س585: هل نهى السيد المسيح عن حمل العصا (لو 9: 3) أم أنه سمح بحمل العصى (مر 6: 8)؟ ولما أوصى السيد المسيح تلاميذه أنهم متى دخلوا بيتًا يقيمون فيه حتى يخرجوا منه (لو 9: 4)؟ ولماذا ارتاب هيرودس أنتيباس واضطرب عندما سمع بكرازة يسوع وتلاميذه (لو 9: 7)؟ ولماذا الوقت الضائع في تنظيم الفرق خمسين خمسين والجموع يزداد جوعها (لو 9: 14)؟
ج: 1- هل نهى السيد المسيح عن حمل العصا (لو 9: 3) أم أنه سمح بحمل العصى (مر 6: 8)..؟ في إنجيل لوقا أوصى السيد المسيح تلاميذه " لاَ تَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ لاَ عَصًا.." (لو 9: 3)، بينما في إنجيل مرقس: "وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ" (مر 6: 8)، والعصا التي نهى السيد المسيح عن حملها في (لو 9: 3) وأيضًا في (مت 10: 10) هيَ "شفط" التي تستخدم كسلاح للهجوم أو الدفاع عن النفس، أما العصا التي سمح المسيح بحملها في إنجيل مرقس فهيَ "ميشخن" التي تستخدم كعكاز يتوكأ الإنسان عليه أثناء سيره، والقصد من قول السيد المسيح في الأناجيل الثلاث هو عدم الاهتمام بحمل العصا، فلو أن الرسول بدأ رحلته وليس لديه عصى لا يهتم وينشغل بشراء عصى، وإن كان معه عصا فلا مانع من أن يحملها معه لزجر الكلاب الضالة ويتوكأ عليها بسبب طول المسيرة. وقد سبق الإجابة على هذا التساؤل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س321. ونضيف هنا قولين، الأول للدكتور القس إبراهيم سعيد حيث يقول: "لعل المسيح قصد بهذه الوصية أن يضع نصب عيونهم "قدسية الخدمة"، إذ كان مُحرَّمًا على اليهود أن يصعدوا على جبل الهيكل المقدَّس، وهم حاملون عصا أو حذاء أو مذودًا، أو ترابًا على أرجلهم. إذًا هذا هو هيكل الخدمة المقدَّس لذلك أفهمهم المسيح، أنهم سائرون أثناء خدمتهم على أرض مقدَّسة" (224).
ويقول "القس ليون موريس": "ويربط "أدرشيم" Edersheim كل هذا بالقاعدة التي كان يتبعها معلموا اليهود، أنه لا يجب على أحد الدخول إلى فناء المعبد بعصا أو حذاء أو كيس، والمبررات الرمزية لجوهر هذا الأمر هيَ، في كلتا الحالتين، قد تكون واحدة: تجنب مجرد الظهور بمظهر من يهتم بعمل آخر، في حين يجب أن يكرس الكيان كله لخدمة الرب" (225).
2- لما أوصى السيد المسيح تلاميذه أنهم متى دخلوا بيتًا يقيمون فيه حتى يخرجوا منه (لو 9: 4)..؟ أوصى السيد المسيح تلاميذه قائلًا: "لاَ تَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ... وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا" (لو 9: 3، 4). فلماذا لم يسمح السيد المسيح لتلاميذه أن يحملوا مؤنتهم واحتياجاتهم من الطعام حتى لا يكونوا ثقلًا وعبئًا على أحد؟
أ– حتى لا يرتبكوا باهتمامات الجسد، بل يتفرغوا للعمل الروحي والاهتمام بخلاص النفوس، ولهذا قال التلاميذ فيما بعد: "لاَ يُرْضِي أَنْ نَتْرُكَ نَحْنُ كَلِمَةَ الله وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ" (أع 6: 2).
ب- ليشعر التلاميذ أن اللَّه هو المسئول عنهم يدبر كل احتياجاتهم، ولذلك في معجزة صيد السمك بعد القيامة، وبالرغم من أن التلاميذ اصطادوا صيدًا وفيرًا، إلاَّ أنهم عندما خرجوا من السفينة وجدوا الطعام مُعد لهم: "فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْرًا مَوْضُوعًا وَسَمَكًا مَوْضُوعًا عَلَيْهِ وَخُبْزًا" (يو 21: 9).
جـ- هيأ السيد المسيح تلاميذه وبالتبعية جميع خدام الكلمة من جيل إلى جيل ليقبلوا استضافة الناس لهم كما يقبلون المساعدات البسيطة الضرورية للحياة.
د– استضافة المخدومين للخادم تُوجِد نوعًا من المودة والألفة، وعندما يستضيف المخدومين رسل المسيح يشعرون أنهم يقومون بدور إيجابي في نشر كلمة اللَّه، كما أنهم ينالون البركات مضاعفة من عملهم هذا.
هـ- إن كان رسل المسيح يقدمون لنا طعام الحياة الأبدية، فليس أقل من قبولهم في بيوتنا وتوفير احتياجاتهم.
وقد أوصى مُخلِّصنا الصالح الرسل الأطهار بأنهم متى استضافهم أحد المخدومين لا ينتقلون من بيت إلى بيت... لماذا؟
أ– حتى لا يتحوَّل الموضوع إلى مجاملات وافتخار بإقامة الولائم الضخمة والانشغال بأمور هذا العالم الزائل، ولذلك أوصاهم قائلًا: "وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. وَأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ" (لو 10: 7، 8).
