St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

440- كيف تحوَّل الشعب اليهودي الذي هتف للمسيح يوم الأحد حتى ارتجت المدينة (مت 21: 10) إلى الصراخ ضده ليًصلَب (مت 27: 22، 23)؟ وهل خطية اليهود توارثها أبناؤهم لأنهم قالوا: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا" (مت 27: 25) مثلما توارثت البشرية خطية أبونا آدم؟ وكيف يجرؤ بيلاطس أي يبرئ إنسانًا مثير للفتنة وقاتل ويصلب إنسانًا بريئًا (مت 27: 26)؟ وهل هذا يتوافق مع شخصية بيلاطس الصارمة؟ وكيف كان بيلاطس يحاول أن يُطلّق سراح يسوع، وعندما يفشل لا يحكم بصلبه فقط بل بجلده أيضًا (مت 27: 26)؟

 

س440: كيف تحوَّل الشعب اليهودي الذي هتف للمسيح يوم الأحد حتى ارتجت المدينة (مت 21: 10) إلى الصراخ ضده ليًصلَب (مت 27: 22، 23)؟ وهل خطية اليهود توارثها أبناؤهم لأنهم قالوا: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا" (مت 27: 25) مثلما توارثت البشرية خطية أبونا آدم؟ وكيف يجرؤ بيلاطس أي يبرئ إنسانًا مثير للفتنة وقاتل ويصلب إنسانًا بريئًا (مت 27: 26)؟ وهل هذا يتوافق مع شخصية بيلاطس الصارمة؟ وكيف كان بيلاطس يحاول أن يُطلّق سراح يسوع، وعندما يفشل لا يحكم بصلبه فقط بل بجلده أيضًا (مت 27: 26)؟

St-Takla.org                     Divider     فاصل موقع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - أنبا تكلا هايمانوت

ج: 1- كيف تحوَّل الشعب اليهودي الذي هتف للمسيح يوم الأحد حتى ارتجت المدينة (مت 21: 10) إلى الصراخ ضده ليًصلَب (مت 27: 22، 23)..؟

أ - كانت هناك جماعة معاندة للسيد المسيح من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين والهيرودسيين، حتى أنهم قالوا عنه أنه: "لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ" (مت 12: 24).. " أَجَابَ الْجَمْعُ وَقَالوُا بِكَ شَيْطَانٌ" (يو 7: 20)، كما قالوا له: "إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ" (يو 8: 48)، وأرادوا رجمه من قبل (يو 8: 59).. إلخ. وبلا شك أن ساحة المحكمة لم تخلو من مثل هؤلاء المعاندين.

ب - كثيرون من الذين هتفوا للسيد المسيح يوم الأحد، لأنهم ظنوا أنه سيُنصّب نفسه ملكًا على إسرائيل، ويطرد المستعمر الروماني البغيض الجاثم على صدورهم ويمتص دمائهم، وإذ علموا أنه يرفض المُلك الأرضي وينادي بالتحرُّر من عبودية الشيطان خابت آمالهم فيه، وانقلبوا ضده.

جـ - كان هناك جماعة من الغيورين في أورشليم، وهؤلاء طالبوا بإلحاح الافراج عن زميل كفاحهم باراباس.

د - معظم الشعب كانوا يضعون ثقتهم في رؤساء الكهنة الذين حرَّضوهم على الصراخ ليطلق الوالي لهم باراباس، ويصلب يسوع (مت 27: 20، مر 15: 11، لو 23: 23).

هـ - كان هناك عدد من خدام رؤساء الكهنة وأصدقاؤهم وأعضاء مجمع السنهدريم والذين تعاطفوا معهم وجاملوهم، فهتفوا بهتافاتهم (يو 19: 6).

