س627: لماذا طلب السيد المسيح الصفح لصالبيه من الآب (لو 23: 34) ولم يمنحهم هو الصفح، قائلًا لهم: مغفورة لكم خطاياكم؟ وكيف يقول الرؤساء عن المسيح أنه "مُخْتَارَ اللهِ" (لو 23: 35) مع أنه لم يُلقَب بهذا اللقب من قبل؟ وهل يُعقل أن مجرد عبارة نطق بها اللص اليمين (لو 23: 42) أنقذته من نار جهنم وأورثته ملكوت السموات؟
ج- 1- لماذا طلب السيد المسيح الصفح لصالبيه من الآب (لو 23: 34) ولم يمنحهم هو الصفح، قائلًا لهم: مغفورة لكم خطاياكم..؟ رُفع السيد المسيح على خشبة الخزي والعار بعد أن جاز في آلام لا مثيل لها، وفوجئ الواقفون أنه على الصليب يُصلِّي: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34) (راجع أع 3: 17، 1 كو 2: 8). لقد أراد أن رسالة الصفح والمغفرة تصل إلى الأذان وتسكن القلوب، ولذلك نطق بها بصوت مسموع رغم إعياء الموت الذي يجوز فيه، وفعلًا أتت هذه العبارة ثمارها، إذ أن "وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ" (لو 23: 48). بينما لو قال يسوع المصلوب لهم: مغفورة لكم خطاياك، لرفضوا قوله واعتقدوا أكثر فأكثر أنه يجدف، لأنه من غير اللَّه يغفر الخطايا؟! وكما رفضوا فكرة أنه ابن اللَّه معادلًا نفسه باللَّه الآب، هكذا رفضوا فكرة أن لابن الإنسان سلطان على مغفرة الخطايا. وهنا ندوّن الملاحظات الآتية:
أ– كان السيد المسيح في وضع إخلاء تام من مجده، ولذلك كان من اللائق أن يترك المجد كله، بما فيه سلطان مغفرة الخطايا للَّه الآب.
ب- كان السيد المسيح نائبًا عن البشرية في موته، إذ قدم ذاته ذبيحة خطية وذبيحة إثم (إش 53: 6) وذبيحة محرقة سرور للرب (لا 1: 9) وذبيحة سلامة إذ صالح الإنسان مع اللَّه: "وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ بَلْ لِخَطَايَا كُل الْعَالَمِ أَيْضًا" (1 يو 2: 2)، فعندما طلب من الآب أن يغفر، فذلك لأنه وَفىَ الدين الذي علينا، وقد وَفىَ العدل الإلهي حقه كاملًا، وصالحنا مع الآب، ولذلك فمن حقه أن يطلب من الآب أن يغفر لنا. ويقول "القديس كيرلس الكبير": "صار لعنة لأجلنا، أي صار ملعونًا، فقد كُتِب أيضًا: "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (تث 21: 23، غل 3: 13). أزال صلبه اللعنة الحالة بنا، فصرنا مباركين... بآلامه حلَّت البركة علينا. سدد ديننا، وحمل خطايانا. ضُرِب عنا (إش 53: 4، 5) كما هو مكتوب: "حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ" (1 بط 2: 24) أننا بجراحه شفينا (إش 53: 5) مرض بسبب خطايانا، ونحن شفينا من مرض النفس" (تفسير القديس لوقا 153)" (447). قدم السيد المسيح ذاته ذبيحة حية مقبولة، والآب قَبِل هذه الذبيحة الكريمة، ولذلك تُصلِّي الكنيسة في لحن "فاي إيتاف إنفي": "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا. فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة". قبل الآب ذبيحة الصليب ورضى عن البشرية، فصلى الابن الكلمة ليغفر اللَّه لكل خاطئ أثيم تائب.
