ج: أولًا: معنى "الغنوسية": "الغنوسية" مشتقة من كلمة γνῶσις "غنوسيس" Gnosis أي "معرفة"، وجاء منه كلمة "غنوسي" Genostic أي مُحب المعرفة، فالغنوسي هو الشخص الذي يتعمق في المعرفة ولا يكتفي بالأمور الظاهرية، بل يغوص في المعرفة الباطنية العميقة ليتعرف على أسرار الظواهر (راجع د. جميل صليبا - المعجم الفلسفي - المجلد الثاني). وقد ادَّعى الغنوسيون أنهم قادرون على معرفة الله بواسطة العقل والمعرفة، دون الحاجة للاستعلان الإلهي، ولذلك اُشتهروا بأنهم "العارفون باللَّه". وإن كانت الغنوسية تعتبر مزيجًا بين الفلسفات والأديان، إلاَّ أنها عظَّمت الفلسفة عن الدين، ومجَّدت المعرفة والعقل على الإيمان، فيقول "ج. ويتلر": "أن الغنوزيس (gnosis) أو المعرفة تتعارض مع البيستيس (pistis) أو المعتقد، فالأولى وقف على المطلعين، والثاني قسمة المؤمنين البسطاء. وهذا التعارض بين الطابع الفلسفي و"الأرستقراطي" في آنٍ معًا الذي تتسم به الغنوسية، وهو يفسر نجاحها: أنه لأمر يدغدغ المشاعر دائمًا أن يعرف المرء أشياء يجهلها العامة. وتاريخ البدع المسيحية يُظهِر لنا أنها استخدمت غالبًا هذا الجاذب المقدم للغرور البشري... أن الغنوسية تقدم لنا اللوحة الأكثر اضطرابا للمذاهب التوفيقية الدينية. فنحن نجد فيها خليطًا من الأسرار الوثنية، والطقوس السحرية، والنظريات الغريبة عن نشأة الكون، والتفسيرات الاعتباطية للعهدين القديم والجديد" (94).
ثانيًا: بداية الغنوسية وتشعبها وتنوعها: بدعة "الغنوسية" ظهرت للوجود قبل بدعة "التهوُّد"، فالغنوسية أقدم من المسيحية. قال البعض أن الغنوسية انتشرت بين اليهود خلال فترة السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، وقال البعض أنها نبتت في الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، وقال آخرون أن سيمون الساحر هو أبو الغنوسية، المهم أن الغنوسية انتشرت نحو سنة 100م مع نهاية القرن الأول الميلادي في الإسكندرية وأنطاكية وروما وأفسس... وازدهرت في القرن الثاني حيث أنتجت العديد من كتب وأناجيل أبوكريفا، والتي كشفت عنها مكتبة نجع حمادي. لقد مزجت الغنوسية بين الفلسفة اليونانية والثنائية الفارسية، وديانات شرق آسيا، واليهودية، والمسيحية، فمثلًا أخذت من الفلسفة الأفلاطونية فكرة الانبثاقات، أي الأيونات وهي كائنات وسيطة بين الله والعالم، وأخذت من الرواقية النظرة الأخلاقية والواجب الأخلاقي للفرد، وأخذت من الثنائية مبدأي الخير والشر، ومن ديانات شرق آسيا النظرة النسكية الزهدية المتصوفة، وأخذت من المسيحية فكرة "اللوغوس". فالغنوسية هيَ خليط ومزيج من الفلسفات والأديان، في محاولة لتفسير أصل الشر، وكيفية الخلاص منه. وتنوعت الغنوسية فهناك غنوسية وثنية تنزع نحو الممارسات الوثنية، وغنوسية يهودية ويمثلها "فيلون" الفيلسوف اليهودي السكندري في القرن الأول الميلادي، وغنوسية مسيحية نادى بها القديس أكليمنضس السكندري الذي قال " لا إيمان بغير معرفة، ولا معرفة بغير إيمان" وأن الإنسان المسيحي هو الغنوسي الحقيقي. وتشعبت الغنوسية إلى أكثر من خمسة عشر فرقة تتباين فيما بينها في بعض المعتقدات، وتجتمع معًا في بعض المبادئ العامة للغنوسية. ومن أشهر الغنوسيين "كيرينثوس" Cerinthus، و"فالنتينوس" Valentinus، و"باسيلدس" Basilides و"كاربوكراتس" Carpocrates، و"ماركيون" Marcion. كما ظهرت "الدوستية" Docetism، و"الألوجينية"، وقد تأثر "تاتيان" Tatian بالغنوسية.
