ج: أولًا: معنى الهرطقة: كلمة "هرطقة" hairesis كلمة يونانية اُستخدمت في البداية للتعبير عن "الاختيار" أو "الانتقاء" أو "التفضيل" لرأي معين وتميُّزه على غيره من الآراء، أو تفضيل مذهب معين من المذاهب الفلسفية، أو مدرسة معينة من المدارس الفكرية اليونانية. ثم انتقل استخدام لفظ "الهرطقة" من الفلسفات إلى الإيمان، فأُستخدم للتعبير عن مذهب أو جماعة أو شيعة من الجماعات اليهودية مثل الصدوقيين والفريسيين والأسينيين والهيروسيين، فجاء في سفر الأعمال: "فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ الَّذِينَ مَعَهُ الَّذِينَ هُمْ شِيعَةُ (hairesis) الصَّدُّوقِيِّينَ" (أع 5: 17). وقال بولس وبرنابا للرسل والمشايخ في أورشليم: "وَلكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا..." (أع 15: 5). كما قال بولس الرسول للملك أغريباس: "حَسَبَ مَذْهَبِ ((hairesis عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيًّا" (أع 26: 5)، وبنفس المعنى استخدم المؤرخ اليهودي "يوسيفوس" (35 - 100م) نفس اللفظ "هرطقة" للتعبير عن مذهب أو شيعة أو جماعة، بل أن كلمة "هرطقة" أُطلقت على المسيحية عند نشأتها، فقال بولس الرسول لفيلكس الوالي: وَلكِنَّنِي أُقِرُّ لَكَ بِهذَا أَنَّنِي حَسَبَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُونَ لَهُ شِيعَةٌ hairesis)) هكَذَا أَعْبُدُ إِلهَ آبَائِي" (أع 24: 14). وأخيرًا صارت كلمة "هرطقة" قاصرة على المجال الديني فقط، وتُعبر عن أي شخص أو جماعة انحرفت عن الإيمان المستقيم، فأي رأي شاذ يقود للانشقاق هو "هرطقة". والكلمة المرادفة للهرطقة هيَ البدعة، فجاءت كلمة "بدعة" للتعبير عن الهرطقة. أيضًا كلمة "بدعة" secte أي "طائفة" من الكلمة اللاتينية sequi وهي في معناها المتسع تشير إلى مجموعة من الأشخاص يعتنقون نفس الفكر أو نفس المذهب. فمعنى "بدعة" أي أن يبتدع الإنسان أو يخترع رأيًا شاذًا عن الإيمان القويم يقوده إلى الهلاك الأبدي كقول بطرس الرسول: "كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضًا مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ الَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ. وَإِذْ هُمْ يُنْكِرُونَ الرَّبَّ الَّذِي اشْتَرَاهُمْ يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكًا سَرِيعًا" (2بط 2: 1)، وقال بولس الرسول لأهل كورنثوس: "أَسْمَعُ أَنَّ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٍ... لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ بِدَعٌ" (1كو 11: 18-19). وصارت كلمة "هرطقة" كلمة سيئة السمعة يشمئز منها الإنسان السوي، فلا ننسى قصة الإنسان القديس الذي كلما أتهموه باتهام ظالم، مثل اتهامه بالكبرياء أو الأنانية أو العصبية، كان يوافقهم قائلًا: حسنًا قلتم لأني أنا هكذا. ولكن عندما قالوا له: أنت هرطوقي، اعترض بشدة قائلًا: لا... لست أنا هرطوقي، فتعجبوا وسألوه: لماذا قبلت كل الاتهامات الظالمة ورفضت بشدة اتهامك بالهرطوقية قال: لأن الهرطوقي لا مكان له في الملكوت.