جـ- موقف السيد المسيح وهو يطلب من الآب أن يغفر، كان موقفًا تعليميًا للبشرية، لكي يتعلم كل إنسان كيف يغفر لمن يظلمه ويضطهده، هكذا وعي استفانوس الدرس ونفذه، فصلى من أجل راجميه، فالسيد المسيح عندما طلب من الآب أن يصفح عن آثام هؤلاء الجلادين القتلة، فذلك ليس لأنه عاجز أن يغفر لهم بنفسه، ولكن لكي يعلمنا الدرس. ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "قال هذا ليس لأنه غير قادر على الغفران بنفسه، وإنما لكي يُعلمنا أن نُصلِّي من أجل مضطهدينا، لا بالكلام فحسب وإنما بالعمل أيضًا. يقول "اغفر لهم" إن كانوا يتوبون، فإنه رحوم بالنسبة للتائبين، إن كانوا يريدون أن يغسلوا بالإيمان خطاياهم الكثيرة التي ارتكبوها"(448). ويقول "القديس أوغسطين": "انظروا كيف أنجز الرب ما أوصى به. لقد ارتكب اليهود الكفرة القبائح بحقه، وقابلوا الخير بالشر. ألم يقل يسوع وهو مُعلّق على الصليب: "يا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" صلى كإنسان، وكإله سمع الصلاة مع الآب، وهو ما زال يُصلِّي لأجلنا وعنا. يُصلِّي كرئيس كهنة وكرأس لنا. ونحن نُصلي له كإلهنا، لما صلى وهو مُعلّق على الصليب، كان يرى أعداؤه، ويرى أن كثيرين منهم سيتحولون إلى أصدقاء له. لذلك تشفع بينما كان هو يُصلي. هتفوا أيام بيلاطس "اصلبه" أما هو فقد هتف "يا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ" كان مُشدّدًا (مشدودًا) بمسامير الظلم إلى خشبة، لكن شمائله حُمدت. كان يستغفر الذين أساؤوا إليه" (الموعظة... على ميلاد القديس استفانوس أول الشهداء)" (449).
د– في مواقف أخرى غفر السيد المسيح الخطايا بنفسه: "قَالَ لِلْمَفْلُوجِ يَابُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ" (مر 2: 5). والمرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي: "قَالَ لَهَا مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ" (لو 7: 48). وفي هذا الموقف أعلن السيد المسيح عن تنازله عن حقه الخاص تجاه من أهانوه وعذبوه وجلدوه وصلبوه. ويقول "البابا شنوده الثالث": "إن السيد المسيح على الصليب، كان يمثل البشرية وينوب عنها. كان ينوب عن البشرية في دفع ثمن الخطية للعدل الإلهي، كان على الصليب "مُحْرَقَةً سَرُورٍ لِلرَّبِّ" (لا 1: 9). وكان ذبيحة خطية، وكان أيضًا "فصحًا" (1 كو 5: 7). كان يقدم للآب كفارة عن خطايانا، وإذ قدم هذه الكفارة كاملة، قال للآب: "اغْفِرْ لَهُمْ " أي: أنا وفيت العدل الذي تطلبه أيها الآب، فاغفر لهم. أنا دفعت ثمن الخطية، وسكبت دمي فداءً لهم، فلم يعد هناك عائق من المغفرة، فاغفر لهم... كان يتكلم كشفيع عن البشرية أمام الآب، كنائب عن كل خاطئ منذ آدم إلى آخر الدهور. كذلك في هذه الطلبة كان يُعلن تنازله عن حقه الخاص تجاه صالبيه... قال هذا كنائب عنهم، وشفيع عنهم على الصليب. ولكن في مواضع أخرى، قام بالغفران بنفسه كإله.." (450).
