س 80 : هل تعرضت الأناجيل أثناء التدوين أو بعد التدوين للتغيير والتعديل والتبديل والتحريف؟ وهل قال القرآن بتحريف الإنجيل؟
تقول "دكتور سارة بنت حامد": " أن العاقل إن تصفَّح كتابًا ما ووجده يثبت قضية ثم يأتي بما ينقضها أو ينفيها فإن ذلك الكتاب سيسقط مؤلفه من أعين قرائه، وسيُحكم عليه بالجهل وقد يأتي مَن يفند أقواله، أو يقذف بذلك الكتاب جانبًا فلا تكمل قراءته.
فكيف بالله العظيم، كيف بكتاب يدَّعي أهله تقديسه، وأنه كتاب مُوحَى به أو أن كتَّابه مُلهَمون، وهو يحتوي ويتضمن الكثير والكثير من التناقضات والتي يستحيل التعليل لها، ويوجد فيه أنواعًا من التحريف بالتبديل، وبالزيادة وبالنقصان، فكيف يصبح لدي أدنى لب أن يدَّعى زورًا وبهتانًا بأنه كتاب يجب تقديسه والأخذ به وتطبيقه؟! أن مثل هذا الكتاب لا يستحق أن يُصدَق، فمن باب أولى أن لا يُقدَّس"(566).
وتعترض "سارة بنت حامد" على الأديب الكبير "محمود عباس العقاد" الذي قال كلمة حق عن الأناجيل وأنها يمكن الاعتماد عليها، فقالت: " بالطبع فإننا نخالف الأستاذ العقاد فيما ذهب إليه، فلا يجب ألاَّ يدخل في الحسبان أنها العمدة وهيَ على ما هيَ عليه من تحريف وتناقض... أما الأناس الأتقياء أنصار المسيح عليه السلام فقد أتى عليهم الفناء، وحتى لو أحياهم الله ليقرأوا هذه الأناجيل، فبالتأكيد لن يؤيدوا ما تحتويه مـن تحريف وتناقض، وأما الإنجيل الأصلي والذي يمكن أن يُقال عنه أنه العمدة فهو مفقود كما أسلفنا.
وأما قوله "بأن ليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالاعتماد"، فإننا نخالفه أيضًا في رأيه، فقد يكون هذا صحيحًا في نظر المسيحيين المتعصبين، ولكن أن يصدر هذا القول من كاتب مسلم له مكانته كالأستاذ العقاد فهذا ما ننكره، فالعمدة الموثوق بها لكتاب الله العظيم القرآن الكريم، والذي أسهب في الحديث عن المسيح وأمه عليه السلام في عدة آيات من الذكر الحكيم، ولا يُخفى عن القارئ الكريم وجود سورة بِاسم مريم عليها السلام"(567).
ج : 1ــ لم يقل القرآن بتحريف الإنجيل، ولم يتهم المسيحيين بتحريف إنجيلهم، وجميع النصوص القرآنية التي اعتمد عليها النقّاد في اتهامهم للإنجيل بالتحريف، هيَ في حقيقتها لا تخص الإنجيل، وعلى سبيل المثال، نذكر من هذه النصوص:
(1) " أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة 75)، والملاحظ على هذا النص والسياق الذي جاء فيه: أن النص يخص القرآن ولا يخص الإنجيل والمسيحيين، فالخطاب مُوجَــه للمسلمين " أَفَتَطْمَعُونَ"، والمقصود بـ " أَن يُؤْمِنُواْ" أي اليهود، فقد سمع فريق من اليهود القرآن وخدعوا المسلمين وقالوا آمنَّا، ثم حرَّفوا كلام القرآن بعد أن عقلوه، وعندما اجتمعوا ببعضهم وبخ أحدهم الآخر قائلين: لماذا تخبرون المسلمين بكلمات التوراة، فأنهم سيستخدمونها ضدكم؟ وقال الطبري في تفسير هذا النص "يحرّفونه... أي يبدلون معناه وتأويله".
(2) " مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ" (النساء 45)، ومن الملاحظات على هذا النص والسياق الذي جاء فيه:
أ- الخطاب موجه لليهود (الذين هادوا)، ولا يخص المسيحيين على الإطلاق.
ب - التحريف يخص فريق من اليهود وليس كل اليهود (مِّنَ الَّذِينَ) وليس (كل الذين).
