س590: هل سقط الشيطان عقب تكبره، أم عقب إرسالية السبعين (لو 10: 18)؟ وهل كان الشيطان في السماء عندما أرسل السيد المسيح تلاميذه السبعين؟ وهل تهلل يسوع بالروح القدس (لو 10: 21)؟ وكيف لا يُدرك الحكماء والفهماء ما يدركه الأطفال (لو 10: 21)؟ وهل قول السيد المسيح: "كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي" (لو 10: 22) يعني أن الآب أعطى الابن ما لم يكن له، وبالتالي يكون الآب أعظم من الابن؟
ج: 1- هل سقط الشيطان عقب تكبره، أم عقب إرسالية السبعين (لو 10: 18)؟ وهل كان الشيطان في السماء عندما أرسل السيد المسيح تلاميذه السبعين..؟ السيد المسيح الأزلي بلاهوته شهد كيف سقط الشيطان بسبب الكبرياء عندما أراد أن يرفع كرسيه ليكون مساويًا لكرسي العلي، وهذا ما قاله الوحي الإلهي على لسان إشعياء النبي: "أُهْبِطَ إِلَى الْهَاوِيَةِ فَخْرُكَ رَنَّةُ أَعْوَادِكَ. تَحْتَكَ تُفْرَشُ الرِّمَّةُ وَغِطَاؤُكَ الدُّودُ. كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَازُهَرَةُ بِنْتَ الصُّبْحِ. كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ. وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ الله وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ" (إش 14: 11-15) (راجع أيضًا حز 28: 12- 19). وصار الشيطان " رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ" (يو 14: 30) مسيطرًا على الإنسان، وظن أن السيد المسيح مجرد إنسان فالتقى به على جبل التجربة، وإذ به ينكسر أمامه، ويحقّق السيد المسيح نصرة ثلاثية على الشيطان، والشيطان يسقط أمامه. ثم بدأ السيد المسيح في كرازته يحطم مملكة الشيطان ويطرد الأرواح النجسة، ووهب تلاميذه هذا السلطان فزلزلوا مملكة الشيطان وسقطت هالة الشيطان وسطوته في البلاد التي كرز فيها الرسل الأطهار. فالشيطان سقط من رتبته وطُرِد من السماء عقب تكبره وسقوطه، وسقط على جبل التجربة أمام السيد المسيح، وسقط أمام كرازة الآباء الرسل الذين خرجوا للكرازة اثنين اثنين، فخرجوا خمسة وثلاثين فريقًا ينتقلون من مكان إلى آخر يطردون الأرواح النجسة والشيطان يسقط أمامهم، فقد أعطاهم السيد المسيح سلطانًا: "هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ" (لو 10: 19).
وقد يتساءل البعض: لماذا شبه السيد المسيح الشيطان بالحيَّة؟
أ– لأن الشيطان دُعي بالحيَّة القديمة (رؤ 12: 9، 20: 2) فهو قد استخدم الحيَّة في إسقاط الإنسان (تك 3: 1-5).
ب- تتميز الحيَّة بالحيلة والدهاء والخُبث. وهكذا الشيطان أيضًا.
جـ- تتمتع الحيَّة بالحكمة إذ تُخفي رأسها ساعة الخطر، وهكذا الشيطان لديه حكمة شيطانية لأنه كان من طغمة الكاروبيم المملوءين أعينًا أي الممتلئين معرفة.
د– تمتاز الحيَّة بسرعة الحركة، والشيطان روح ينتقل من مكان إلى آخر في لمح البصر.
هـ- الحيَّة ناعمة الملمس تخدع فريستها، وهكذا دُعي الشيطان بالمُخادع.
و– تتسلل الحيَّة إلى الجحور لتهاجم فرائسها وهكذا الشيطان يتسلل إلى حياة الإنسان في هدوء ومثابرة.
ز– تنفث الحيَّة سمومها في جسد فريستها، وهكذا ينفث الشيطان سمومه في عقل الإنسان وكيانه.
ح– الحيَّة لا جفون لها ولا تنام، وهكذا الشيطان يقظ دائمًا يتربص بالإنسان.
ط– تنسلخ الحيَّة من جلدها، وهكذا الشيطان لا مبدأ ثابت له، إنما يدخل لكل نفس من المدخل المُناسب لها.
عاد الرسل السبعين فرحين بالسلطان الذي نالوه على الشياطين، فقال لهم مُخلصنا الصالح: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ" (لو 10: 18). فلماذا شبه السيد المسيح الشيطان بالبرق؟
أ– إشارة إلى طبيعة الشيطان عندما جبله الرب الإله، فقد كانت طبيعته نورانية، وكان منيرًا قبل السقوط.