2- كيف يقول الرؤساء عن المسيح أنه " مُخْتَارَ الله" (لو 23: 35) مع أنه لم يُلقَب بهذا اللقب من قبل..؟ لم يُعرَّف عن السيد المسيح أثناء خدمته أنه " مُخْتَارَ الله"، وهو لم يُطلق على نفسه أنه " مُخْتَارَ الله"، لكن الكتبة والفريسيين المطلعين على الأسفار المقدَّسة يعرفون جيدًا صفات المسيا وألقابه، ويدركون ما جاء عنه في سفر إشعياء النبي: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ" (إش 42: 1). ولذلك قالوا: "خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ الله" (لو 23: 35). فلعل الكتبة والفريسيون لاح أمام أعينهم نبوءة إشعياء عن المسيا أنه " مُخْتَارَ الله"، ووقفوا أمام إشكالية: كيف يكون هو مختار اللَّه ثم يتركه اللَّه لهذا المصير القاسي؟! ولم يدركوا أنه في هذه اللحظات الرهيبة تعبر البشرية من الموت الأبدي للحياة الأبدية، وقد صارت على أبواب العتق من عبودية الشيطان، وبدون موت المسيح لا حياة لها، ولا عتق من عبودية إبليس المُرة، وبموت مختار اللَّه على الصليب يرث مختاري اللَّه الحياة الأبدية في كل زمان ومكان. وملاحظة أخرى أن الحجة التي اعتمد عليها الفريسيون هيَ في الحقيقة شهادة عليهم، فقد قالوا " خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ" ولم يدركوا أنه ما دام خلص آخرين، فهو بالأولى قادر على أن يُخلص نفسه، ولكنه قد أسلَّم نفسه للموت نيابة عنا، بإرادته الكاملة، فهو لم يُقاد للصلب عنوة ولا مصادفة، إنما سار للصليب بقدميه. وفي قسمة الابن بالقداس الإلهي يُصلِّي الأب الكاهن: "أيها الابن الوحيد الإله الكلمة الذي أحبنا وبحبه أراد أن يُخلصنا من الهلاك الأبدي. ولما كان الموت في طريق خلاصنا، اشتهى أن يجوز فيه حبًا بنا وهكذا ارتفع على الصليب ليحمل عقاب خطايانا..".
ويقول "القديس أثناسيوس الرسولي": "بالحق أراد المُخلّص ربنا أن يُعرَف مُخلّصنا، لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين، فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بخلاصه الآخرين، فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى. هكذا الرب بكونه المُخلّص لا يحتاج إلى خلاص نفسه. فليس بنزوله من على الصليب يصير مُخلصًا بل بموته. فإنه بالحق يتحقق خلاص عظيم للبشرية بموته أكثر من نزوله عن الصليب" (451).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل يُعقل أن مجرد عبارة نطق بهااللص اليمين (لو 23: 42) أنقذته من نار جهنم وأورثته ملكوت السموات..؟ إن كان الشيطان قد نجح في اقتناص يهوذا اللص، فإن الرب يسوع وهو على الصليب اقتنص اللص اليمين الذي أمضى كل حياته تلميذًا للشيطان، وفي آخر لحظات حياته انتشله الرب يسوع من الهلاك، وانطبق عليه القول: "أَفَلَيْسَ هذَا كشُعْلَةً مُنْتَشَلَةً مِنَ النَّارِ" (زك 3: 2). والحقيقة أننا مدينون للقديس لوقا الذي كان يسعى دائمًا في كتابة إنجيله فاتح باب الرجاء للخطاة، فهو الوحيد الذي انفرد بذكر قصة توبة هذا اللص العجيبة. وهذا اللص الطوباوي لم ينجو من العذاب الأبدي ونال الملكوت لمجرد أنه نطق بعبارة قصيرة: "اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ" (لو 23: 42)، إنما هناك أبعاد أخرى للموضوع:
أ– اعترف هذا اللص الطوباوي بآثامه، وأنه مستحق عقوبة الصلب، فقال لصديقه: "أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا" (لو 23: 41)، ومن علامات الإنسان التائب أنه يُبرر اللَّه، أي يعترف ببر وعدالة اللَّه الذي يجازي كل واحد بحسب أعماله.
ب- بينما كانت الأغلبية الساحقة المُحيطة بساحة الصلب تشمت بيسوع وترى أنه مُجدّف ومستحق الموت، وأمر بيلاطس أن يُصلب بين اللصوص كأنه زعيمهم، فإذ بهذا اللص يسبح ضد التيار، مُعترفًا ببراءة يسوع المصلوب، وأنه لم يفعل أي شر يستحق عليه هذه العقوبة، ولذلك قال لزميله: "وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ" (لو 23: 41). وعندما رأى هذا اللص الشمس تظلَّم، وسمع يسوع يُصلي من أجل جلاديه: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34) فهو يُصلي من أجلهم، بل ويلتمس العذر لهم وهو جهلهم بهويته، فاعترف هذا اللص الطوباوي بأن يسوع ربًا وملكًا، وصدق هذا، ومع هذا فإنه لم يسعى نحو الخلاص الجسدي من الموت كما فعل اللص الآخر، إنما طلب من السيد المسيح أن يذكره متى جاء في ملكوته، فهو سيأتي في ملكوته بكل تأكيد فالتمس منه أن يذكره، وبينما رأى هذا اللص في يسوع ربًا وملكًا رأى فيه اللص الآخر أنه عاجز عن خلاصهم.
