س 79 : ما دامت الأناجيل قد أخذت من مصدر واحد، فلماذا اختلفت فيما بينها؟ وهل اختلاف الأسلوب والمفردات بين الأناجيل في تسجيل حدث أو حديث معين يرجع إلى التغيير والتبديل والتحريف؟، وهل يتغافل المسيحيون الخلافات البينة بين الأناجيل الأربعة؟
يقول "بيرتون ل. ماك": "عندما يستحضر المسيحيون القصة الإنجيلية، فأنهم لا يفكرون بروايات سردية أربع يتباين بعضها عن بعض، بل يفكرون فيها بوصفها خليطًا من القصص الأربع، فخلال نحو ألفي سنة تم دمج هذه القصص في التراتيل، وفي رموز الأيقونات، والقداديس الكنسية. ولم تشعر الكنيسة بالضيق أبدًا من أي يكون لديها أربع روايات مختلفة للقصة ذاتها. لقد تم اعتبار كل رواية مجـرد سرد وفقًا "لشاهد آخر أو رسول... " (556).
ويقول "علاء أبو بكر": "س 34: ابحث وتدبَّر: متى كُتِب كل إنجيل من الأناجيل الأربعة الحالية؟ ولو كانت من وحي الله، فلماذا نجد الاختلافات بين كل منهم؟ وما حاجة كل منهم لأن يستعين بما كتبه من قبله كما قال التفسير الحديث للكــتاب المقدَّس (إنجيل متى ص 26، وإنجيل لوقا ص 42، 43) وتفسير باركلي للكتاب المقدَّس (إنجيل متى ص 17)؟.
وكذلك تقول دائرة المعارف الكتابية مادة (إنجيل متى): "خامسًا: مشكلات العلاقات الأدبية بين الأناجيل الثلاثة الأولى: وقد درسنا هذا الموضوع بالتفصيل في البحث المختص بالأناجيل الثلاثة الأولى (أو الأناجيل المتوافقة) وهيَ مشكلة تدور أساسًا حول العلاقة الأدبية بين هذه الأناجيل الثلاثة، فمحتوياتها (في الكثير من الحالات) متشابهة حتى في العبارات، مما يحمل على الظن بأنها أُخذت من مصادر مشتركة، أو أنها أخذت من بعضها البعض. ومن الناحية الأخرى فإن كل واحد من هذه الأناجيل الثلاثة، فيه الكثير من الاختلافات عن الإنجيلين الآخرين، حتى أنه لا بد أن كلا منهما قد استخدم مراجع غير التي استخدمها غيره، سواء كانت مراجع شفهية أو مكتوبة.." (557).
وجاء في "موقع ابن مريم" : "وينفرد أحد الإنجيليين بذكر حوادث قد تكون مهمة، ومع ذلك أغفلها الآخرون. وقد يتبادر للذهن لأول وهلة أن ذلك يرجع لنظرية تكامل الروايات الذي لا يعتبر من التناقض أو التعارض.
وهذا ليس بصحيح، إذ معرفتنا البسيطة بتدوين الإنجيل وتاريخه تنبئنا بأن الإنجيليين اعتمد اللاحق فيهم على السابق، فإغفال اللاحق لبعض ما ذكره سلفه، إنما يرجع لتشكُّكه في جدوى الرواية أو صحتها، أو تناسقها مع المعتقد، وهو ما يُقال أيضًا في الإضافة التي قرر المتأخر زيادتها عن السابق.
ولعل مما يوضح الصورة ويجليها: نقل مقدمة لوقا الذي يقول: "رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق... لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّـــذِي عُلِّمْتَ بِهِ" (لو 1 : 3، 4)".