ب- عندما سقط الشيطان تحوَّل من ملاك نوراني إلى ظلمة، وصار رئيسًا لمملكة الظلمة، وفي النهاية سيُلقى في الظلمة الخارجية، وكما أن البرق يظهر نوره القوي فجأة وسريعًا ما يختفي ويزول هكذا كان سقوط الشيطان سريعًا، وما زال يسقط سريعًا أمام أي طفل صغير له إيمان بالمسيح.
عندما اقترب السيد المسيح من الصليب ودين الشيطان لأنه حرَّض القيادات اليهودية على سفك دم برئ، قال السيد المسيح: "اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا" (يو 12: 31).. " رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ" (يو 16: 11). وبالصليب كان السقوط الكبير للشيطان، ومن على الصليب اقتحم ابن اللَّه مملكة الشيطان وسبى سبيًا وأعطى الناس كرامات، وقد قُيّد الشيطان فلم يعد له سلطان على أولاد اللَّه (رؤ 12: 7-11). ويقول "القديس أثناسيوس": "الآن يا أحبائي قد ذُبح الشيطان، ذلك الطاغية الذي هو ضد العالم كله... لا يعود يملك الموت بل تتسلط الحياة عوض الموت، إذ يقول الرب: أنا هو الحياة (يو 14: 6) حتى امتلأ كل شيء بالفرح والسعادة، كما هو مكتوب: "الرب قد ملك فلتفرح الأرض".. الآن إذ بطل الموت وتهدَّمت مملكة الشيطان، امتلأ الكل فرحًا وسعادة" (253).
وتعليقًا على قول السيد المسيح: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبرقِ" يقول "القديس كيرلس الكبير": "وهذا القول حق، فقبل مجيء المخلص تملَّك الشيطان على العالم، وكان الكل خاضعًا له... وفي كل مكان كانت تُشيَّد له هياكل ومذابح لتقديم ضحاياه، وكان له جمهور لا يُحصى من العابدين. ولكن لأن الابن الوحيد كلمة اللَّه قد جاء من السماء، فإنه (الشيطان) سقط مثل البرق، وهذا الذي كان قديمًا وقحًا ومتشامخًا، الذي كان يتنافس على مجد الألوهية، والذي كان يعبده كل الذين في الأثم، وُضِع الآن تحت أقدام الذين كانوا يسجدون له. أليس حقًا إذًا سقط من السماء إلى الأرض، بمعاناته لمثل هذا السقوط الفظيع والمُرعب؟ من هو إذًا، الذي حطم قوته وأذله إلاَّ هذا الإله الحقيقي؟ واضح أنه المسيح" (254).
وقبيل المجيء الثاني للسيد المسيح سيُحل الشيطان، أن يسترجع شيء من سلطانه ليضل الأمم (رؤ 20: 7، 8) بل ليضل إن أمكن المختارين، " وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ" (مت 24: 22). ثم يأتي المسيح في مجده مع ملائكته القديسين ويُدين العالم ويطرح الشيطان في بحيرة النار والكبريت (رؤ 20: 10) وتنتهي القصة في هذا العالم لتبدأ في عالم المجد حيث ملكوت اللَّه.
أما عن التساؤل: هل كان الشيطان في السماء عندما أرسل السيد المسيح رسله السبعين..؟ فيجيب على هذا التساؤل "مارأفرام السرياني" حيث يقول: "في الحقيقة لم يكن (الشيطان) في السماء (وقت التجسد)، ولم يكن فيها عندما قال: "أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ الله" (إش 14: 13)، لكن سقط من مرتبة عظمته وسيادته: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ". لم يسقط من السماء، لأن البرق لا يسقط من السماء، فالسحب هيَ التي تُولّده. لماذا قال: "مِنَ السَّمَاءِ"؟ لأن سقوطه يشبه سقوط البرق من السماء. سقط الشيطان في اللحظة التي انتصر فيها الصليب. لقد مسح الناس العاديون وأُرسلوا لأداء مهمتهم، ونجحوا في إبراء المتألمين والمرضى والممسوسين. كالبرق الساقط من السحب سقط الشيطان بغتة من عرش سيادته. وكما يخرج البرق ولا يعود إلى مكانه، كذلك يسقط الشيطان ولا يستعيد سيادته "هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا".. (تفسير الإنجيل الرباعي لتاتيان 13) (255).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- هل تهلل يسوع بالروح القدس (لو 10: 21)؟ وكيف لا يدرك الحكماء والفهماء ما يدركه الأطفال (لو 10: 21)..؟ بعد عودة الرسل السبعين من إرساليتهم بنجاح باهر، حتى أن الشياطين خضعت لهم، قال لهم السيد المسيح لا تفرحوا بهذا، بل افرحوا بالحري أن أسمائكم قد كُتبت في ملكوت السموات، والفعل اليوناني المستخدم هنا في "كُتبت" يعني أنها نُقشت بمهابة وشكل رسمي، فالفعل "كُتبت" يُستخدم عند التوقيع على الوصية أو عقد الزواج أو معاهدة السلام أو منح الجنسية. والزمن الذي أُستخدم في هذا الفعل يفيد الاستمرارية، فأسماؤهم قد كُتبت وستظل مكتوبة ولن تُمحى (راجع وارين ديرزبي - كن شفوقًا ص102).. " وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ" (لو 10: 21). والمقصود بقوله " تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ" أي بالروح البشرية، لأن السيد المسيح اتخذ طبيعة بشرية كاملة، جسد بشري كامل وروح بشرية كاملة، وعندما أنكر "أبوليناريوس" أسقف اللاذقية أن السيد المسيح أخذ روحًا بشرية لأن فيه الروح القدس، حرمته الكنيسة، وقال له "البابا أثناسيوس الرسولي" أن السيد المسيح لم يخلص من الإنسان إلاَّ بمقدار ما أخذ من الإنسان، فلو أخذ جسدًا بدون روح بشرية، فهو يكون قد خلَّص الجسد بدون الروح، وكيف يقول الكتاب أنه أسلم الروح: "وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ" (يو 19: 30) إن لم يكن قد أسلَّم الروح البشرية؟!.! هذه الروح البشرية التي اتخذها السيد المسيح في تجسده تفرح وتتهلل (لو 10: 21)، كما أنها تنزعج وتضطرب: "انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ" (يو 11: 33).. " لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ" (يو 13: 21)، وأيضًا تحزن وتكتئب: "وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت 26: 37، 38) بينما الروح القدس منزَّه عن كل هذه الانفعالات البشرية. وقول الإنجيل " تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ" يشير إلى الفرح الروحي، وهو أسمى من الفرح الجسدي مثل التلذذ بالطعام، وأسمى أيضًا من الفرح النفسي مثل تحقيق نجاح وإنجاز باهر، ولكنه فرح روحي، فرح بخلاص النفوس من ظلمة الجحيم.
وليس معنى أن الابن يُصلي للآب ويحمد الآب أنه أقل من الآب في الكرامة، فيقول "القديس كيرلس الكبير": "وبعضًا منهم (الناس الفاسدين) يعترض عينًا قائلًا: "ها الابن يقدم اعتراف الحمد للآب، فكيف لا يكون أقل من الآب؟".. ولكن كل من هو ماهر في الدفاع عن تعاليم الحق يجيب على هذا قائلًا: "وماذا يمنع أيها السادة الكرام أن الابن مع كونه مساويًا في الجوهر، يحمد ويشكر أباه، لأنه يخلّص كل الذين تحت السماء بواسطته؟ ولكن إن ظننت أنه بسبب شكره هو أقل من الآب، فلاحظ أيضًا ما يلي: إنه يدعو الآب "رب السماء والأرض" ولكن بالتأكيد فإن ابن اللَّه الضابط الكل بالتساوي معه هو رب الكل، وفوق الكل وليس هو أقل منه، أو مختلف عنه في الجوهر، ولكنه إله من إله، مُكلَّل بنفس الكرامات، ويملك بحق جوهره، المساواة معه في كل شيء... وهذا كافٍ للإجابة عليهم: (256).
أما عن التساؤل: كيف لا يدرك الحكماء والفهماء ما يُدركه الأطفال..؟ فسبب ذلك أن الأطفال يتمتعون بالبساطة والإيمان، فالطفل يصدق ما يُقال له من الذين يحبهم، ويؤمن بما يُقال له، حتى أنه يتقبل أعمق العقائد الإيمانية التي يعجز عن إدراكها الحكماء العقلانيون الذين يُحكّمون ويسيّدون ويؤلّهون ويعبدون العقل، فإيمان الأطفال يفوق إيمان أكثر العلماء علمًا، وأكثر الحكماء حكمة، وأكثر الأذكياء ذكاءً، وأكثر الفهماء فهمًا. وأيضًا هناك سر الإعلان، فالذي يُعلَن له أمر مُعيّن من قِبَل اللَّه، حتى لو كان طفلًا صغيرًا فإنه يقبله بفرح، وقال السيد المسيح للآب: "لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ" (لو 10: 21). أن الآباء الرسل الأطهار في بساطتهم وإيمانهم استطاعوا أن يصلوا إلى معرفة اللَّه الآب عن طريق ابنه يسوع المسيح " قَالَ لَهُ يَسُوعُ أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي... اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ" (يو 14: 6، 9).