ثانيًا: أسباب انتشار الهرطقات مع بداية المسيحية: من أهم هذه الأسباب، ما يلي:
1- انتشرت المسيحية كدين حديث يحمل مفاهيم جديدة على آذان البشرية، كما أنها انتشرت بسرعة فائقة في شتى بقاع الأرض، حتى غزت العالم اليهودي والعالم اليوناني في وقت وجيز، ودخل إليها أناس ذو معتقدات فاسدة وعادات سيئة توارثوها أبًا عن جد في بيئات مختلفة، فحاول بعض منهم أن يدمج معتقداتهم القديمة بمعتقداتهم الجديدة، فمثلًا حاول بعض اليهود المتشددين الذين آمنوا أن يخترعوا ديانة جديدة هيَ "اليهو-مسيحية". كما حاول بعض المؤمنين من أصل وثني أن يمزجوا معتقداتهم القديمة مثل السحر والخلاعة بالمسيحية لينشيئوا ديانة جديدة، هيَ "الوثنية المسيحية". وأيضًا هناك من أراد أن يجمع بين الفلسفة اليونانية والمسيحية لينشئوا ديانة "الغنوسية المسيحية"... ويقول "الأنبا يؤانس" أسقف الغربية: "أن المسيحية كديانة ناشئة أخذت مكانها على مسرح الحياة في العالم القديم وسط كثرة من الديانات المتنوعة، والتيارات الفكرية المتباينة، والفلسفات المختلفة، التي كان يموج بها حوض البحر المتوسط، حيث مَهْد المسيحية... وإن كانت هذه الفلسفات المختلفة بفلاسفتها ومعتنقيها، قد مهَّدت للمسيحية في بعض النواحي، لكنها شكلت صعوبة بالغة أمام الكنيسة المسيحية في نواحي جوهرية خاصة في مرحلة طفولتها... حاول بعض المتنصرين من معتنقي هذه الفلسفات أن يجدوا تفسيرًا للمسيحية على ضوء دياناتهم وفلسفاتهم القديمة أو قل، أنهم حاولوا أن يوفقوا بين هذه وتلك... فكانت أعراض الانحرافات اللاهوتية والعقيدية، ومعها ظهرت الهرطقات بمفهومها الكامل، التي أحدثت بلبلة فكرية كبيرة أقلقت الكنيسة وأتعبتها... كان الشيطان - عدو الكنيسة - دائمًا وراء هذه البدع يستتر فيها ويحرض المناؤين لها... وكان الكبرياء والاعتداد بالرأي يسير جنبًا إلى جنب مع الهرطقات... والهرطقات وإن كانت شرًا ما في ذلك شك، لكن الله أخرج منها خيرًا للكنيسة. فقد دفعت هذه الانحرافات الإيمانية إلى البحث، وحضت على الدفاع عن الإيمان المسلَّم مرة واحدة للقديسين" (70).
2- صعوبة الإيمان المسيحي، وسموه عن مستوى العقل، هذا من جانب، ومن جانب آخر محاولة البعض أن يُخضِع الإيمان للعقل، مما نتج عنه هرطقات عديدة، فمثلًا لحل مشكلة الشر قالوا بالثنائية، فهناك حسب تصوُّرهم إله للخير وآخر للشر، وبسبب الصراع بين الجسد والروح نسبوا الروح للعالم السمائي ونظروا للمادة بما فيها الجسد البشري على أنها شر وخطيئة. لقد حاولوا إقحام العقل في أمور أعلى من مستوى العقل، فأنتجوا الهرطقات.
3- ارتبطت الهرطقات دائمًا بالكبرياء والاعتداد بالذات والعناد والإصرار على الرأي الشخصي مهما كان خاطئًا، وربما هذا يرجع إلى تمتع الهرطوقي بذكاء حاد، ولكنه دائمًا يسئ استخدام هذا الذكاء.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثالثًا: أهم البدع والهرطقات التي ظهرت في القرن الأول ثم نمت وتشعبت فيما بعد: ظهرت هرطقات عديدة متنوعة في القرن الأول الميلادي، نذكر منها:
1- هرطقات نزعت نحو اليهودية: مثل "حركة التهود" التي قادها بعض اليهود المتشددين الذي آمنوا بالمسيحية، فأرادوا أن يحتفظوا بما نشأوا عليه وشبوا عليه مثل ضرورة الختان لأن غير المختون كان يُقطع من شعب الله، وحفظ السبت لأن من كان يكسر السبت كان يُقتل، هذا بالإضافة لإيمانهم بالمسيحية. لقد أرادوا أن يحتسبوا المسيحية كشيعة من الشيع اليهودية. وانبثق من بدعة "التهود" "بدعة الأبيونية" سواء المتزمتة أو المعتدلة، فأنكر الأبيونيون ألوهية المسيح وأزليته، وبعضهم من أنكر ميلاده المعجزي. كما ظهرت الجماعة "المعمدانية" تلك المجموعة التي عظَّمت وكرَّمت يوحنا المعمدان على السيد المسيح لأنه هو الذي عمَّد المسيح، وقدَّمه للخدمة.