ج : 1ـــ سبق وأكدنا أننا لا نؤمن بالنظرية الإملائية الميكانيكية في كتابة الوحي، أي أننا لا نؤمن أن الروح القدس أملى الكاتب ما يكتبه بالحرف، دون أن يترك له مساحة يتحرك فيها ويعبر فيها بأسلوبه وبحسب علمه وثقافته ولغته وشخصيته، بل أننا نؤمن أن الكتاب المقدَّس هو نتاج عمل مشترك بين روح الله القدوس والكاتب، ولذلك حمل الكتاب طبيعة مزدوجة، طبيعة إلهيَّة كاملة وأخرى بشريَّة كاملة، ويُنسب السفر لكاتبه كما يُنسب لله، فهو يحمل لنا كلام الله على لسان الكاتب، ولذلك لا ننزعج من تغيير الأسلوب من كاتب إلى آخر، أو أن يذكر الكاتب بعض الأمور، في ذات القصة الواحدة، لا يذكرها كاتب آخر، أو أن أحد الكتَّاب يبرز فكرة لم يبرزها كاتب آخر، بل أن هذا يؤكد أن لكل إنجيل قراءته وتمايزه وسماته وهدفه الخاص الذي يسعى نحو تحقيقه، فالأناجيل تتكامل ولا تتناقض.
2ــ هناك اختلافات ظاهرية عديد بين الأناجيل الأربعة، ومن أمثلة هذه الاختلافات الظاهرية على سبيل المثال ما يلي:
أ - قال متى الإنجيلي: " طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (مت 5 : 3) بينما قال لوقا: " طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ" (لو 6 : 20)، وهذا لا يُعد تحريفًا كما يعتقد غير العارفين. أما العارفون فأنهم يدركون أن لوقا استخدم تعبير " مَلَكُوتَ اللهِ" وهو يكتب لليونانيين، وهم ليس من أصل يهودي، فكتب بحريـة كاملة، بينما القديس متى اليهودي والذي يكتب لليهود يعرف حساسية اليهود المفرطة في استخدام اسم الجلالة "يهوه"، فكانوا لا ينطقونه بل ينطقون عوضًا عنه كلمة "أدوناي" أي السيد، ولذلك استخدم تعبير " مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" بكثرة بدلًا من تعبير " مَلَكُوتَ اللهِ"، ولا فرق بين هذه العبارة وتلك.
ب - ذكر مرقس الرسول شهادة بطرس الرسول للسيد المسيح قائلًا: " أَنْتَ الْمَسِيحُ" (مر 8 : 29)، بينما ذكر متى الإنجيلي هذه العبارة في ضوء القيامة أي ذكـر معنى المسيح، فهو ابن الله الحي لذلك قــال: " أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ" (مت 16 : 16)، ولا يعتبر هذا تحريف من جانب متى الإنجيلي، ولا قصور من جانب مرقس الرسول الذي أوضح بأجلّى بيان في بداية إنجيله قائلًا: " بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ" (مر 1 : 1).
ج - ذكر متى الإنجيلي تجربة السيد المسيح بمراحلها الثلاث بشيء من التفصيل (مت 4 : 1 - 11) بينما أوجزها مرقس الإنجيلي في قوله: " وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ" (مر 1 : 12، 13).
د - ذكر متى الإنجيلي شفاء الأعميين (مت 20 : 30) بينما ذكر مرقس شفاء الأعمى الأكثر شهرة وحدَّده بِالاسم "بارتيماوس الأعمى ابن تيماوس" ولا يُعد هذا نوع من التناقض، لأن مارمرقس لم يذكر صراحةً أنه لم يشفي سوى أعمى واحد، فكونه شفى أعمى فهذا لا يمنع على الإطلاق أنه شفى أعمى آخر، وهذا ما لفت نظر متى أن السيد المسيح جاء لليهود كما أنه جاء للأمم، لذلك أكثر متى من استخدام الرقـم اثنين. كما أنه استخدم الأرقام 3، 5، 7 لأنها من الأرقام المحبَّبة لليهود.
هـ - ذكر مارمرقس أن السيد المسيح قال لتلاميذه: "هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ" (مر 14 : 24)، بينما قال متى الإنجيلي: " لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مت 26 : 28)، وقول متى " لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" قصد به زيادة الإيضاح.
و - رحلة السيد المسيح إلى أورشليم فَرَدَ لها لوقا الإنجيلي تسعة أصحاحات (لو 9 : 51 - 19 : 28)، بينما ذكرها القديس متى في أصحاحين (ص 19، 20)، في حين أوجزها مرقس الرسول في إصحاح واحد (مر 10)، وترتب على هذا ذكر بعض الأمور في إنجيل لوقا لم يذكرها القديس متى ولا مارمرقس (راجع د. ق فهيم عزيز - المدخل إلى العهد الجديد ص 172).