جـ- عندما انساق اللص الآخر في تيار الأغلبية، وقال مع القائلين: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا" (لو 23: 39)، فتصدى له اللص الطوباوي ووبخه قائلًا: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ الله إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ" (لو 23: 40). إن مخافة اللَّه لم تجد لها مكانًا في قلب هذا اللص، فتجاسر وبكت يسوع وأهانه، أما اللص الطوباوي الذي سكنت مخافة اللَّه في قلبه في آخر لحظات عمره فقد شهد للحق معترفًا ببراءة يسوع المصلوب. والحقيقة أن منظر اللصين اللذان عاشا نفس الموقف ونفس اللحظات وكليهما كان على مسافة متساوية بالقرب من صليب ماسياس، فيهلك أحدهما ويخلص الآخر يشرح لنا قول بولس الرسول: "لِهؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ وَلأُولئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ" (2 كو 2: 16)، ويشرح لنا قول سليمان الحكيم: "اَلْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِي يَدِ اللِّسَانِ" (أم 18: 21) لسان يقود صاحبه للهلاك ولسان يقود صاحبه للفردوس.
د– صلى هذا اللص الطوباوي ليسوع المصلوب، ربما كانت الصلاة الأولى والأخيرة في حياته: "اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ" (لو 23: 42) صلاة نابعة من عمق قلب متألم في مواجهة الموت، صلاة بإيمان قوي أقوى من عوامل الموت والانحلال، إيمانًا بأن المصلوب هو رب وملك وسيأتي في ملكوته. فقد آمن أن هناك حياة أخرى، وهذا اللص الطوباوي في تواضعه لم يطلب شيئًا من المجد أن يكون على يمين أو يسار الملك، مثلما طلب ابني زبدي، ولم ينالا، أما هذا اللص فقد نال أكثر مما طلب، إذ جاءته الاستجابة سريعة وفورية بـ" الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ".. سألقاك اليوم في فردوسي يا ديماس أيها اللص الطوباوي، ليس بعد نهاية الأزمان، إنما اليوم، فلحظة خروجك من هذا العالم هيَ لحظة دخولك إلى الفردوس. يقول "القديس أُغسطينوس": "آمن اللص في الوقت الذي فيه فشل المُعلِّمون أنفسهم تمامًا، فإنه لم يؤمن بكلماتهم، ومع هذا كان إيمانه هكذا أنه اعترف بذاك الذي رآه مُسمَّرًا على الصليب ولم يره قائمًا أو ملكًا" (452).
ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "اللص اعترف فوجد أبواب الفردوس مفتوحة! اعترف فتجرأ أن يطلب الملكوت مع أنه لص، قل لي أيها اللص كيف تذكرت ملكوت السموات؟ ماذا حدث الآن وأمام عينيك المسامير والصليب والتهمة والهزء والشتائم؟
فيقول، نعم أرى هذه كلها ولكن الصليب نفسه رمز الملكوت، فلذلك أدعو المصلوب عليه ملكًا، لأنه يجب على الملك أن يموت عن رعيته" (453).
ويقول "القديس جيروم": "المسيح نفسه جلب اللص من الصليب إلى الفردوس، ليُظهِر أن التوبة لن تتأخر في عملها. لقد حوَّل موت القاتل إلى شهيد" (454).
ويقول "القس ليون موريس": "وليس من السهل أن نعرف كيف أدرك اللص التائب حقيقة شخصية يسوع وعمله الخلاصي، بيد أن هذه الكلمات تبين أنه أدرك على الأقل أن الموت ليس هو نهاية كل شيء بالنسبة له وأن وراء الموت يوجد الملكوت. وكلمات يسوع الواثقة المطمئنة أعطته أكثر مما كان يبغيه. فلن يكون له مكان في الملكوت فحسب في المستقبل، بل أنه سيدخل الفردوس في نفس اليوم. وكلمته "الْحَقَّ" تبين أن ما تلاها من كلمات جاءت مؤكدة وهامة" (455).