2- هرطقات نزعت نحو الوثنية: مثل هرطقة "النيقولاوية" التي نادت بشيوعية النساء، و"السيمونية" التي أنشأها سيمون الساحر، وخلفه "ميناندر" والتي مزجت بين المسيحية والسحر، ومحاولة اقتناء المواهب بالمال.
3- هرطقات نزعت نحو الغنوسية: حيث مزج مثل هؤلاء الهراطقة، وهم كثيرون، بين الفلسفة اليونانية واليهودية والمسيحية والفارسية، وقد تشعبت الغنوسية إلى أكثر من خمس عشرة فرقة، ومن مبادئهم العامة:
أ - الاعتقاد بالثنائية، فهناك حسب تصورهم إلهان: الإله الأعظم الاسمى المُحب البار المنزَّه عن التعامل مع المادة، فهو لم يخلق العالم ولا الإنسان، والإله العادل القاسي سريع الغضب المنتقم الذي خلق العالم والإنسان، وهو إله اليهود.
ب - اعتقدوا بتعدد الآلهة وهي الأيونات أو الانبثاقات، من الإله الاسمى، فهى كائنات وسيطة بين الله والكون، وكلما ازدادت بُعدًا عن الإله الأعظم كلما قلت ألوهيتها، وكلما زاد جهلها بالإله الأعظم. ودائرة الألوهة أو مجمع الآلهة (الملء) أو البليروما وصل عدد الأيونات فيه حسب فالنتينوس إلى ثلاثين أيونًا، بيما رفع باسيليوس العدد إلى 365 بعدد أيام السنة.
جـ - نادوا بأن المعرفة العقلية الباطنية التأملية هيَ طريق الخلاص والنجاة، وليس الإيمان بالسيد المسيح... إلخ. ومن أشهر الغنوسيين في نهاية القرن الأول وحتى منتصف القرن الثاني "كيرينثوس"، و"فالنتينوس"، و"باسيليدس"، و"كاربوكراتس"، و "ماركيون".
4- هرطقات نزعت نحو إنكار التجسيد الإلهي وعقيدة الفداء: الهراطقة الذين نظروا للمادة على أنها شر، فاستبعدوا أن يتخذ الإله الأعظم جسدًا بشريًا ماديًا، فقالوا أن جسد السيد المسيح هو جسد خيالي، أثيري، شبحي، غازي، ظاهري، مثل "الدوسيتيين". والذين استبعدوا أن الله يموت على الصليب مثل "باسيليدس" ولم يدرك أن الله مات بحسب الناسوت وليس بحسب اللاهوت فاخترع فكرة أن يسوع أُلقي بشبهه على سمعان القيرواني فصُلب سمعان ونجا يسوع.
