أو الانفصال؟.. أليس شخص يسوع المسيح هو "سرّ" (Mystere) يظهر في حياته الأرضية كما يظهر في قيامته؟ هذا هو اتجاهنا، وهذا ما نثبته ونحلله"(627).
كما يقول "الأب فاضل سيداروس" أيضًا: "وهكذا فإن إيمان الرسل، قبل أن يكون إيمانًا بيسوع المسيح القائم، كان إيمانًا بيسوع الناصري، وإن اكتمل إيمانهم به بعد قيامته وحلول الروح القدس... فالأناجيل الأربعة هيَ كتب تاريخ حياة يسوع الناصري حقًا. وإن لم يكن هدفها كتابة كتاب تاريخ، كما أسلفنا، ويمكن الاعتماد عليها بكل ثقة ويقين لمعرفة حياة يسوع الناصري والجماعة قبل الفصحية"(628).
_____
(623) جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 485.
(624) المرجع السابق ص 485.
(625) أورده الدكتور القس حنا جرجس الخضري - تاريخ الفكر المسيحي جـ 1 ص 160، 161.
(628) المرجع السابق ص 48، 50.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/85.html
تقصير الرابط:
tak.la/7yqdnrj