3ـــ يقول "دكتور موريس تاوضروس": " وأما الاختلاف في البشائر فيُرَد إلى كل بشارة كُتبت من زاوية معينة لتحقيق غرضًا معينًا. فضلًا عن أن كل بشير له ذكرياته الخاصة.." (558).
ويمثل "قداسة البابا تواضروس الثاني" إنجيل مرقس الذي كُتب أولًا بتدوين بشارة الإنجيل، وإنجيلي متى ولوقا اللذان سار على نفس المنوال مع مارمرقس بأنهما تفصيل وتطوير البشارة، وإنجيل يوحنا الذي كتب أخيرًا بفارق زمني نحو 30 أو 35 سنة بأنه يمثل تفسير بشارة الإنجيل، فيقول: " المرحلة الأولى... تدوين البشارة: وقد قام بها مرقس الرسول، إذ في شتاء عام 64م حدث حريق روما الشهير وبدأ اضطهاد المسيحيون كمجرمين وبدأ استشهاد كثيرين... منهم بولس وبطرس عام 67م، وفي هذه الأثناء (65م) ظهر في روما كتاب "بشارة يسوع المسيح " يشمل الحوادث التي قامت على أساسها الكنيسة المسيحية، ثم يروي أحداث صلب مؤسسها... هذا الكتاب هو ما يُعرف الآن بِاسم "بشارة مرقس"، لم يكن العنوان كتاب حياة يسوع، أو ذكريات المسيح، بل "بشارة يسـوع المسيح"، ويقصد "أنباء الانتصار " News...
المرحلة الثانية... تطوير البشارة: وقد قام بها كل من متى الرسول ولوقا الرسول... تعتبر بشارة متى بمثابة "طبعة جديدة لبشارة مرقس".. والملاحظ بشدة أن متى ولوقا يتحدثان عن فترة ميلاد المسيح وطفولته وهيَ الفترة التي أغفلها مرقس من قبل...
المرحلة الثالثة... تفسير البشارة: وقد قام بها يوحنا الرسول، إذ كُتبت بأسلوب مختلف حوالي عام 90م... يقول أكليمنضس: "بشارة يوحنا هيَ الروح، البشائـر الثلاث هيَ الجسد".
كان (يوحنا) على معرفة بالبشائر الأخرى وكمثال: (يو 12 : 3 - 8) مع (مت 26 : 7، 11). (يو 11 : 1) مع (لو 10 : 38).
وفي مواضع مختلفة يشير إلى نصوص في البشائر الأخرى مُقدرًا أن قارئ بشارته يعرفها قبلًا مثل: (يو 1: 33، 2 : 12، 3 : 24، 4 : 44، 11 : 1..)(559).
4ـــ لم يلتزم الإنجيليون بالترتيب الزمني على طول الخط، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إنما التزموا به في أحداث معينة مثل قصة الميلاد ورحلة الآلام، فربما رتّب أحد الإنجيليين مجموعة من الأحداث ترتيبًا معينًا، خالفه الآخر فيها، فلا يُعد هذا نوعًا من التغيير والتبديل، فبحسب الأدب اليوناني كان للكاتب مساحة من الحرية لكيما يرتب كتاباته بدون التقيد بالترتيب الزمني، كما أن السيد المسيح كان يكرّر بعض تعاليمه في أماكن مختلفـة، ويقـول "كريج س. كينر": " تتغلغل مصطلحات الأدب اليوناني في معظم الآداب العبرية التي كُتبت باللغة اليونانية، وتركت طابعها على الكتب التاريخية (والتي تدخل ضمنها الأناجيل) والروايات أيضًا. إن كُتَّاب السير كان لديهم الحرية الكاملة لإعادة ترتيب مصادرهم، لذلك فلا يجب أن تصيبنا الدهشة عندما تكون هناك اختلافات بين كلٍ من متى ولوقا بخصوص الحوادث المختلفة بخدمة يسوع... إن السيد المسيح مثل المعلمين الآخرين في اليهودية، كان يكرّر نفس الأقوال في مناسبات مختلفة، لذلك فمن الممكن أن تكون بعض هذه الأقوال قد قيلت في أماكن مختلفة بحسب ما جاء في الأناجيل، وببساطة كان الكتَّاب يتمتعون بالحرية التي كانت متاحة لكتَّاب السير القدامى في إعادة ترتيب مادتهم. هذه التجربة أتاحت لكتَّاب الأناجيل (مثل الوعاظ في الوقت الحالي) أن يكرزوا بالسيد المسيح، وفي نفس الوقت يسردون تقاريرهم عنه، وفي كلتا الحالتين تظل أقواله وأعماله صحيحة. إن المسيحيين القدامى كانوا يعرفون بالطبع أن الأناجيل ليست مرتبة ترتيبًا زمنيًا، وهو ما أشار إليه في وضوح المعلم المسيحي القديم بابياس" (560).