رابعًا: هل الهرطقات هيَ التي دفعت القديس يوحنا لكتاب إنجيله؟... كما رأينا من قبل أن القديس يوحنا الإنجيلي ظل على قيد الحياة حتى نهاية القرن الأول الميلادي، بينما انتقل جميع رفقائه، إلى فردوس النعيم، وسكنوا مساكن النور، بعد أن غيَّروا وجه المسكونة، وكان تحت أعين يوحنا الحبيب الأناجيل الثلاث الإزائية، وهو لم يفكر في كتابة إنجيل رابع، ولكن لأنه كان هناك أمور عديدة شيقة عاشها يوحنا ورواها شفاهة لأولاده في مدينة أفسس، مثل لقاء يسوع بنيقوديموس والسامرية والمولود أعمى، وإقامته لعازر بعد أربعة أيام من موته... مثل هذه الأمور التي لم يرد لها ذكر في الأناجيل الأخرى، دفعت المقرَّبين من يوحنا الرسول أن يلحوا عليه ليكتب لهم هذه الأمور، حتى لا تضيع أدراج الزمن، فاقترح عليهم أن يصوموا جميعًا ثلاثة أيام حتى تُعلن السماء مشيئتها، وإذ أُعلن لأندراوس، غالبًا أحد الرسل السبعين، في حُلم أن يكتب يوحنا إنجيله، فأطاع يوحنا صوت السماء وإنصاع للمشيئة الإلهيَّة وكتب إنجيله. ومع هذا نستطيع أن نقول أنه لكثرة البدع والهرطقات التي شاعت حينذاك، فقد كانت هناك ضرورة لهذا الإنجيل اللاهوتي الذي يحدثنا عن ألوهية السيد المسيح، وأزليته وتجسده، ويحدثنا عن الآب والروح القدس... إلخ. يقول "ماريوس فيكتورينوس" (290 - 364م) في وثيقة "تعاليم في سفر الرؤيا": "أن يوحنا الرسول كتب إنجيله بعد كتابة سفر الرؤيا وذلك بعد أن أذاع كل من الهراطقة فالنتينوس Valentinus وكيرنثوس Cerinthus وإبيون Ebion وآخرون في مدرسة الشيطان تعليمهم، وذاع في كافة أركان الدنيا، مما اضطر الأساقفة الذين على كل البلاد المجاورة أن يجتمعوا إلى القديس يوحنا واضطروه أن يكتب إنجيل شهادته" (71). وهذا ما قاله أيضًا القديس أبيفانيوس أن القديس يوحنا كتب إنجيله ردًا على هرطقات عصره، بناءً على رجاء الكنائس... بل أن يوحنا الرسول نفسه أوضح الغاية من كتابة إنجيله: "وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ الله وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو 20: 31).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
خامسا: كيف تعاملت الكنيسة مع الهراطقة؟... كانت الكنيسة تبذل كل جهد ممكن في تعليم وإنذار أي شخص يقدم تعليمًا خاطئًا، تعامله بلطف وتطيل أناتها عليه لعله يرجع إلى رشده، ولكن عندما يعاند هذا الإنسان ويصر على رأيه، فخوفًا على بقية القطيع من الأفكار السامة كانت الكنيسة تضطر اضطرارًا إلى حرمه، وقلبها ينفطر عليه لأنه أسلم نفسه للهلاك الأبدي... كان أمام الكنيسة أمانة التعليم الكتابي الواضح والصريح:
† " وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ" (رو 16: 17).
† " اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَعْرِضْ عَنْهُ" (تي 3: 10).
† " ثُمَّ نُوصِيكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ وَلَيْسَ حَسَبَ التَّعْلِيمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا" (2 تس 3: 6).
† " وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِالرِّسَالَةِ فَسِمُوا هذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ" (2 تس 3: 14).
† " إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ" (2 يو 10-11).
ووصف "الشهيد يوستين" الهراطقة بأنهم " فاقدي الإيمان" و" زنادقة" و"مجدفين" (راجع ج. ويتلر - الهرطقة في المسيحية - تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية ص 21). ويقول "العلامة ترتليان": "لأنهم هراطقة فلا يمكن أن يكونوا مسيحيين حقيقيين، لأنهم حصلوا على ما أتبعوه ليس من المسيح بل باختيارهم الخاص. ومن هذا السعي جلبوا على أنفسهم وقبلوا اسم هراطقة. وهكذا فلكونهم غير مسيحيين لم ينالوا أي حق في الأسفار المسيحية المقدَّسة، ومن العدل أن نقول لهم: من أنتم؟ من أين ومتى جئتم؟ ولأنكم لستم منا ماذا تفعلون بما لنا؟ حقًا بأي حق يا ماركيون تقطع خشبي؟ ومن الذي سمح لك يا فالنتينوس أن تحوّل مجاري نبعي؟" (راجع الهرطقات المسيحية الأولى - مختصر تاريخ الكنيسة القرن الرابع جـ 2).