2- هل خطية اليهود تورثها أبناؤهم لأنهم قالوا: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا" (مت 27: 25) مثلما توارثت البشرية خطية أبونا آدم..؟ ورثت البشرية خطية آدم لأن كل البشرية كانت في آدم، فآدم هو أب كل البشرية وحواء هيَ أم كل البشرية، فكل البشرية جاءت من آدم الذي فسدت طبيعته بالخطية، وما أُخذ من الفاسد فهو فاسد، ولا يمكن أن نجني من الفساد الصلاح، فالخنزيرة لا تلد حملًا، والشوك لن ينتج عنبًا. أما اليهود الذين حضروا محاكمة السيد المسيح وصرخوا بتحريض من رؤساء كهنتهم ضد السيد المسيح مطالبين بصلبه، قائلين: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا" فليسوا هم أسلاف جميع اليهود في كل زمان ومكان، فكان هناك يهود في أورشليم لم يحضروا هذه المحاكمة ولم يهتفوا هذا الهتاف، وبعضهم كان يرفض بشدة صلب المسيح، ومنهم العذراء مريم والمريمات ويوسف ونيقوديموس وغيرهم، وهناك يهود الشتات الذي لم يشاركوا في هذه الجريمة البشعة. وأيضًا لا نغفل أن السيد المسيح غفر لصالبيه وأعلنها صراحة: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34). والكنيسة الأولى كنيسة أورشليم تكوَّنت من اليهود.

ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "هب أنكم لعنتم نفوسكم، فما بالكم تجرون اللعنة وتجذبونها على أولادكم، إلاَّ أن اللَّه المُحب للبشر، على الرغم من أنهم قد استعملوا مثل هذا الجنون في نفوسهم وفي أولادهم لم يوجب هذه القضية ولم يحقّقها لهم، لكنه قَبِل التائبين من هؤلاء وأهَّلهم للخيرات التي لا تُحصى، لأن بولس كان منهم، وربوات الذين آمنوا في أورشليم كانت منهم لأن التلاميذ قالوا لبولس: "أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا الأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ جَمِيعًا غَيُورُونَ لِلنَّامُوسِ" (أع 21: 20)" (264).

ومع هذا لا نستطيع أن نبريء اليهود الذين لم يؤمنوا من دم المسيح، رغم محاولة رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب التنصُّل من هذه المسئولية، فقالوا للآباء الرسل: "أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهذَا الاسْمِ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هذَا الإِنْسَانِ" (أع 5: 28)، وقال عنهم بولس الرسول الذي عانى منهم الأمرين: "الْيَهُودِ الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ للَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ" (1 تس 2: 15)، وقال لهم بطرس الرسول: "أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ" (أع 3: 14، 15) وقال لرؤساء الكهنة ورؤساء الشعب: "يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ" (أع 4: 10). ومنذ أن صرخ اليهود صرختهم " دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا" وهم يترنحون تحت الضربات، فعاشوا كارثة سقوط أورشليم وصُلِب الآلاف وقتل مئات الألوف منهم، وتشتتوا في أرجاء الأرض، وعانوا من المذابح الجماعية والمحارق، ولم يخلص من هذه اللعنة التي سقطت عليهم سوى الذين آمنوا بالإله المصلوب من أجل خلاص البشرية.

ويقول "متى هنري": "كيف كانوا قساة في تعهدهم. لقد قبلوا قصاص هذه الخطية لا على أنفسهم فقط بل على أولادهم أيضًا، حتى الذين لم يكونوا قد ولدُوا بعد، بدون تحديد لمن تقع عليهم اللعنة كما سرَّ اللَّه نفسه أن يحددها إلى الجيل الثالث والرابع. كان جنونًا أن يقبلوا القصاص على أنفسهم، لكنه كان أقصى درجات الوحشية أن يقبلوه على ذريتهم. لقد كانوا كالنعامة إذ كانوا قساة على صغارهم كأنهم لم يكونوا صغارهم بل صغار غيرهم (مراثي 4: 3). يا له من تعهد مُخيف إذ قبلوا الغضب على أنفسهم وعلى نسلهم إلى الأبد. وذلك باجماع الآراء وبرضائهم. وكان هذا معناه خسارة ذلك الوعد القديم " أكون لك ولنسلك ". كان قبولهم لعنة دم المسيح على أمتهم خسارة بركة ذلك الدم لذريتهم.. أنهم إذ أحبوا اللعنة أتتهم. وأن آثار هذه اللعنة المشئومة التي أحبها هذا الشعب المسكين لا تزال بادية إلى اليوم..