ويقول "يوسابيوس القيصري" عن مارمرقس أنه كتب: " دون أن يقصد بأن يجعل أحاديث الرب مرتبطة ببعضها، ولذلك لم ترتكب أي خطأ إذ كتب (على هذا الوجه) ما تذكره. لأنه كان يحرص على أمر واحد: أن لا يحذف شيئًا مما سمعه، وأن لا يقرر أي شيء خطأ، هذا ما دوّنه بابياس عن مرقس" (3 : 39 : 15)(561).
5ــ هذه الاختلافات الظاهرية كانت معروفة جيدًا لدى آباء الكنيسة الأولين، فالعلامة أوريجانوس ناقش العديد منها، كما أن القديس أُغسطينوس اهتم بالاتفاقات بين البشائر الأربعة، معترفًا بالفروقات بينها، ومؤكدًا أن الروح القدس يقف خلف كل كلمة كتبها الإنجيليون.
6ـــ هذه الاختلافات الظاهرية بين الأناجيل تنفي تمامًا مؤامرة الاتفاق على تسجيل الأحداث في اتجاه معين، وتقف ضد فكرة تلفيق الأحداث وتأليفها على خلاف ما جرت، وأيضًا تؤكد الأمانة الكاملة للنُسَّاخ الذين استؤمنوا على هذه الوزنة على مدار نحو ألف وأربعمائة عام حتى اختراع آلة الطباعة، فلم يجسر أحد منهم أن يغير عبارة أو كلمة ليعطي توافقًا كاملًا في حدث معين بين الأناجيل الأربعة، ويجعل الأمور تسير في نسق واحد.
ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": " أنه لو اتفق الأنجيليون في التفاصيل كلها... لأتهمونا بالتآمر لجعل قصصهم متماثلة، ولذلك نستطيع اعتبار اختلافاتهم برهانًا على استقلال كل إنجيلي عن الآخر، وأن رواياتهم أصلية وحقيقية" (562).
7ـــ رغم الاختلافات الظاهرية في بعض المواضع بالأناجيل الأربعة، إلاَّ أن هذه الأناجيل تتكامل مع بعضها ولا تتناقض، وهذا التباين يعطي نوعًا من الثراء الأدبي والمعرفي، وليس فيه على الإطلاق ما يشين الوحي الإلهي. أمَّا كون ناقد يطلب أن تكون الأناجيل الأربعة نسخة واحدة، فهذا ما يصعب فهمه وقبوله، لأنه ما دامت الأناجيل الأربعة نسخة واحدة... فما الداعي للتكرار أربع مرات بواسطة أربع كُتَّاب... ألم يكن يكفي كاتبًا واحدًا؟! بل أقول أن الكاتب الواحد عندما يكرر حدثًا معينًا، فأكيد في كل مرة يتناوله من زاوية مختلفة، ومجمل أحاديثه تشكل وتصوّر الحدث بطريقة متكاملة، أليس هذا حدث مع لوقا الإنجيلي نفسه عندما دوَّن قصة ظهور السيد المسيح لبولس الرسول ثلاث مـرات (أع 9 : 3 - 9، 22 : 5 - 11، 26 : 12-18)؟!