وظلت الغنوسية قائمة حتى القرن السادس الميلادي ثم تضاءل تأثيرها لأن الإنسان لم يجد نفسه فيها. ففي ظلال الغنوسية يشعر الإنسان أنه غريب عن الكون الذي يعيش فيه، بل غريب عن نفسه، فالروح ضد المادة، والمادة ضد الروح، والمادة دائمًا هيَ شر وخطيئة وفساد. وفي ظل الغنوسية يجهل الإنسان وجوده ولا يعرف مصيره، وهناك مقطع يُنسب إلى "تبودوتيس" ذكره القديس أكليمنضس السكندري يوضح النظرة التشاؤمية للغنوسية، ويذكر بعض الأسئلة التي تعذب الغنوسيين مثل: "ماذا كنا؟ ماذا صرنا؟. وأين كنا؟ أين رُمينا؟ إلى أي هدف نسرع؟ من أين نجونا؟ ما هيَ الولادة؟ ما هيَ الولادة الجديدة؟..." (95). ويقول "وليم باركلي": "أن المسيحي لا يحتقر الوجود، ولا يعتقد أن يدًا أخرى غير يد الله قد قامت بإبداعه. إنه يمجد الله في الطبيعة والحياة، ويرى كل ما في الوجود مسبحًا باسم الله بالرغم من القصور والخطيئة، والآلام الناشئة من خطية الإنسان، أنه يؤمن أن اليد التي ثُقبت على خشبة العار في سبيل فداء الإنسانية... هيَ التي قامت بإبداع هذا الوجود أولًا. وما عملية الفداء إلاَّ طريق الله بواسطة المسيح، ليعيد خلق الوجود من جديد للمرة الثانية، بصورة أكمل وأمجد، مما حدث في المرة الأولى" (96).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثالثًا: إنجيل يوحنا ليس إنجيلًا غنوسيًا: تصوَّر البعض خطأً أن إنجيل يوحنا إنجيلًا غنوسيًا لأنه استخدم مفردات غنوسية مثل "اللوغوس"، و"النور"، و"الحياة"، و"الحق"... إلخ. والحقيقة أنه قبل اكتشافات وادي قمران سنة 1948م، وقبل اكتشاف مخطوطات مكتبة نجع حمادي سنة 1954م كانت معرفتنا عن الغنوسية قاصرة على ما دوَّنه بعض الآباء في ثنايا ردودهم على الأفكار الغنوسية، ولكن بعد اكتشافات وادي قمران، ونجع حمادي، ومخطوطات أخرى لها صلة بالغنوسية في أخميم والبهنسا والفيوم بدأت معرفتنا تزداد وتتسع عن الغنوسية بفرقها العديدة (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (2) س 136). وتعرفنا على الأفكار الغنوسية من خلال الأناجيل الأبوكريفا الغنوسية مثل "إنجيل الحق"، و"إنجيل توما" وغيرهما مما أكد بشكل قاطع أن "إنجيل يوحنا" ليس إنجيلًا غنوسيًا، ولم يأخذ من الغنوسية، بل ربما أخذت منه الأناجيل الغنوسية التي كُتبت بعده في القرن الثاني الميلادي، وأيضًا ليس كاتب إنجيل يوحنا غنوسيًا عاش في الإسكندرية في القرن الثاني. إن مفاهيم إنجيل يوحنا تختلف عن المفاهيم الغنوسية لنفس المفردات المشتركة، فمثلًا:
أ - إعتقد الغنوسيون أن "اللوغوس" كائن وسيط بين الله والعالم، بينما أكد يوحنا الإنجيلي أن اللوغوس هو الله: "وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله" (يو 1: 1)، وبينما أنكر الغنوسيون حقيقة التجسد الإلهي، قال يوحنا الإنجيلي: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يو 1: 14).
ب - تحدثت الغنوسية عن ثنائية أصل النور وأصل الظلمة، ومثل هذه الثنائية لم يتعرض لها يوحنا الحبيب في إنجيله.
جـ - يعتقد الغنوسيون أن المعرفة العقلية الباطنة كافية لخلاص الإنسان من الشر، بينما يتحدث يوحنا الإنجيلي عن الإيمان بابن الله كطريق للخلاص، فلا خلاص بدون الإيمان: "وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ الله وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو 20: 31).
فكثير من الغنوسيين تأثروا بإنجيل يوحنا واقتبسوا منه، فالقديس إيرينيئوس يقول عن "فالنتينوس" وأتباعه "أنهم: "يفندون أنفسهم في المسألة الأكمل للإنجيلي بحسب يوحنا" وقال هيبوليتوس عن "باسيليدس" الهرطوقي أنه اقتبس من إنجيل يوحنا قوله " كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ" (يو 1: 9)، وادَّعى "مونتانوس" الهرطوقي نحو سنة 140م أنه اللوغوس وأنه البارقليط (راجع موقع هوليبايبل). لقد مثلت الغنوسية خطرًا على المسيحية، ليست كدين منافس للمسيحية، إنما عن طريق تفسير التعاليم والعقائد المسيحية من خلال الأفكار الغنوسية.
_____
(94) الهرطقة في المسيحية - تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية، ص52 ، 53.
(95) ترجمة نجيب الياس - مدخل إلى الكتاب المقدَّس - دار الثقافة، ص37.
(96) ترجمة الدكتور عزت زكي - تفسير العهد الجديد - بشارة يوحنا جـ 1، ص57.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/647.html
تقصير الرابط:
tak.la/vc49tvp