على أن هذا الدم صار لبعض منهم ولبعض من أولادهم لا للدينونة بل للخلاص، فأنهم إذ تابوا وآمنوا بددت الرحمة الإلهيَّة كل آثار هذا العهد، وعندئذ صار الوعد لهم ولأولادهم. أن اللَّه يحسن إلينا ولأولادنا أكثر منا" (265).

أما ما صدر من وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني في أكتوبر 1965م من عقيدة خلاص اليهود وغير المؤمنين، ووافق عليها 1763 عضوًا، واعترض عليها 250 عضوًا من أعضاء المجمع، فلا يتسع المجال للحديث عنها، ويمكنك يا صديقي الرجوع إليها في كتابنا: "يا أخوتنا الكاثوليك.. متى يكون اللقاء؟" جـ2 ص 322 - 386، وأيضًا كتابنا: "عقيدة خلاص غير المؤمنين بين الجذور.. والثمار".

 

St-Takla.org Image: Ecce Homo: "Behold the man" (John 19:5) (Pontius Pilate presenting Jesus Christ), painting by Caravaggio, circa 1605, Height: 1,280 mm (50.39 in); Width: 1,030 mm (40.55 in), Palazzo Bianco, Genoa, Italy. صورة في موقع الأنبا تكلا: إكو أومو: "هوذا الإنسان" (يوحنا 19: 5) (بيطلاس البنطي يقدم السيد المسيح)، لوحة من رسم الفنان كارافاجيو، 1605 م. تقربيًا، بمقاس 1,28×1,03 م.، متحف بالاتزو بيانكو، جنوا، إيطاليا.

St-Takla.org Image: Ecce Homo: "Behold the man" (John 19:5) (Pontius Pilate presenting Jesus Christ), painting by Caravaggio, circa 1605, Height: 1,280 mm (50.39 in); Width: 1,030 mm (40.55 in), Palazzo Bianco, Genoa, Italy.

صورة في موقع الأنبا تكلا: إكو أومو: "هوذا الإنسان" (يوحنا 19: 5) (بيطلاس البنطي يقدم السيد المسيح)، لوحة من رسم الفنان كارافاجيو، 1605 م. تقربيًا، بمقاس 1,28×1,03 م.، متحف بالاتزو بيانكو، جنوا، إيطاليا.

3- كيف يجرؤ بيلاطس أن يُبرئ إنسانًا مثير للفتنة وقاتل ويصلب إنسانًا بريئًا (مت 27: 26)؟ وهل هذا يتوافق مع شخصية بيلاطس الصارمة..؟ جرت عادة اليهود على إصدار أمر بالعفو في عيد الفصح عن أحد الأشخاص المحكوم عليهم، كتعبير عن فرحة الشعب بالعيد الذي حرَّرهم فيه اللَّه من عبودية فرعون -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- ولم تتوقف هذه العادة حتى بعد ما صارت إسرائيل تحت الحكم الروماني، مع أنه ضد روح العدالة، وبتعبير القديس لوقا أن بيلاطس: "كَانَ مُضْطَرًّا أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِدًا" (لو 23: 17)، وكان بيلاطس جالسًا على كرسي الولاية أي أنه يصدر أحكامه كقاضٍ، فتأخذ هذه الأحكام شكلها القانوني، وعندما فشل مع القيادات اليهودية المتصلّفة التي تصر على صلب المسيح، تخلى عن دوره كقاضٍ لأنه فشل أن يقيم الحق، وهو في ملء الثقة من براءة يسوع، وبدأ يلعب دور السياسي الذي يساوم، وأشرك الشعب في هذه القضية الخطيرة، لعل الشعب يؤثر على قياداته، ووضع أمام الشعب خيارين، فلهم أن يختاروا من يُطلّق ومن يُصلّب، يسوع وباراباس، وفضل الشعب باراباس فنادوا باطلاقه، كما نادوا بصلب يسوع، ويذكر القديس متى أن الشعب طالب بصلب يسوع ثلاث مرات (مت 27: 21، 22، 23)، ويذكر القديس لوقا أن بيلاطس سأل الشعب ثلاث مرات " فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً فَأَيَّ شَرّ عَمِلَ هذَا" (لو 23: 22)، وأن بيلاطس صرح ببراءة يسوع ثلاث مرات (لو 23: 4، 14، 22). وعندما أمر بيلاطس بجلد يسوع كنوع من المساومة الخاسرة مع الشعب اليهودي ارتكب ثلاثة أخطاء وهيَ:

أ - جعل الشعب هو الحكم عوضًا أن يكون هو الفيصل والحكم.

ب - ساوى بين يسوع البار البريء وبين باراباس القاتل الأثيم.

جـ - أمر بجلد يسوع بعد أن شهد ببراءته.

وجاءت محاكمة يسوع أمام بيلاطس أعجب وأغرب محاكمة في التاريخ البشري، ولك يا صديقي أن تتصوَّر منطوق الحكم كما تتصوَّره: "حكم بيلاطس البنطي والي اليهودية على يسوع بالبراءة ثلاث مرات، وأمر بتنفيذ حكم الأعدام فيه صلبًا". ويقول "متى هنري": "اقترح بيلاطس إطلاق سراح يسوع، فقد كان مقتنعًا بأنه بريء وبأن التهمة ناشئة عن حسد وضغينة، ومع ذلك فلم تكن له الشجاعة الكافية لإطلاق سراحه، الأمر الذي كان ينبغي أن يفعله بمقتضى ما أُعطي من سلطان. لكنه أراد أن يكون إطلاق سراحه بمقتضى إختيار الشعب، ولهذا أراد أن يُرضي ضميره وأن يُرضي الشعب أيضًا، مع أنه كان يجب أن لا يفكر في إيقاع أي أذى به طالما أنه لم يجد فيه شرًا"(266).

أما عن التساؤل عما إذا كان هذا التصرف بإطلاق الأثيم وصلب البريء، يتوافق مع شخصية بيلاطس الصارمة.. فنقول هذا التصرف لا يتوافق مع شخصية بيلاطس الفظ القاسي، ولكنه كان مضطرًا له، فقد إنحدر بيلاطس من أسرة محاربة، وخرج للدنيا فارسًا، وانخرط في جماعة الفرسان في الجيش الروماني، وخدم في ألمانيا تحت إشراف "جرمانيكوس"، ثم انتقل إلى روما وإلتقى بكلوديا بروكلا حفيدة الإمبراطور "أغسطس قيصر"، فوقعت في حبه وتزوجت منه، وكانت كلوديا ابنة غير شرعية لكلوديا ابنة أغسطس قيصر وزوجة "طيباريوس قيصر"، فكان لها الفضل في تعيين بيلاطس واليًا على اليهودية والسامرة سنة 26م، واصطحب بيلاطس زوجته كلوديا معه إلى قيصرية مركز ولايته، وكان فظًا قاسيًا منتقمًا جشعًا تعوزه الفطنة والحنكة السياسية، فتصادم مع اليهود عدة مرات في أحداث دامية، عندما صادر جباية الهيكل لمشروع مد أورشليم بالمياه النقية، وعند خلط دماء الجليليين بذبائحهم، وعندما علق البيارق الرومانية على أسوار قلعة أنطونيا المقابلة للهيكل، مما عرضه لتعنيف طيباريوس قيصر له، وأدرك أن أي مشكلة أخرى كفيلة بأن تُنهي ولايته، ولذلك إنصاع لليهود رغمًا عنه، وبما لا يتفق مع طبيعته، تشبسًا بكرسي الولاية (راجع كتابنا: هناك كنت معه ص50 - 58).