وكأن بذاك اللص يقول ليسوع: "أنت ترى يا رب، أنني مقيّد بالمسامير لا أملك من حريتي سوى عقلي وقلبي ولساني، وها أنت تراني أعزف على أوتاري الثلاثية سيمفونية الاعتراف بك ملكًا وربًا... أنني أعلم أنك ستملك على محبيك وعلى أعدائك أيضًا، فهلا تذكرني متى جئتَ في ملكوتك..؟! وهلا تحسبني مع مُحبيك..؟! صار ديماس باكورة المفديين، فطابت نفس المخلص به... أنه الدرهم المفقود الذي عثر عليه... الخروف الضال الذي وجده راعيه ضالًا وشاردًا على جبال الخطايا والآثام... الابن الذي كان ميتًا فعاش... يا لفرحتك يا ديماس... هل رقص قلبك طربًا..؟! لقد فزت بالوعد الإلهي، وسمعت سيدك يقول لك اليوم "سأنتظرك... هناك سألقاك... في الفردوس موضع الراحة والنعيم"..
وإذ بيوحنا الحبيب يتابع الأحداث عن كثب، ويرى ديماس يخلص وأماخوس يهلك فيتذكر كلام المُعلِّم الذي قاله من أيام قلائل: "متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب يميز بعضهم عن بعض كما يميز الراعي الخراف عن الجداء. فيُقيم الخراف عن يمين والجداء عن اليسار". ولوقته تخيل يوحنا أن يسوع الديان جالسًا على عرشه... فارتعب يوحنا وقال: حقًا أن ما يحدث الآن لهو لقطة من يوم الدينونة الرهيب... من رأى لصًا آمن بملك مثل هذا اللص، الذي بأمانته سرق ملكوت السموات وفردوس النعيم..؟..! طوباك أنت أيها اللص الطوباوي، ولسانك الحسن المنطق الذي به تأهلت بالحقيقة لملكوت السموات وفردوس النعيم.." (من رواية: هناك كنت معه للمؤلف - الفصل العشرون).
هـ- استحق هذا اللص تطويب السيد المسيح له، وقد وهبه الوعد الإلهي: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ" (لو 23: 43). فلن تنتظر طويلًا أيها اللص الطوباوي بل اليوم ستصل إلى فردوس النعيم، فبالرغم من أن يسوع كان في أشد حالات الألم، لكنه قدم العزاء لهذا اللص التائب، فوعده بسعادة الفردوس.
وكأنني كنتُ هناك معه على تل الجلجثة، أرهف سمعي للحوار المُشبع بنور الأمل والرجاء بين هذا اللص المصلوب ومُخلصه، وإذ بالتفاتة تأخذني نحو هذا الرجل الطوباوي، ويا للعجب!.! لم أعد أرى فيه الشخص المُجرم ذو الشعر الأشعث، الفظ الطباع، القاسي القلب، الحاد النظرات، الذي يسبق سيفه قوله، اللا إنساني، المستبيح، الطامع فيما للآخرين... تطلعت وانبهرت، لأنني رأيت فيه صورة القديس، التائب، الوديع، الهادي، متواضع القلب، في ظلمة الليل البهي في وسط نهار غابت شمسه تمامًا، انطبع على محيا هذا الطوباوي صورة المسيح المُضيئة... المجد لك يا رب يا من تغير القلوب والطباع... لقد تحوَّل شكل اللص المُرعب، الذي يحمل صورة الموت، وسيفه يقطر دمًا إلى شكل وديع وجذاب، وكأنه يدعو المُتعبين إلى أحضانه، ولا عجب، بعد أن صار صورة ناطقة ليسوع المصلوب، وتحوَّل الظلام إلى نور، والشر إلى خير، والخطية إلى قداسة، والموت إلى حياة، حتى أن هذا الرجل الطوباوي سبق القديسين... الآباء الرسل تعثروا أمام الصليب، أما ديماس الطوباوي فاعترف بالمصلوب ربًا وملكًا... سلام لك أيها البطل الشجاع القوي اللابس الجهاد... أنت أقوى من كل نزعات الموت، ومن الكهنة ورؤسائهم وفريسيهم وكتبتهم، الذي ظلوا يصرخون ضد من ظنوه مُجدّفًا... صوتك الخافت جاء أقوى من قصف الرعد... شهادتك للمصلوب ربًا وملكًا شمعة في الظلام الحالك... طوباك أيها اللص الطوباوي... لقد لعبت مع قوات الظُلمة المباراة الوحيدة في حياتك وحققت انتصارًا ساحقًا، وانطلقت نفسك بسلام إلى الفردوس تؤازرها النعمة الإلهيَّة.
