ج: كثيرة هيَ شكوك النُقَّاد الموجهة ضد قانونية إنجيل يوحنا ونسبته ليوحنا بن زبدي، فمنهم من ادعى أن كاتبه شخص آخر غير يوحنا الرسول وهو المدعو "يوحنا الشيخ" أو "القس يوحنا"، ومنهم من ادعى أن الكاتب هو أريستون. منهم من قال أن كاتب الإنجيل أحد تلاميذ يوحنا الرسول، وقد استعان بما كتبه يوحنا الرسول من مذكرات وخواطر. هناك من ادعى أنه نتاج فلسفة يونانية، فكاتبه فيلسوف أفلاطوني عاش في الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي، ومنهم من قال أن الإنجيل نتاج "المجموعة اليوحناوية" التي تأثرت بتعاليم وأدب وفلسفة يوحنا الرسول. وتطرَّف البعض إلى حد أنه ادعى أن هذا الإنجيل مزيَّف، هدف كاتبه إلى تأليه المسيح، وجعل المخلوق خالقًا. وأيضًا كثيرة هيَ الأدلة الداخلية، والخارجية التي تؤكد قانونية إنجيل يوحنا وصحة نسبته إلى كاتبه يوحنا الحبيب. ويكفي أن نقول أن أي إنسان يقرأ هذا الإنجيل بحيادية وتمعن، فأنه يقتنع سريعًا بعظمة هذا الإنجيل وسموه وسماوية مصدره، فالإنجيل يشهد لنفسه، وليس في حاجة إلى شهود، ولكن لأجل مساندة ضعفاء الإيمان. دعونا نبحر في الأدلة الداخلية، وبعدها الأدلة الخارجية القوية التي تثبت وتؤكد قانونية إنجيل يوحنا. جاء في "دائرة المعارف الكتابية": "أنه بطرق كثيرة، يكشف كاتب الإنجيل عن شخصيته، وأنه هو الرسول يوحنا. فقد كان - على سبيل المثال - يهوديًا، ويهوديًا من سكان فلسطين ملمًا بطبوغرافية أورشليم... إلخ.، كما كان رسولًا، وشاهد عيان، "التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" (يو 13: 23؛ 20: 2؛ 21: 7، 20)، والشهادة المسجلة فيه (يو 21: 24) من الذين عرفوا الكاتب آبان حياته، لهي شهادة بالغة القيمة في هذا المجال" (47)، فدعنا يا صديقي نورد بعض الأدلة الداخلية، من داخل الإنجيل نفسه، والتي تؤكد قانونية إنجيل يوحنا.
![]() |
أولًا: الكاتب يهودي: 1- كاتب إنجيل يوحنا يهودي ولهذا اهتم بتدوين بعض نبوات العهد القديم عن السيد المسيح، مثل:
أ - المسيح هو الحمل الفصحي (يو 1: 36).
ب - جسد المسيح هو الهيكل الحقيقي الذي يقيمه بعد ثلاثة أيام (يو 2: 19).
جـ - سيُرفع السيد المسيح على الصليب مثلما رُفعت الحيَّة النحاسية (يو 3: 14).
د - السيد المسيح هو المن السماوي (يو 6: 49-50).
هـ - نبوة إشعياء النبي عن عمى اليهود عن معرفة المسيا (يو 12: 37).
و - نبوة عن خيانة يهوذا (يو 13: 18؛ 17: 12).
ز - نبوة عن تقسيم ثياب يسوع (يو 19: 23).
ح - نبوة عن عطش يسوع على الصليب (يو 19: 29).
ط - نبوة عن طعن السيد المسيح بالحربة وجريان دم وماء في جنبه (يو 19: 37).
وفي اقتباسات القديس يوحنا من العهد القديم كان يرجع للنص العبري.
2- لأن الكاتب يهودي، لهذا استخدم الأسلوب العبري في الكتابة، الأسلوب الثلاثي والسباعي، فمن أمثلة الأسلوب الثلاثي أنه ذكر أن السيد المسيح ذهب إلى الجليل ثلاث مرات وأجرى فيها 3 معجزات، وأيضًا ذهب لليهودية ثلاث مرات وأجرى فيها ثلاث معجزات، وسجل ثلاث كلمات للسيد المسيح وهو على الصليب، وبعد قيامته ظهر ثلاث مرات لتلاميذه، كما استخدم مضاعفات رقم (3) أما عن أسلوب السباعيات فتحدثنا عليه من قبل (راجع س632)، وفي استخدام الكاتب الأسلوب العبري مال إلى تكرار بعض المفردات عشرات المرات، مثل النور، والظلمة، وآمن، والعالم، والشهادة، والمجد، والحياة، والحق... إلخ.، مع أن هذا الأمر مستهجن في اللغة اليونانية (راجع الأستاذ دره الحداد - صوفية المسيحية 1- الإنجيل بحسب يوحنا ص 61). فقد كان يوحنا الحبيب يفكر بالأرامية ويكتب باليونانية.