ويُعلق "چون درين" على هذا قائلًا: " فإذا استطاع كاتب واحد أن يفعل هكذا في كتاب واحد دون وجود تناقضات، فليس هناك تضرُّر إذا استخدم كتَّاب مختلفون روايات عن يسوع بطرق متنوعة لتلائم احتياجات مستمعيهم. الكنيسة الأولى أيضًا لم تجد أي غضاضة من وجود أربع بشائر، بل حفظتها معًا جنبًا إلى جنب دون محاولة دمجها في بشارة واحدة. فإذا كان يصعب على القراء المعاصرين أن يقبلوا هذا، فلأنهم سجنوا أنفسهم داخل افتراضاتهم بخصوص كيفية كتابة الأناجيل.
لم يكن البشيرون شغوفين بحفظ كلمات يسوع كتذكارات من القديم، إنما للتبشير، فرسالة المسيح بالنسبة لهم كانت رسالة حيَّة لها قوة تحرير من الظلمات لمَن يقرأها. فقد دوّنت كل هذه الكلمات بهدف الاستخدام، حتى الصلاة الربانية المدوَّنة في متى (6 : 9 - 13) ليست مطابقة تمامًا لتلك التي في لوقا (11 : 2 ـ 4) ولكن استخدامها كان ولا يزال. لذا فتعليق الحُكم بمصداقية البشائر بسبب تنوعها هو تطبيق لمقاييس ظالمة لم تُطبَق من قبل على أي عمل أدبي" (563).
8 - يجب ملاحظة أن إنجيل يوحنا كان له نهجه الخاص، فقد كُتب بعد انتشار المسيحية في أنحاء العالم، وبعد كتابة الأناجيل الإزائية بنحو ثلاثين سنة أو أكثر، لذلك فهو لم ينحو تجاه تكرار الأحداث التي جاء ذكرها في الأناجيل الإزائية، بل جاء مختلفًا من جهة الأسلوب ومن جهة الموضوع، وبينما كشفت الأناجيل الإزائية عن شخصية السيد المسيح ولاهوته شيئًا فشيئًا ركز على ألوهية المسيح بالدرجة الأولـى، ومنذ الآية الأولى من إنجيله، وأورد يوحنا ثمان معجزات انفرد بستة منها لم يأتِ لها ذكر في الأناجيل الأخرى، حتى أن الإنسان يقف مندهشًا لو لم يذكر يوحنا معجزة خلق عينين لمولود أعمى أو إقامة لعازر، ما كنا علمنا عنها شيئًا، أمَّا المعجزات الستة التي انفرد بها يوحنا الإنجيلي فهيَ معجزة قانا الجليل وهيَ معجزة خلق (يو 2 : 10 - 11)، وشفاء ابن خادم الملك في كفرناحوم (يو 4 : 46 - 56)، وشفاء مريض بيت حسدا بعد ثمانية وثلاثين عامًا (يو 5 : 1 - 9) وخلق عينين للمولود أعمى (يو 9 : 1 - 7) وإقامة لعازر (يو 11) وصيد السمك بعد القيامة (يو 21 : 1 - 4).. حقًا أننا مدينون ليوحنا الحبيب بذكر هذه المعجزات العظيمة، بل قد أوضح لنا أنه يصعب حصر عدد المعجزات التي أجراها الرب يسوع.
ومن أمثلة الاختلافات الظاهرية بين إنجيل يوحنا والأناجيل الإزائية، ما يلي:
أ- ركزت الأناجيل الإزائية على عيد واحد للفصح، بينما ذكر يوحنا الإنجيلي ثلاثة أعياد للفصح (يو 2 : 13، 6 : 4، 12 : 1)، كما أنه يذكر صعود السيد المسيح لأورشليم أربع مرات (يو 2 : 13، 5 : 1، 7 : 10، 12 : 12)، وركز على خدمة المسيح في أورشليم، حتى دُعي إنجيله بـ"الإنجيل الأورشليمي"، بينما ركزت الأناجيل الإزائية على خدمة السيد المسيح في الجليل، حتى دُعيت بـ "الإنجيل الجليلي".