وقبل مجمع نيقية كانت الكنيسة تكتفي بحرم الهرطوقي المُصِر على هرطقته، فيُفرَز من كنيسة الله المقدَّسة، ولا يُسمَح له بالمشاركة في العبادة والتناول من الأسرار المقدَّسة، ولا تصلي عليه الكنيسة عند وفاته، وهذا ما هو متبع في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية حتى اليوم. أما الكنيسة الغربية، ولاسيما بعد أن صارت الديانة المسيحية الديانة الرسمية، لم تكتفِ بالحرم الكنسي للهراطقة، إنما صار الحكم مدنيًا أيضًا، فبعد حرم أريوس أو نسطور أو غيرهما من الهراطقة حُكم عليهم بالنفي بعيدًا عن أوطانهم، حتى يقل تأثيرهم على من يحيطون بهم، وفيما بعد وصل الأمر للأذى الجسدي من جَلْد وتعذيب يصل إلى حد الموت، فمثلًا في القرن الثالث عشر أصدر "البابا بونيفاسيوس الثامن" مرسومًا جاء فيه: "يجب وضع السلطة المادية للملوك والجنود في خدمة الكنيسة والانصياع لإشارة الكاهن" (72). كما أصدر مرسومًا بأن كل من يستقبل هرطقوي أو يدافع عنه أو يساعده أو حتى يدفنه فأنه يستحق الحرم، وفي حالة دفن إنسان هرطوقي لا يُحل المذنب من العقوبة إلاَّ إذا أخرج جثمان الهرطوقي من القبر (راجع المرجع السابق ص 28). وفي القرن الرابع عشر أصدر "الإمبراطور فريدريك الثاني" مرسومًا جاء فيه: "نقرر أن جرم الهرطقة، أيًّا يكن اسم البدعة، هو في عِداد الجرائم العامة" (73).
وكم من الجرائم اُرتكبت في القرون الوسطى باسم الحرم الكنسي، حتى وصلت العقوبة إلى حرق الهرطوقي وهو حي، فقد أصدر مجلس مدينة جنيف بموافقة "جون كالفن" البروتستانتي حكمه بحرق "سرفتيوس" حيًا لأنه أنكر عقيدة الثالوث وأزلية الابن، وكان سرفتيوس أستاذًا لاهوتيًا، وطبيبًا وفيزيائيًا ومترجمًا ومؤلفًا وخبيرًا في الأرصاد الجوية والجغرافية، ودراسة التوراة، وعلم التشريح، وفي يوم الجمعة 27 أكتوبر 1553م نُفذ الحكم بحرق سرفتيوس حيًا (راجع كتابنا: يا أخوتنا البروتستانت... هلموا نتحاور جـ 1 ص 75 - 77). بل أن الشك في إنسان على أنه هرطوقي كان يقوده للموت بحجة إذا كان هرطوقي فهو مستحق للموت، وإذا كان بريئًا فأنه سيصل للسماء. لكن في عام 1576م بعد وفاة جون كالفن تخلت الكنيسة الكالفينية عن هذه البشاعات، وجعلت عقوبة الهرطوقي فقط هو منعه من الاشتراك في العشاء السري. ومن الجدير بالذكر أن "القديس أغسطينوس" الذي عمل محاميًا بارعًا من قبل، لم يكن موافقًا على عقوبة إعدام الهراطقة، لأنها لا تُصلح الخاطئ. وفي عام 1911م جاء في "القاموس الدفاعي عن الإيمان الكاثوليكي": "تبرّر الضرورة حكم الإعدام، ففي إحدى الحقب أمكن أن يكون ضروريًا وملائمًا، وبسبب الزمان والأفكار والعادات التي تغيرَّت، يمكن اليوم اعتبار هذه العقوبة القصوى غير ملائمة، لا بل خطيرة" (74).
_____
(70) الكنيسة في عصر الرسل - البدع والهرطقات، ص350 ، 351.
(71) أورده الأب متى المسكين - المدخل لشرح إنجيل يوحنا، ص52 ، 53.
(72) أورده ج. ويتلر - الهرطقة في المسيحية - تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية، ص28 ، 29.
(73) المرجع السابق، ص28.
(74) أورده ج. ويتلر - الهرطقة في المسيحية - تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية، ص31.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/641.html
تقصير الرابط:
tak.la/sjtj9nx