3- لأن الكاتب كان يهوديًا لذلك كان مُلمًا بالعادات والأعياد والطقوس اليهودية، فبالنسبة للعادات أوضح انتظار اليهود للمسيا (يو 1: 19 - 27؛ 4: 25؛ 6: 14-15)، وتحدث عن التطهير (يو 2: 6؛ 3: 25)، والعداوة بين اليهود والسامريين (يو 4: 9)، وتحدث عن السبت (يو 5: 10؛ 9: 14)، والختان (يو 7: 22)، وعادات دفن الموتى (يو 11: 44؛ 19: 40)، ورفض اليهود دخول ديار الأمم (دار الولاية) لئلا يتنجسوا (يو 18: 28). وبالنسبة للأعياد ذكر عيد الفصح (يو 2: 13، 23؛ 13: 1؛ 18: 28)، وعيد المظال (يو 7: 2)، وعيد التجديد (يو 7: 14)، واليوم الأخير العظيم من العيد (يو 7: 37)، حيث يستقون المياه من بركة سلوام ويسكبونها على المذبح.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثانيًا: الكاتب من سكان فلسطين: يعرف الكاتب تاريخ فلسطين وجغرافيتها ومعالم الهيكل في القرن الأول الميلادي، ويذكر أنه استغرق في البناء 46 سنة (يو 2: 20)، ورئيس الكهنة هو قيافا، والسابق هو حنان (يو 11: 49؛ 18: 13). يعرف أن " بَيْتِ عَبْرَةَ" في " عَبْرِ الأُرْدُنِّ" (يو 1: 28) وأن " قَانا" في الجليل (يو 2: 1، 11) والطريق بين قانا إلى كفرناحوم منحدرة (يو 2: 12)، و" عَيْنِ نُونٍ" هيَ " بِقُرْبِ سَالِيمَ" (يو 3: 23)، وأن يسوع عند عودته من اليهودية إلى الجليل لا بد أن يجتاز السامرة (يو 4: 3)، وحدد موقع مدينة " سُوخَارُ" و" بِئْرُ يَعْقُوبَ" في السامرة بالقرب من جبل جرزيم (يو 4: 5-6)، وأن " بِرْكَةٌ بَيْتُ حِسْدَا" تقع عند باب الضأن في أورشليم وتحوي خمسة أروقة (يو 5: 2)، وأن بحر الجليل هو بحيرة طبرية (يو 6: 1)، و" أَفْرَايِمُ" في بيريه (يو 11: 54)، وحدَّد المسافة بين "بيت عنيا" وأورشليم بخمسة عشرة غلوة (يو 11: 18)، وقال "رينان": "لا يستطيع أن يكتب بشارة يوحنا سوى شخص عرف وادي قدرون، أو وُلِد على مقربة منه" (48).
ثالثًا: الكاتب من الاثني عشر: الكاتب شاهد عيان للأحداث، عاين السيد المسيح وشهد قائلًا: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو 1: 14) و" وَرَأَيْنَا" هنا تعني الرؤية الفسيولوجية وليست الرؤيا الروحية بالإيمان، وهذا الشهادة تشبه الشهادة التي سجلها يوحنا الرسول في رسالته الأولى عندما قال: "الَّذِي سَمِعْنَاهُ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا" (1يو 1: 1)، فالكاتب شاهد عيان وكان واقفًا عند الصليب وسجل الحدث حتى أنه يقول: "لكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. وَالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ وَشَهَادَتُهُ حَق وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ" (يو 19: 34-35).