ج - الذي حُرف هو كلام الرسول وليس كلام التوراة، فقولهم "سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا" يوضح أن المقصود ليس النص ولكن المعنى، وقولهم " وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا" هيَ إهانة للرسول، فالمقصود بـ " رَاعِنَا" أي "أرعن"، وقولـه " لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ" أي يلوون ألسنتهم في النطق ليعطوها معنًا آخر مخالف، وليس المقصود التحريف في النص، بل التحريف في النطق.
د - الاتهام هنا موجه إلى بعض اليهود الذين حوَّروا كلام القرآن وكلام الرسول، وقال الطبري في تفسيره: " أن اليهود كانوا يسبون محمدًا ويؤذونه بأقبح القول ويقولون له: "اسمع منا غير مسمع " كقول القائل للرجل يسبُّه: "اسمع لا أسمعــك الله ". أما كلمة "راعنا" فقد فسرها بالإسناد عن ابن وهب بأن الراعن هو الخطأ في الكلام... وبناءً على هذا لا يكون اليهود قد حذفوا شيئًا من نصوص الكتاب، أو زادوا عليه شيئًا، بل حوَّروا معنى الكلام بلـي اللسان" (الطبري 8 : 433). وفسَّر الرازي هذا النص بأن قومًا من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على محمد ليسألونه المسألة فيجيبهم عليها، ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه.
هـ - قال "عبد الله يوسف علي" مترجم القرآن للإنجليزية في تفسير هذا النص كان من مُكر اليهود أنهم يلوون الكلمات والتعبيرات ليسخروا من جدية تعاليم الإسلام، فبدل أن يقولوا سمعنا وأطعنا، يقولون بصوت عالٍ سمعنا، ثم بصوت خفيض وعصينا، وكان يجب أن يقولوا باحترام نسمع، ولكنهم يقولون في سخرية غير مُسمعٍ... أنهم استخدموا كلمة مبهمة ظاهرها طيب، بنية سيئة، فكلمة راعنا عربية تقدم الاحترام، ولكن بلي اللسان في نطقها يصير معناها سيئًا وهو خُذنا لمحل الراعي، أو في العبرية أنــت السيء فينا (راجع وليم كامبل - القرآن والكتاب المقدَّس في نور التاريخ والعلم - الفصل الأول من القسم الثاني).
(3) "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ... فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ.." (المائدة 12، 13)، ومن الملاحظات على هذا النص والسياق الذي جاء فيه:
أ - هذا النص موجه لليهود لذلك قال " مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ"، ولم يوجه للمسيحيين.
ب - يتحدث النص عن قلوب اليهود القاسية الذين نقضوا الميثاق وحرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا عمدًا جزءًا من شريعتهم إذ أخفوا بعض الآيات وقرأوا البعض الآخر منفصلًا عن قرينته، وهذا التحريف تحريف معنوي أي تحريف في المعنى، وليس تحريفًا لفظيًا أي تغيير في الألفاظ، ولكن اليهود لم يغيروا شيئًا من النص.
ج - في تعليق "الإمام فخر الدين الرازي" على (المائدة 13) قال: " أن المراد بالتحريف إلقاء الشُبَه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق، إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم، وهذا هو الأصح" (568).
(4) " وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" (المائدة 41)، ومن الملاحظات على هذا النص والسياق الذي جاء فيه:
أ - هذا النص موجه لليهود لذلك قال: " وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ" أي اليهود، ولم يرد أي ذكر للمسيحيين ولا للإنجيل.
ب- أجمع المفسرون أن سبب تنزيل هذا النص أنه زنا محصنان من أهل خيبر وكره اليهود رجمهما، فأرسلوا إلى قريظة ليسألوا الرسول عن حكمهما، وقالوا لمَن أرسلوهم إذا أفتكم الرسول بالجلد فاقبلوا قوله، وإن أفتاكم بغير ذلك مثل رجم هذان المحصنان فلا تقبلوا أحكامه (راجع تفسير الجلالين).
وقال "البيضاوي": " أرسلوهما (من زنيا) من رهط منهم إلى بني قريظة، ليسألوا رسول الله (صلعم)، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم، وقال: أنشدك الله... الذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه: هل تجد فيه الرجم على من أحصن؟. قال نعم، فوثبوا عليه، فقال خفتُ إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. فأمر رسول الله (صلعم) بالزانيين فرجما عند باب المسجد"(569).