ب- يأتي طرد الباعة من الهيكل في إنجيل مرقس في بداية الأسبوع الأخير، وبسبب هذا تصر القيادات الدينية على الخلاص من يسوع (مر 11 : 15 - 19)، بينما يذكر يوحنا الإنجيلي حادثة طرد الباعة من الهيكل مرتين، الأولى في بداية خدمة السيد المسيح (يو 2 : 14 - 17)، والثانية في بداية الأسبـوع الأخيـر (يو 12 : 12 - 15). وقال "وستكوت" أن هذه الحادثة تكرَّرت مرتين، مرة في بداية خدمة الرب يسوع ومرة أخرى في نهاية خدمته، بينما قال المعترضون لم يكن من السهل أن يسمح اليهود للسيد المسيح بتكرار هذا العمل، والحقيقة أن هذا العمل لم يتم بسماح من اليهـود إنما تم رغمًا عنهم، حتى أن السيد المسيح عندما أمسك بالسوط وأعلن اليسير جدًا من مجده هرب الجميع من أمامه، مثلما سقط فيما بعد على وجوههم الذين جاءوا للقبض عليه في البستان.
ج - قدم السيد المسيح كمعلم يهودي تعاليمه وعظاته في إنجيل يوحنا كخطابات طويلة مشبهًا نفسه بالخبز الحي (يو 6) والراعي الصَّالح (يو 10) والكرمة (يو 15).. إلخ بينما في الأناجيل الإزائية خاطب الجموع عن طريق الأمثال.
د - جرت بعض الأحداث في الأناجيل الإزائية، ثم جاء تفسيرها في إنجيل يوحنا، فمثلًا ذكر مارمرقس (مر 6 : 45) أن السيد المسيح ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى الْعَبْرِ بعد أن أشبع الجموع، ولم يذكر الدافع لهذا، بينما نجد التفسير في (يو 6 : 15) أن اليهود كانوا مزمعين أن يختطفوا السيد المسيح ليجعلوه ملكًا، فهو بسابق علمه يعرف هذا، وحتى لا يتورط تلاميذه في هذا التصرف ويشاركون الجموع مشاعرهم صرفهم قبل هذا الحدث.
9ـــ يُلقي الأب فاضل سيداروس قليل من الضوء على أساب الاختلافات بين الأناجيل في القصة الواحدة، ومن هذه الأسباب:
أ - السبب الجغرافي: كما في قصة البيت المبني على الصخر، فقد صور ق. متى الحدث كالتالي: " فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَوَقَعَتْ عَلَــى ذلِكَ الْبَيْـتِ فَلَمْ يَسْقُطْ" (مت 7 : 24، 25)، بينما تصوير ق. لوقا جاء مختلفًا حيث قال: " يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذلِكَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ" (لو 6 : 48)، فيقول "الأب فاضل سيداروس": " إذا أخذنا مثَل يسوع في البيت المبني على الصخر، وجدنا فرقًا بين روايتي متى ولوقا يعود إلى اختلاف البيئة الجغرافية... فمن الواضح أن البيئة الجغرافية التي حددها متى بيئة فلسطينية: البناء على الصخر، السيول، والرياح. في حين أن البيئة التي وضعها لوقا مختلفة: الحفر العميق، ارتفاع النهر واندفاعه... وهكذا نلاحظ أن اختلاف البيئة الجغرافية يؤدي إلى اختلاف طريقة سرد حديث يسوع أو عمله" (564).
ب - السبب التاريخي: فالأناجيل الإزائية كُتبت مبكرًا بينما إنجيل يوحنا كُتب متأخرًا، فتأثرت الأناجيل الإزائية بالعقلية السامية (اليهودية) السائدة في النصف الأول من القرن الأول الميلادي، والتي تكثر فيها الصور والتشابهات والرموز، بينما تأثر إنجيل يوحنا بالفلسفة اليونانية فظهرت الثنائية أي التضاد، مثلًا بين النور والظلمة، والحقيقة والكذب، والروح والجسد... إلخ.
