س626: كيف يحكم بيلاطس ببراءة يسوع عدة مرات ثم يجلده (لو 23: 16)؟ ومن حمل الصليب، يسوع (يو 19: 17) أم سمعان القيرواني (مت 27: 32، مر 15: 21، لو 23: 26)؟ ولماذا انفرد لوقا بذكر النساء الباكيات الراثيات يسوع (لو 23: 27-31) بينما سكت عن الوصف التفصيلي لآلام المسيح؟
ج: 1- كيف يحكم بيلاطس ببراءة يسوع عدة مرات ثم يجلده (لو 23: 16)..؟ كان بيلاطس متأكدًا من براءة يسوع، لأن شخصيته عمت الآفاق، وهو كان يتابع أخباره أولًا بأول، ولذلك أكد على براءته عدة مرات (لو 23: 4، 14، 15، 22)، ولكن أمام عناد اليهود وإصرارهم على صلبه قال في نفسه إن جلدته جلدات قاسية ربما ترق قلوبهم ويوافقونني على إطلاق سراحه، وعوضًا عن أن الشعب يلتمس من الوالي طلبًا معينًا، رأينا الوالي يلتمس من الشعب أمرًا معينًا، فقال لهم: "فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ" (لو 23: 16) وفعلًا أمر بجلده " وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ" (مت 27: 26).. " فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ" (يو 19: 1). وعلى كلٍ فقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 5 س440). ونضيف هنا قول "القس ليون موريس": "أما الاقتراح الخاص بأن يسوع يجب أن يُؤدب قبل إطلاق سراحه فيبدو أمرًا غريبًا، لأنه إذا ما كان بريئًا، يجب أن يُطلّق سراحه بدون قيد أو شرط. بيد أنه في القانون الروماني، كان المتهم، في مثل هذه الحالة، يُضرب ضربًا خفيفًا مع تحذير إداري بأن يكون أكثر حرص في المستقبل. وكثير من المفسرين يعتبرون هذا سوطًا في يد جهة الإدارة، كان يُساء استعماله. ومن المعروف أن الكثيرين فقدوا حياتهم نتيجة هذه العقوبة التأديبية البسيطة... ويبدو أن بيلاطس كان بهذا يحاول تهدئه اليهود، فقد أعتقد أنه إذا ما أوقع بيسوع نوعًا من العقوبة القضائية فقد يهدأ اليهود ويقبلون إطلاق سراحه" (443).
2- من حمل الصليب، يسوع (يو 19: 17) أم سمعان القيرواني (مت 17: 32، مر 15: 21، لو 23: 26)..؟ في البداية حمل السيد المسيح صليبه من دار الولاية متجهًا إلى الجلجثة: "فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ" (يو 19: 17)، ولكن بسبب المعاناة الجسدية والنفسية التي جاز فيها السيد المسيح منذ القبض عليه ليلة أمس بطريقة جائرة، وقد أمضى الليل في محاكمات جائرة، وما تعرَّض له من ضربات ولكمات واستهزاء وسخرية وجلدات قاتلة، كما كان يحمل الخشبة العرضية للصليب بطول نحو 2,3 متر ووزن نحو 50 كجم، حتى أنه سقط تحتها عدة مرات، وتعرَّض وجهه لكدمات شديدة، وسياط الجنود تُلهب ظهره، وجاءت السقطة الأخيرة بعد عبور بوابة أورشليم، ولم تفلح سياط الجنود في أن تُنهضه، فسخروا سمعان القيرواني ليحمل صليب يسوع حتى الجلجثة ففعل ذلك عن طيب قلب ورضى، وهذا ما أوضحته الأناجيل الأزائية (مت 27: 32، مر 15: 21، لو 23: 26)، وحمل المذنب لصليبه كان أمرًا متعارف عليه، فليقول "بلوتارك": "إن كل رذيلة تنتج شقاء وعذابًا خاصًا، كما أنه إذا حُكِم على إنسان بالإعدام حمل صليبه" (444). (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 5 س441).
3- لماذا انفرد لوقا بذكر النساء الباكيات الراثيات يسوع (لو 23: 27-31) بينما سكت عن الوصف التفصيلي لآلام المسيح..؟ انفرد كل إنجيلي من الإنجيليين الأربعة بذكر بعض الأحداث في قصة آلام السيد المسيح وصلبه وقيامته، وقد انفرد القديس لوقا على الأقل بأربعة أحداث، هيَ:
أ– لقاء يسوع وهو في الطريق للجلجثة بالنسوة الباكيات (لو 23: 27-31).
ب- طلب السيد المسيح وهو على الصليب المغفرة لصالبيه (لو 23: 34)، وكان في هذا الحدث تتميمًا لنبؤة إشعياء النبي: "وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إش 53: 12).
جـ- توبة أحد اللصين وهو على الصليب وإيمانه بيسوع ربًا وملكًا والتماسه أن يذكره متى جاء في ملكوته، ووعد السيد المسيح له بأنه يلقاه اليوم في الفردوس (لو 23: 39-43).