ويقول "متى هنري": "رأى (بيلاطس) أنه قد أصبح في موقف حرج، يتنازعه عاملان: يحاول الاحتفاظ بسلام ضميره، ويحاول في الوقت نفسه الاحتفاظ بسلام المدينة، يكره الحكم على رجل بريء ويكره في الوقت نفسه الضغط على الشعب لئلا تشب نار الفتنة التي لا يسهل إخمادها. لو أنه تمسك بقوانين العدالة بكل حزم وثبات - كما يجب أن يفعل أي قاضٍ - لما وقع في حيرة. كان الأمر واضحًا دون أي لبس أو غموض أن الرجل الذي لا يُوجد فيه أي شر يجب أن لا يصلب تحت أي إدعاء، وأنه يجب عدم إرتكاب أي ظلم لإرضاء أي شخص أو مجموعة أشخاص في العالم.. يبرئ (بيلاطس) نفسه "إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ". يا لها من سخافة أن يحكم عليه بالموت وفي نفس الوقت يحتج بأنه برئ من دمه.. يقول المثل اللاتيني: عبثًا يحتج المرئ على أي شيء هو في نفس الوقت يرتكبه.." (267). وفي سنة 36م عُزِل بيلاطس وَنُفِيَ إلى بلاد الغال.

 

4- كيف كان بيلاطس يحاول أن يطلق سراح يسوع، وعندما يفشل لا يحكم بصلبه فقط بل يجلده أيضًا (مت 27: 26)..؟ تعوَّدنا من القديس متى تناول الأحداث باختصار، ولذلك دمج الجلد مع الصلب في عبارة وجيزة: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ" موضحًا مسئولية بيلاطس عن جلدات يسوع وعن صلبه. وقد تناول القديس يوحنا الأحداث بتفصيل أكثر، فأفرد لمحكمة يسوع أمام بيلاطس مساحة أكبر، فما ذكره القديس متى في (16) عدد (مت 27: 11 - 26) ذكره القديس يوحنا في (29) عدد (يو 18: 28 - 19: 16)، ففي إنجيل يوحنا نجد بيلاطس يتحدث مع يسوع ويسأله عما إذا كان ملكًا، والسيد المسيح يجيبه بأنه فعلًا ملك، ولكن مملكته ليست من هذا العالم، والشعب يصرخ ويطالب إطلاق باراباس، وهنا يذكر القديس لوقا ما لم يذكره القديس متى ولا القديس يوحنا، وهو أن بيلاطس عندما سمع لرؤساء الكهنة يتهمون يسوع أنه يهيج الشعب من الجليل إلى أورشليم، أرسل يسوع إلى هيرودس ملك الجليل الذي كان متواجدًا في أورشليم ليحاكمه، ويذكر محاكمة هيرودس ليسوع وصمت يسوع، وإستهزاء هيرودس به، وإعادته إلى بيلاطس موضحًا أنه لا يجد سببًا للحكم عليه بالموت (لو 23: 5 - 12) ويُعاد يسوع إلى بيلاطس، واليهود يطالبون بصلبه ويقترح بيلاطس جلده قائلًا: "فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ" (لو 23: 22).. " فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. وَضَفَرَ الْعَسْكَرُ إِكْلِيلًا مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوَانٍ. وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ" (يو 19: 1 - 3) وكان هدف بيلاطس أن يُحنّن قلب الشعب عليه عندما يرون جسده مهلهلًا مصبوغًا بالدم القاني أثر الجلدات الرومانية القاتلة، فالجنود الرومان لم يلتزموا بعدد معين من الجلدات مثلما أوصت شريعة موسى بأن العدد أربعين جلدة إلاَّ واحدة (تث 25: 3) وكما جُلِد بولس الرسول: "مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً" (2 كو 11: 24)، والجلدات تترك ندبات على جسد الإنسان لا تزول، وأوضح الكفن المقدَّس أن السيد المسيح تلقى (120) جلدة، وكل جلدة تركت ستة أثار، لأن السوط الروماني كان ينتهي بثلاثة سيور، وبكل سير بكرتين من الرصاص أو العظم، أي أن جسد المسيح تلقى 720 جلدة غطت الجسد بالكامل. ويبدو أن الجلد كان عقوبة كاملة، فالذي يُجلد لا يُحكم عليه بعقوبة أخرى، والمحكوم عليه بالصلب لا يُجلد، ويقول "القس صموئيل وهبه": "يتحدث الإنجيلي الرابع عن الإستهزاءات بيسوع كمحاولة أخيرة من الوالي الروماني بيلاطس لإطلاق سراحه. ولهذا يكتب القديس كيرلس الإسكندري: جلده ظلمًا، وسمح لجنوده أن يستهزأوا به، لأنه ظن أن الشعب اليهودي عندما سيرى السيد وقد عانى هذه العقوبة الظالمة وهو بريء تمامًا من كل تهمة، سيهدأ ويشفق عليه (PG 74, 628).