ج - الذين وُجهت لهم البشارة: فمتى يكتب لليهود ومرقس للرومان ولوقا لليونان، وبالطبع هؤلاء غير هؤلاء غير هؤلاء في فكرهم ومبادئهم وحياتهم، ثم جاء يوحنا وحلَّق كنسر في اللاهوتيات.
د - الفنون الأدبية: فكل إنجيلي شكَّل إنجيله طبقًا للفن الأدبي الذي استخدمه.
هـ - شخصية المؤلّف وأسلوبه: فمارمرقس روائي رائع يتمتع بالواقعية والتحديد، يجيد تصوير الحدث وكأنه يراه بعينه، ومتى عشار ولاوي يعرف كيف يبحر في الأسفار المقدَّسة، ولوقا طبيب ماهر ومؤرخ مدقق يعرف كيف يتقصى الأخبار، ويتخير ما يكتبه بعين الشفقة والرحمة.
و - القصد اللاهوتي: فعرض أقوال السيد المسيح وأعماله ومعجزاته يتأثر تأثرًا مباشرًا بالقصد اللاهوتي الذي يرمي إليه الكاتب، فإذا كان القصد اللاهوتي تعليمي أي أن يتعلم الناس شيئًا جديدًا، فأنه يختلف عما إذا كان الهدف اللاهوتي مسيحاني أي الكشف عن شخصية يسوع وهويته، فمثلًا متى يذكر أعميين (مت 20 : 30)، بينما يذكر مرقس (مر 10 : 46)، ولوقا (لو 18 : 35) أعمى واحد، وأيضًا يذكر متى اثنين عليهما أرواح نجسة (مت 8 : 28)، بينما يذكر مرقس (مر 5 : 1 - 2)، ولوقا (لو 8 : 26 - 27) مجنون واحد، فإن قصد متى اللاهوتي من هذه الثنائية إظهار اشتراك اليهود والأمم في الخلاص المُقدم للجميع.
ز - البيئات الحياتية: فهناك ثلاث بيئات حياتية نمت فيها الروايات الشفهية قبل تدوين الأناجيل كتابة، وهذه البيئات هيَ:
(1) البيئة الإعلانية: إعلان سر يسوع المسيح.
(2) البيئة التعليمية: التي تهدف للتربية الإيمانية.
(3) البيئة الليتورجية: أي الاستعداد للعماد وممارسة الإفخارستيا.
ويؤكد "الأب فاضل سيداروس" أن الاختلافات في النصوص لا تعني على الإطلاق أن هذا نوع من التحريف، إنما يرجع إلى أسباب معينة، فيقول: " فالاختلافات الواردة في النصوص الإنجيلية لا تعود إلى أي لون من ألوان التحريف في أقوال يسوع أو أعماله، بل إلى قصد يقصده الإنجيليون هو بمثابة أسباب خارجية (البيئة الجغرافية - الجمهور المقصود - الفنون الأدبية - البيئات الحياتية - القصد اللاهوتي)، كما تعود إلى الإنجيليين أنفسهم، أي إلى أسباب داخلية (البيئة التاريخية والأسلوب الشخصي)، ولقد وعى الإنجيليون ذلك كل الوعي، حيث دوَّنوا الروايات الشفهية" (565).
أمَّا الرد على القول بتحريف أو تغيير أو تبديل أو تعديل الأناجيل، فهذا سنفرد له السؤال التالي والإجابة عليه.
_____
(556) المرجع السابق ص 264.
(557) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 3 ص 43.
(558) المدخل إلى العهد الجديد ص 56، 57.
(559) مفتاح العهد الجديد جـ 1 البشائر الثلاث الأولى ص 74-77.
(560) الخلفية الحضارية للكتاب المقدَّس - العهد الجديد ص 32، 33.
(561) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ط (2) سنة 1979م ص 177، 178.
(562) أورده قداسة البابا تواضروس الثاني - مفتاح العهد الجديد جـ 1 - البشائر الثلاث الأولى ص 93.
(563) مدخل العهد الجديد ص 213.
(564) تكوين الأناجيل ص 21.
(565) تكوين الأناجيل ص 23.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/79.html
تقصير الرابط:
tak.la/2fsz2n4