2ـــ يُعلق "الأرشمندريت يوسف درَّة الحداد" على مثــل النصوص السابقـة، فيقول: " نرى أولًا: أنه لا ذكر فيها للنصارى والإنجيل على الإطلاق. ونتحدى أيًّا كان أن يبرهن بالقرآن أنه قُصد منها أيضًا النصارى وإنجيلهم. فكيف يفترون على القرآن أنه يتهم النصارى بتحريف الإنجيل؟! أو أن الإنجيل به تحريف؟
نرى ثانيًا: أن القرآن ليقصد فريقًا من اليهود، في كل المواضع، ويذكر أن الفريق الآخر لا يقرونهم في عملهم، فلا مجال للتحريف.
نرى ثالثًا: أن التحريف المذكور هو تأويل النص، لا تبديله، بدليل قوله أن منهم فريقًا "الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" (البقرة 121)، فلا خوف على النص ولا على تأويله الصحيح.
نرى رابعًا: أن المقصود ليس الكتاب كله، أو التوراة كلها، أو أحكامها كلها، بل المقصود آية الرجم في التوراة، وبعض المفسرين يضيف صفة محمد "النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ" (الأعراف 157)، فالتهمة تنحصر كلها في آية أو آيتين من التوراة" (570).
3ـــ لو كان الإنجيل تعرَّض للتحريف فكيف شهد له القرآن مرارًا وتكرارًا؟!، فمثلًا من هذه الشهادات ما يأتي:
أ - " وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ" (آل عمران 3 : 3).
ب - " وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ" (المائدة 5 : 46).
ج - " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (المائدة 5 : 47).
د - " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم" (المائدة 5 : 66).
هـ - " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ" (المائدة 5 : 68).
فلو أن الإنجيل تعرَّض للتحريف والتبديل والتزوير والتزييف... هل يُعقل أن القرآن يأمر بإعمال أحكام كتاب مثل هذا؟!
ولو أن الإنجيل قد فُقد، كادعاء دكتورة سارة بنت حامد... هل يُعقَل أن القرآن يأمر بإعمال أحكام كتاب قد فُقد وضاع ولا وجود له..؟! ولو أن المسيحيين قد حرَّفوا الإنجيل فكيف يمدحهم القرآن مرارًا وتكرارًا ويعدهم بحسن الجزاء؟!، ومن أمثلة هذا المديح:
أ - " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة 62).
ب - " لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ" (آل عمران 113، 114).. عجبًا القرآن يقول على الإنجيل أنه آيات الله، والنقّاد في عنادهم يصرون أنها قد تحرّفت، فلـو تحرّفت، فإنها لم تعد كلمات الله، فكيف دعاها القرآن بآيات الله؟!
ج - " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانــًا وَأَنَّهُـمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (المائدة 82).
د - " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46).
هـ - ذكر القرآن قصة أهل الكهف (سورة الكهف 9 - 25) وقال "الأستاذ توفيق الحكيم" أنهم كانوا مسيحيين، وفعلًا كانوا هكذا، فهم من أهل أفسس شهد لهم القرآن أنهم آمنوا بربهم وزادهم هدىً (الكهف 13)، وشهادة القرآن لهم هيَ بلا شك شهادة لإيمانهم وإنجيلهم.
و - أشاد القرآن بشهداء نجران أصحاب الأخدود (سورة البروج 4 - 9) ووصفهم بالمؤمنين، وهذه شهادة بلا شك لإيمانهم وإنجيلهم.
4ــ الإنجيل الذي شهد له القرآن هو هو الإنجيل الذي بين أيدينـا اليــوم، وشهد بهذا "الدكتور أحمد حجازي السقا" أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الأزهر، فقال: " فالكتاب المقدَّس المتداول الآن في أيدي النصارى، الذي يحتوي على كُتب العهدين: العهد القديم، وهيَ أسفار التوراة الخمسة، وأسفار الأنبياء، والعهد الجديد، وهو الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورسائل الحواريين وسفر الرؤيا، هو الذي كان منتشرًا في زمــان النبــي محمد (صلعم) ومتداولًا في أنحاء العالم" (571).
5ــ شهد "الإمام فخر الدين الرازي" باستحالة تحريف التوراة والإنجيل بسبب سعة انتشارهما في العالم كله، فقال: " أن التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمـل تغييـر اللفظ. وقد بيَّنا أن الأولى (التحريف بالتأويل) أولى، لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ. (ثم أضاف:) عند المتكلمين هذا (تغيير اللفظ) ممتنع، لأنهما (التوراة والإنجيل) كانا كتابين بالغي الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما.." (572).