3- هل قول السيد المسيح: "كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي" (لو 10: 22) يعني أن الآب أعطى الابن ما لم يكن له، وبالتالي يكون الآب أعظم من الابن..؟ سبق الإجابة على هذا التساؤل بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س334. كما أن تكملة الآية هنا تؤكد المساواة، حيث قال: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ" (لو 10: 22). ونضيف هنا قول "القديس كيرلس الكبير": "إن كنتم تؤمنون أنه (الابن) يتكلم بالحق لأنه "هو الحق" (يو 14: 6) فكيف تجرؤون أن تفكروا وتقولوا أنه أدنى من الآب، وهو الذي يقول: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إِلاَّ الآبُ" فقط... لأن الثالوث الواحد في الجوهر هو وحده الذي يعرف نفسه، إذ هو فائق جدًا على كل كلام وفهم. فكيف تقول أنت إذًا أنه أدنى من الآب بينما نرى أنه لا أحد يعرف من هو إلاَّ الآب الذي ولده فقط؟ وسأضيف هنا شيئًا آخر: هل نقول أنه "إله حق" ولكن أدنى من ذلك الذي هو "الإله الحق والآب"، أو أنه مصنوع ومخلوق؟ إن كان مخلوقًا، فلن يمكنك المقارنة بينهما على الإطلاق، لأن المسافة بين الخالق والمخلوق لا نهاية لها... لأن الشيء المخلوق ليس هو فقط أدنى بالنسبة للَّه، ولكن هو مختلف تمامًا أيضًا في الطبيعة وفي المجد وفي كل صفة تتعلق بالجوهر الإلهي. فإن كان مخلوقًا كما تؤكدون، فكيف "لا يعرف أحد من هو؟". إذًا من يكون فوق كل فهم... ولكن إن كنتَ من الجهة الأخرى تؤكد أنه اللَّه الحقيقي وأنه هو هكذا بالطبيعة، ومع ذلك تقول أنه أدنى من الآب، فأنا لا أفهم كيف يمكن أن يكون هذا..؟ كيف إذًا يكون إله حق أدنى من إله حق..؟ هو النور والحياة والحكمة، ولكن إن كان هو أدنى من الآب... لن يكون هو الحياة كاملة، ولا النور كاملًا، ولا الحكمة كاملة... ولكن من الذي سيوافقكم في تفكيركم هذا؟!" (257).
وأيضًا يقول "القديس كيرلس الكبير": "لقد كان المُخلص ولم يزل هو رب السماء والأرض وهو الجالس مع الآب في عرشه المشارك له بالمساواة في حكمة على الكل، ولكن إذ وضع نفسه نزل إلى أرضنا وصار إنسانًا. فإنه هنا يتكلم بطريقة مناسبة للتدبير في الجسد كما لا يرفض أن يستخدم العبارات التي تناسب وضعه بعد أن أخلى نفسه حتى يمكن الإيمان به. كمن قد صار مثلنا ولبس فقرنا، لذلك فالذي هو رب السماء والأرض وكل الأشياء يقول " كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي".." (258).
ومعرفة السيد المسيح للَّه الآب تختلف عن أي معرفة بشرية للآب، فالإنسان يعرف عن صفات اللَّه دون أن يدرك طبيعته، أما الابن فيدرك طبيعة الآب لأنه من ذات الجوهر الإلهي، ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "ولم يفرغ المسيح من هذه التسبحة حتى وجه إلى التلاميذ نظرتين، أحدهما إلى التلاميذ عامة وكانت كسهم من النور، كشف لهم مقدار قدرته ومداها:
(أ) " كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي" هذا وصف جامع.
(ب) "وليس أحد يعرف من هو الآب" وهذا وصف مانع، لأن بيده مفتاح الطريق إلى اللَّه، لا، بل هو الطريق نفسه الذي لا طريق سواه فليس بأحد غيره الخلاص. وهنا يرينا المسيح الفرق بينه وبين الذي يعرفون الآب عن طريقه. إن معرفته بالآب مباشرة، عميقة، فوق الطبيعة، غير محدودة، يستوجبها ما بين الآب والابن من صلة وتفاهم. ولكن معرفة الذين يعرفون اللَّه (الآب) عن طريق المسيح تقيّدها إرادة المسيح "وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ". إذًا أشخاصهم، ودرجة معرفتهم، ونوعها، معلقة كلها على إرادة المسيح، فهو الطريق والحق والحياة" (259).
_____
(253) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص232.
(254) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص311.
(255) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص285.
(256) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص315.
(257) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص319-321.
(258) أورده القس أنجيلوس جرجس - يوميات مع كلمة الحياة - إنجيل لوقا، ص230.
(259) شرح بشارة لوقا، ص274.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/590.html
تقصير الرابط:
tak.la/c9kw9bm