د– العبارة التي نطق بها الرب يسوع: "يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" (لو 23: 46). فجاء هذا النداء كصدى لنداء البستان: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" (لو 22: 42).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
وعندما ذكر القديس لوقا النسوة الباكيات المراثيات فإن هذا جاء متوافقًا تمامًا مع اهتمام القديس لوقا بالمرأة في إنجيله، ففي قصة الصلب ذكر تلك النسوة، كما ذكر النسوة اللاتي وقفن عند الصليب (لو 23: 49) وأيضًا ذكر النسوة حاملات الطيب (لو 24: 1) (راجع س542). وأيضًا قصد القديس لوقا أن يوضح أمرين هامين:
(1) مشاعر البعض الطيبة التي حملها تجاه يسوع المصلوب، فقد كان هناك قطيع صغير جدًا ظل أمينًا حتى المنتهى.
(2) ذكر القديس لوقا بالمناسبة نبوءة هامة وخطيرة نطق بها السيد المسيح في هذه المناسبة عن الأيام الصعبة التي ستحل بأورشليم وقت حصارها: "لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ غَطِّينَا" (لو 23: 29، 30). ومع أن العقورية أمر مكروه جدًا من اليهود، يُعبَّر عن اللعنة والعبار، ويُعطي المبرّر للزوج ليُطلق زوجته أو في أحسن الظروف يتزوج عليها بأخرى، ومع ذلك فإن السيد المسيح طوَّب العاقرات، لأنهن يستطعن الهرب بطريقة أسرع وأسهل من اللواتي يحملن أطفالهن، كما أنه وقت حصار المدينة واشتداد المجاعة سترتكب النساء حماقات إذ يأكلن أطفالهن، وهذه الحماقة لن تسقط فيها العاقرات، ولهذا طوَّب السيد المسيح النساء العواقر، فالكوارث التي أحاطت بأورشليم حوَّلت العقورية من لعنة إلى بركة. والأمر العجيب أن السيد المسيح الذي لازم الصمت أمام بيلاطس وأمام هيرودس، ولم ينطق بكلمة يدافع بها عن نفسه، تجده يوقف موكب الصلب ليتحدث مع تلك النسوة ويُقدِّم لهن النصيحة، لأنه قد تلامس فعلًا مع مشاعرهن الصادقة وأذانهم الصاغية. ويقول "متى هنري" عن السيد المسيح: "أعطاهن توجيهًا عامًا بالنسبة لرثائهن "يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ".. يجب أن يبكين عليه فقط، بل يجب بالأحرى أن "ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ". وحينما نرى بعين الإيمان يسوع مصلوبًا يتعين علينا أن نبكي، لكن ليس عليه، بل على أنفسنا. وموت المسيح كان أمرًا فريدًا، فقد كان يمثل، انتصارًا وغلبة على أعدائه، وبموته كان خلاصنا وشراء الحياة الأبدية لنا. وعلى هذا ليتنا نبكي، ليس عليه، بل على خطايانا وخطايا أولادنا، التي كانت سبب موته" (445).
أما عن التساؤل: لماذا سكت القديس لوقا عن الوصف التفصيلي لآلام المسيح..؟ فإن الوحي الإلهي لم يشأ أن يستغرق في أهوال ووحشية عملية الصلب، ولم يشأ الوحي أيضًا أن يتوقف الكاتب عن التفاصيل المثيرة المؤلمة، وهذا ما التزم به جميع الإنجيليين، فلم يعرض أي منهم آلام المسيح بطريقة تفصيلية مأساوية، ولكن كل منهم اهتم جدًا بتوثيق الحدث متحاشيًا إثارة العواطف البشرية، فقال متى الإنجيلي: "وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ... حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ" (مت 27: 31، 38)، وقال مارمرقس: "وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ... وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ" (مر 15: 25، 27)، واكتفى القديس لوقا بالقول: "صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ" (لو 23: 33)، وقال يوحنا الحبيب: "فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ... حَيْثُ صَلَبُوهُ وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ" (يو 19: 17، 18). ويقول "القس ليون موريس": "والاكتشاف الحديث لرجل طلب في نفس الوقت الذي صُلِب فيه ليسوع تقريبًا أظهر أنه ربما كانت الساقات تثنيان وتلويان ثم تثبَّت على الصليب بمسمار واحد خلال العقبين. وثني الجسم على هذا النحو كان يزيد شدة الألم والعذاب وعملية الصلب هيَ في الحقيقة نوع من الموت المؤلم البطيئ. والملاحظ أنه ما من أحد من البشيرين أسهب في الكتابة عن العذابات التي أحاقت بيسوع. لأن العهد الجديد يركز على مغزى موت المسيح، لا على شرح الأمور التي تخيفنا وتؤذي مشاعرنا" (446).
_____
(443) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص345.
(444) أورده القس منيس عبد النور - شبهات وهمية حول العهد الجديد، ص81.
(445) التفسير الكامل للكتاب المقدَّس جـ 1 العهد الجديد - الأناجيل الأربعة، ص545.
(446) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص349.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/626.html
تقصير الرابط:
tak.la/sspf6d8