6ـــ الذين يقولون أن الأناجيل لا يُعتمد عليها لأنها أولًا كُتبت بعد صعود السيد المسيح بزمن ليس بقليل (نحو خمسة وعشرين عامًا)، وثانيًا أنها ترجع إلى مرجع واحد مع تعدد الكتبة، وثالثًا أنها حوت أخبار لم يذكرها المؤرخون، يرد عليهم الأستاذ الكبير "محمود عباس العقاد" مقدمًا شهادته العظيمة للتاريخ، فيقول: " وليس من الصواب أن يُقال أن الأناجيل جميعًا عمدة لا يعول عليها في تاريخ السيد المسيح، لأنها كُتبت عن سماع بعيد ولم تُكتب عن سماع قريب في الزمن والمكان، ولأنها في أصلها مرجع واحد متعدد النَقلة والنُسَّاخ، ولأنها روت من أخبار الحوادث ما لم يذكره أحد من المؤرخين، كانشقاق القبور وبعث موتاهم وطوافهم بين الناس وما شابه ذلك من الخوارق والأهوال.
وإنما الصواب أنها العمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ، إذ هيَ قد تضمنت أقوالًا في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، ومواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها، ورفضها على الجملة أصعب من قبولها عند الرجوع إلى أسباب هذا وأسباب ذلك.
فإنجيل متى مثلًا ملحوظ فيه أنه يخاطب اليهود ويحاول أن يزيل نفرتهم من الدعوة الجديدة، ويؤدي عباراته أداء يلاءم كنيسة بيت المقدس في منتصف القرن الأول للميلاد.
وإنجيل مرقس على خلاف ذلك ملحوظ فيه أنه يخاطب "الأمم" ولا يتحفظ من سرد الأخبار الإلهيَّة التي كانت تحول بين بني إسرائيل "المحافظين" والإيمان بالأهية (بألوهية) المسيح.
وإنجيل لوقا يكتبه طبيب ويقدمه إلى ثري كبير، فيورد فيه الأخبار والوصايا من الوجهة الإنسانية، ويحضر في ذهنه ثقافة الثري الذي أهدى إليه نسخته وثقافة أمثاله من العِلية.
وإنجيل يوحنا غلبت عليه فكرة الفلسفة وبدأه بالكلام عن "الكلمة" Logos ووصف فيه التجسد الإلهي على النحو الذي يألفه اليونان ومَن حضروا محافلهم ورجعوا معهم على عادات واحدة.
وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى مصدر واحد أو أكثر من مصدر، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هيَ العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالاعتماد" (573).
ويحتسب الأستاذ "محمود عباس العقاد" انتشار الإيمان المسيحي بالكلمة بدون سلاح دليل قاطع على معجزة المسيحية وصحة الأناجيل، فيقول: " وبعد فمن الحق أن نقول أن معجزة المسيح الكبرى هيَ هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن ولم تنقضِ بانقضاء أيامها في عصر الميلاد. رجل ينشأ في بيت نجار في قرية خاملة بيـن شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولًا تضيع في أطوائها دولة الرومان، ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين ثم يتمرد ويخلع النير، ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام" (574).
7ـــ فكرة تحريف الأناجيل فكرة بالية لم تُبنى على أي أساس علمي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فيقول "الأب فاضل سيداروس": " لا توحي الأناجيل بأي إحساس بالتحريف أو التلفيق، بل أظهرنا باستمرار عفوية ما ورد فيها، كما أننا لم نُخف الاختلافات العديدة التي إن دلت على شيء فعلى صحة تاريخيتها، لا على تحريفها. فمسألة "التحريف" ليست مبنية على أي أساس علمي يقبله الباحث العلمي، بل هيَ قضية أساسها إيمان بمعتقد معين يخالف مضمون جوهر الإنجيل، أي موت قيامة يسوع المسيح: ".. لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو 20 : 31)" (575).