لقد أخذ عساكر بيلاطس يسوع إلى الفناء الداخلي لدار الولاية وهناك بدأ يقبل منهم سيل من العذابات والإهانات، مثل نزع ملابسه، الجلد، إلباسه ثوب من أرجوان، وضع إكليل الشوك على رأسه عمل الجند الرومان، إمساكه قصبة بيده اليمنى، صفعات متوالية على خديه، ضربات شديدة بالعصا على رأسه، الاقتراب منه والسجود له باستهزاء مرددين " السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ ". ثم القيام وبكل ما لديهم من قوى أخرجوا بصاقهم وأفرغوه في وجه السيد (يو 19: 1 - 3، مر 15: 15 - 19، مت 27: 26 - 30). بهذه الطريقة الخسيسة والظالمة، عامل الجنود الرومان السيد كما لو كانوا يتعاملون مع ملك كاذب. فالإكليل على سبيل المثال الذي هو للملك تاج المجد، جعلوه للسيد إكليل العار، والثوب الأرجواني والصولجان اللواتي هيَ من علامات الملوكية، صارت للسيد علامات الإهانة" (268). أما عن قسوة الجلدات وما عاناه السيد المسيح فيمكنك يا صديقي الرجوع إلى كتابنا: "هناك كنت معه" ص218 - 233.

" فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا خَارِجًا وَقَالَ لَهُمْ هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً. فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجًا وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ هُوَذَا الإِنْسَانُ" (يو 19: 4، 5). وكان بيلاطس متوقّعًا أن تأخذهم الرأفة والشفقة بابن جلدتهم، ولكنه خاب أمله وتبدَّد عندما علت أصواتهم وضجيجهم: "اصلبه اصلبه"، فقد أظهروا أنهم الكرامون الأردياء الذي عندما رأوا ابن صاحب الكرم قالوا: "هذَا هُوَ الْوَارِثُ هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ" (مت 21: 38).. لقد فشل بيلاطس في إطلاق سراحه: "فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ" (يو 19: 16) وعلى الفور أقتيد يسوع للصلب مع أن الإمبراطور طيباريوس قيصر كان قد أصدر أمرًا بأن أحكام الصلب تُنفَذ بعد عشرة أيام، فربما تظهر براءة المتهم.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

 (264) أورده القس أُغسطينوس البراموسي - شرح إنجيل متى للقديس يوحنا الذهبي الفم ص266.

 (265) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ2 ص484، 485.

 (266) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ2 ص479.

 (267) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ2 ص484، 485.

 (268) صلاة المسيح في البستان والقبض عليه ومحاكمته ص138.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/440.html

تقصير الرابط:
tak.la/9hpts2b