ويقول "القديس أُغسطينوس" عند حديثه عن تلميذي عمواس: "آه أيها التلميذان الحبيبان، كنتما ترجوان فداءه، والآن ما ترجوان؟ هلمَّ أيها اللص لقن التلميذين درسًا لماذا فقدتما رجاءكما؟ هل لأنكما رأيتماه مصلوبًا مُعلقًا فبدا لكما أنه ضعيف؟ كذلك كان الأمر بالنسبة إلى اللص المُعلّق على الصليب عن يمينه. كان يتحمل عقوبته، لكنه آمن واعترف به، أما أنتما فنسيتما أنه هو المُعطي الحياة. اهتف أيها اللص من فوق صليبك، فأنت مُجرم تفوقت على القديسين، أما هما فما الذي قالاه؟ "كنا نحن نرجو أنه هو الذي سيفتدي إسرائيل". أما اللص فقد قال: "اذْكُرْنِي مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ". كنتما تأملان أن يفتدي إسرائيل؟ آه أيها التلميذان العزيزان، إن كان هو الذي سيفتدي إسرائيل (فداءً أرضيًا) فإنكما تمنيتما بالفشل. لكنه أعادكما إلى رتبتكما، ولم يهلكما"(456).
ويقول "القس الدكتور إبراهيم سعيد": "اللص التائب... هذه ثمرة ناضجة جاءت بها شجرة الصليب المُرة، لكنها مرارة ما أحلاها، فهيَ ثمرة التوبة. في كلمات هذا اللص تجلت كل مظاهر التوبة الحقيقية.
(1) توبيخ أعمال الظلمة غير المثمرة: "فَأجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهُ قَائِلًا أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ الله إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ" (لو 23: 40)..
(2) تبكيت على خطاياه: "أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا" (لو 23: 41).
(3) شهادة صادقة للمسيح: "وأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ"..
(4) إيمان عظيم بأن المسيح رب: "يَا رَبُّ "، وأنه ملك " مَلَكُوتِكَ" (لو 23: 42).
إن إيمان هذا اللص، معجزة من معجزات النعمة، لأنه لم يرَ المسيح في مجد قوته، بل رآه في أضعف حالاته على الصليب، لكن آمن أن المسيح، وهو على الصليب، أقوى من أكبر ملك على أعظم عرش...
(5) رجاء وطيد " اذْكُرْنِي مَتَى جِئْتَ " كان يرجو ذلك اللص أنه كان شارك المسيح في صليبه، يكون شريك مجده في ملكوته العتيد. لم يطمع في الجلوس عن يمين المسيح ولا عن يساره بل طلب مجرد "الذكرى" وترك للمسيح حرية اختيار النصيب الذي يُعطيه إياه" (457).
ويقول "دكتور عزت زكي": "لقد لقب تاريخ اللص التائب، بأنه إنجيل في قلب الإنجيل، فالصورة أمامنا، تشرق بجمال الحق في الباطن، وتُبهِر العين، ببهاء عجيب وبساطة رائعة... خاصة هو يربط بين حياة المصلوب، ومعجزاته التي ربما قد وصلت إلى أذانه أنباؤها، وصورته الوديعة، الغافرة، الطيبة، المحتملة، وهو في موته على صليبه. إن النعمة الإلهيَّة التي تشكل الإناء الفاسد، إلى إناء صالح، وقد استطاعت أن تمسك بطينة هذا الإنسان المنحرف، وتشكله إناءً للكرامة، تحت ضغط هذه الظروف المُرة القاسية" (458).
_____
(447) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص547.
(448) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص566.
(449) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص458.
(450) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس، ص70.
(451) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص567.
(452) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص562.
(453) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص563.
(454) المرجع السابق، ص562.
(455) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص351، 352.
(456) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص575، 576.
(457) شرح بشارة لوقا، ص613، 614.
(458) تفسير بشارة لوقا لكتَّاب مشهورين، ص263، 264.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/627.html
تقصير الرابط:
tak.la/z5m97mt