8ـــ أما قول "سارة بنت حامد" بأن أنصار المسيح الأتقياء قد فنوا عند كتابة الأناجيل، ولو أحياهم الله وقرأوا هذه الأناجيل فبالتأكيد لن يؤيدوا ما تحتويه من تحريف وتناقض، وأن الإنجيل الأصلي فهو مفقود... فهذا قول مغلوط، تربو عنه أي باحثة عن الحق، فكيف تقول عن تلاميذ المسيح الأطهار الحواريين الذين شهد لهم القرآن بأنهم قد فنوا، فأنهم إن كان بعضهم قد غادر هذا العالم الفاني، وقت كتابة الأناجيل، فأنه انتقل إلى عالم البقاء، وإن كانت تقصد المؤمنين الأولين الذين سمعوا أقوال وتعاليم السيد المسيح بأذانهم وشاهدوا أعماله ومعجزاته بعيونهم، فعند كتابة الأناجيل كان عدد كبير منهم على قيد الحياة، وعندما كُتبت الأناجيل فأنهم تلقفوها وقبلوها على الفور لأنها جاءت مطابقة أولًا لما سمعوه وشاهدوه، وأيضًا مطابقة لكرازة الرسل الشفهية، وتعبر عما استلموه وآمنوا به، أمَّا "الدكتورة سارة" فلا أدري كيف تتصوَّر أنه في لحظة من تاريخ البشرية قد انقلب إيمان المسيحيين للنقيض، وكأن المسيحيون قد آمنوا بيسوع كمجرد نبي، ثم انقلبوا وألّهوه!!، وكأنهم كانوا يؤمنون برفعه بدون صلبه، ثم انقلبوا ونادوا بصلبه وعذابه وآلامه، وكأنهم يسرون بإلصاق السخرية والهزء بمعلمهم وإلههم!!، وكأنهم لم يكونوا يعرفوا شيئًا عن الثالوث القدوس وإذ بهم ينقلبون ويؤمنون بالآب والابن والروح القدس الإله الواحد... وهلم جرا... ولو حدث عُشر هذا، هل كان يصمت التاريخ عن فضح أمرهم!! وهل اختفت الساحة من الشجعان الذين يعلنون الحقيقة ويعلون الحق؟! وأين آلاف المسيحيين الذين ضحوا بحياتهم في سبيـل الحفاظ على إيمانهم؟! وكيف تؤيد السماء أُناس حرفوا أناجيلهم؟! وكيف يشهد القرآن لأناس مزيفين ويأمر بالاحتكام لإنجيلهم الذي تعرَّض للتحريف..؟! عجبًا أن تكون هذه أفكار إنسانة باحثة عن الحق، بل وتتجرأ وتناطح "الأستاذ الكبير محمود عبـاس العقـاد" وتخطئه!!.
9ــ رأى الأستاذ العقاد أنه بعد مرور ألفي سنة لا نجد أي مصدر أكثر من الأناجيل للاعتماد عليه بينما ترى الدكتورة سارة أنه ينبغي الاعتماد على القرآن وليس على الأناجيل، ومن المؤكد أن الدكتورة لم تفكر جيدًا فيما قالته، فهل تستطيع أن تستخرج من القرآن إنجيلًا يحكي أقوال وتعاليم وأعمال ومعجزات السيد المسيح بالقدر الذي نجده فـي الأناجيـل الأربعة..؟! وأترك الحكم للقارئ الكريم، بل أن الدكتورة سارة تقول أن القــرآن حوى "عدة آيات" عن السيد المسيح، فهل هذه الآيات القليلة تعطي صورة كاملة عن حياة السيد المسيح كما سجلتها الأناجيل..؟! لقد سجلت الأناجيل كل ما يكفينا للتعرف على شخصية السيد المسيح الإله المتجسد، ثم يأتي يوحنا الحبيب ليوضح لنا أن هناك: " وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَـعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ" (يو21 : 25).
10ـــ ليس معنى دفاعنا ضد قضية تحريف الإنجيل يعني تسليمنا بتحريف التوراة أي العهد القديم، فإن ما دعانا لعدم التطرق لتحريف التوراة لكوننا ناقشنا هذا الأمر بالتفصيل أثناء دراسة النقد الكتابي بالعهد القديم، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ 5 - عهد قديم، س 314 - 315 - 316 - 317 - 318 ص 37-59.
_____
(566) التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة ص 296.
(567) التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة ص 61.
(568) أورده الأرشمندريت يوسف درَّة الحداد - الدفاع عن المسيحية - في الإنجيل بحسب متى ص 86.
(569) أورده الأرشمندريت يوسف درَّة الحداد - الدفاع عن المسيحية - في الإنجيل بحسب متى ص 85.
(572) أورده الأرشمندريت يوسف درَّة الحداد - الدفاع عن المسيحية - في الإنجيل بحسب متى ص 86، 87.
(573) حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث ص 194، 195.
(574) المرجع السابق ص 197.
(575) تكوين الأناجيل ص 72.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/80.html
تقصير الرابط:
tak.la/33vptz4