رابعًا: الكاتب هو " التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ": أشار يوحنا الحبيب إلى نفسه بأنه " التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" في هذا الإنجيل خمس مرات (يو 13: 23؛ 19: 26؛ 20: 2؛ 21: 7، 20)، وبالطبع هذا القول لا يعني أن السيد المسيح لم يكن يحب بقية التلاميذ ولا يعني أنه كان يحبهم حبًا أقل من محبته ليوحنا، لكن الحقيقة أن حُب يوحنا للمسيح هو الذي فاق حب أقرانه له، حتى أنه كان يتكئ في حضن يسوع ويسند رأسه على صدره (يو 13: 23، 25)، فظهر في الصورة كأن يسوع يحبه أكثر. وأوضح القديس يوحنا بأنه هو كاتب الإنجيل عندما كتب يقول: "هذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهذَا وَكَتَبَ هذَا" (يو 21: 24)، فهو شاهد عيان " يَشْهَدُ بِهذَا" فهو أحد السبعة الذين شاهدوا السيد المسيح بعد قيامته على بحر طبرية، وأخبر بطرس قائلًا: "أَنَّهُ الرَّبُّ"، وجاء في "دائرة المعارف الكتابية": "فالإنجيل، إذًا بكل وضوح هو ذكريات شاهد عيان ذكريات شخص كان موجودًا بنفسه في كل المشاهد التي يصفها... هكذا نجد أن الإنجيل هو ذكريات شاهد عيان للأحداث الماضية على انطباعاته عن معنى ما مرَّ به من اختبارات. لقد كان موجودًا في المشاهد التي يصفها. لقد كان موجودًا في الليلة التي أُسلم فيها السيد المسيح وكان موجودًا في دار رئيس الكهنة، وكان حاضرًا عند الصليب ويشهد بحقيقة موت المسيح (يو 18: 15؛ 19: 35). وإذ نقرأ الإنجيل نلاحظ مقدار التأكد الذي يضعه على كلمة " يَشْهَدُ " ومشتقاتها، فهو يستخدم هذه الكلمة كثيرًا (يو 1: 7-8، 19؛ 3: 11، 26، 33؛ 5: 31؛ 12: 17؛ 21: 24؛... إلخ.)" (49)... فمن هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه، شاهد العيان، الذي كان حاضرًا في ليلة آلامه، وعند الصليب، وعند بحيرة طبرية، وامتدت حياته حتى نهاية القرن الأول سوى القديس يوحنا الحبيب؟!!"
خامسًا: الكاتب تبع يسوع من بداية خدمته للنهاية: يوحنا وأندراوس هما تلميذي يوحنا المعمدان، وأول من دعاهما السيد المسيح لتبعيته، وعندما ذكر القديس يوحنا الحبيب هذه الواقعة ذكر اسم أندراوس ولم يذكر اسم التلميذ الآخر (يو1: 40)... فلماذا لم يذكر اسم التلميذ الآخر إلاَّ لو كان هو كاتب هذه الواقعة؟!... من يقرأ الإنجيل الرابع بتمعن يعلم أن الكاتب كان حاضرًا حديث السيد المسيح مع بطرس (يو 1: 45)، ونثنائيل (يو 1: 47 - 49)، ونيقوديموس (يو3: 1 - 13)، والسامرية (يو4: 1 - 16)، وفيلبس (يو 6: 5، 7)، والمرأة التي أُمسكت في ذات الفعل (يو8: 1، 11)، ومرثا ومريم (يو 11)، واليونانيين (يو12: 21-22)، وتوما (يو 11: 16؛ 14: 5)، ويهوذا ليس الإسخريوطي (يو 14: 24)، وكما كان حاضرًا أحاديث العشاء الأخير (ص 13 - 16)، والصلاة الوداعية (يو 17)، ولحظة القبض على يسوع (يو 18: 4 - 8)، ومحاكمته أمام حنان (يو 18: 19 - 23)، وحديث يسوع المصلوب مع أمه (يو19: 26-27)، ومع المجدلية (يو20: 15 - 17) ومع بطرس (يو21: 15 - 23). كما ذكر يوحنا الحبيب علاقته ببطرس الرسول (يو 13: 23 - 25؛ 20: 3-4؛ 21: 7؛ 20: 24)... فمن هو الذي كان حاضرًا وعاين وسمع بأذنيه غير يوحنا الذي كان ملاصقًا للسيد المسيح؟!!..
سادسًا: عندما ذكر كتَّاب الأناجيل الإزائية اسم "يوحنا المعمدان" قصدوا أن لا يحدث خلط بينه وبين "يوحنا" الرسول. أما القديس يوحنا الرسول عندما كتب إنجيله لم يخشى هذا الخلط، لأنه وضع في نفسه أن لا يذكر اسمه بتاتًا، ولذلك تجده يذكر اسم "يوحنا" بدون أن يصفه بالمعمدان، وبذلك ظهر اسم "يوحنا" في هذا الإنجيل الرابع منفردًا، وهو يشير ليوحنا المعمدان.
سابعًا: تشابه أسلوب إنجيل يوحنا مع أسلوب رسائل يوحنا: (قابل يو 1: 1، 14؛ 20: 27؛ مع 1يو 1: 1؛ يو 1: 4؛ 11: 25؛ 14: 6؛ 21: 4؛ مع 1 يو 1: 2؛ يو 17: 21؛ مع 1يو 1: 3؛ يو 15: 11؛ 16: 24؛ مع 1 يو 1: 4؛... إلخ.).
_____
(47) دائرة المعارف الكتابية جـ 1، ص473.
(48) أورده الدكتور القس إبراهيم سعيد - شرح بشارة يوحنا، ص14.
(49) دائرة المعارف الكتابية جـ 1، ص475.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/637.html
تقصير الرابط:
tak.la/4k842fz