ب- لكي يعلم الجميع مكان إقامتهم فيسهل الوصول إليهم، ومتى قصدوهم وجدوهم في ذات المكان.
وقد سبق الإجابة على هذا التساؤل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س322. ونضيف هنا قول "القديس كيرلس الكبير": "ولكن المسيح أمرهم أن يقيموا في بيت واحد ومنه يخرجون، لأنه من الصواب أن أولئك الذين قبلوهم في بيتهم مرة، لا ينبغي أن تُسلب منهم الهبة أو العطية. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى لكي لا يضع الرسل القديسون أنفسهم أي عائق في طريق غيرتهم واهتمامهم في الكرازة برسالة اللَّه، بأن يدعوا أنفسهم يُجرفون بالقوة إلى بيوت عديدة بواسطة أولئك الذين يهدفون لا أن يتعلموا منهم درسًا ضروريًا، بل أن يُعِدُّوا أمامهم مائدة فاخرة، متجاوزين ما هو معتدل وضروري" (226).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- لماذا ارتاب هيرودس أنتيباس واضطرب عندما سمع بكرازة يسوع وتلاميذه (لو 9: 7)..؟ أحدثت كرازة التلاميذ وبشارتهم بالملكوت في شتى أنحاء الجليل نهضة روحية، ولا سيما في ممارسة السلطان الذي قبلوه من معلمهم، فصاروا يشفون المرضى مهما كانت شدة أمراضهم وحدتها، ويطردون الأرواح الشريرة، فأثاروا دهشة الجميع وسمع هيرودس أنتيباس ملك الجليل، الذي سفك دم يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء فارتاب وخاف واضطرب، لأن الإشاعات بشأن يسوع ازدادت واتسعت، واحتار الشعب في هويته وشخصيته. البعض قال أنه يوحنا المعمدان قد قام من الأموات، وقال البعض أنه إيليا النبي الناري، الذي أُصعد إلى السماء في مركبة نارية هوذا قد عاد من السموات بقوة عظيمة، وقال آخرون أنه نبي من الأنبياء القدامى نجهل شخصيته عاد بعد موته بمئات السنين بقوة عجيبة. وتنامى إلى سمع هيرودس هذه الآراء فارتاب وخاف واضطرب، ولا سيما أنه ليس يسوع وحده الذي صنع المعجزات الباهرات، بل أنه أعطى تلاميذه هذا السلطان العجيب لصنع المعجزات من أجل خير الإنسان، وهذا الأمر لم يحدث من قبل على مر التاريخ، لأن أي نبي يأخذ القوة من اللَّه ليصنع معجزة هنا أو معجزة هناك، ولكنه يعجز تمامًا أن يرسل غيره ويُعطيه سلطانًا لعمل المعجزات. أما السيد المسيح فلأنه هو الإله المتجسد، فقد وهب تلاميذه القديسين ورسله الأطهار وخدامه أن يصنعوا هذه المعجزات والقوات والعجائب. ولأن هيرودس الملك كان يعاني من عقدة الذنب بعد أن ذبح يوحنا القديس البار الذي كان يجلَّه كثيرًا ويهابه، ولذلك قال: "يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هذَا وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاه" (لو 9: 9).. من هو هذا..؟ هل يوحنا قام من الأموات..؟ أنه أمر مُستبعد وغير متوقع... وهل هذا القادم سينتقم ليوحنا؟ وصار هيرودس في حيرة، حتى أنه كان يتمنى أن يرى يسوع، ولكنه يعلم أنه متى أرسل إليه فأغلب الظن أنه لن يأتي إليه، وهو لا يُريد أن يقتله كما فعل مع يوحنا، وأيضًا لأنه يخشى من شعبية هذا الشخص، فالشعب كله مُتعلق به. ولم يرى هيرودس يسوع إلاَّ وقت محاكمته، وترجى أن يرى منه آية وفشل فسخر به وأعاده إلى بيلاطس مشفوعًا بشهادته أنه لم يفعل شيئًا يستحق بسببه الموت، فهو إنسان برئ.
4- لماذا الوقت الضائع في تنظيم الفرق خمسين خمسين والجموع يزداد جوعها (لو 9: 14)..؟ قال السيد المسيح للتلاميذ: "أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَفَعَلُوا هكَذَا وَأَتْكَأُوا الْجَمِيعَ" (لو 9: 14، 15). لقد أعطى الرب يسوع أمره للتلاميذ، ونفذ التلاميذ الأمر بدقة، وكان ذلك الأمر هامًا وضروريًا... لماذا؟
أ– لأن إلهنا إله نظام: "لأَنَّ الله لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ" (1 كو 14: 33).. جلست الجموع الغفيرة في هدوء ونظام وسلام، فتمتعوا بروعة الطبيعة التي شهدت هذه المعجزة العجيبة التي جرت بعد عيد الفصح في فصل الربيع، وقد اكتست المروج بالخضرة، وفاحت رائحة شذى الزهور. أن هذه الطبيعة هيَ الصالة المكشوفة التي بلا جدران ولا أسوار، وكأن هذه الجموع قد عادت للفردوس المفقود... جلست الجموع خمسين خمسين شاخصة لرب الطبيعة ومترقبة ما سيحدث، ولماذا هم أجلسوهم هكذا، مع أنهم أطاعوا الأوامر الصادرة إليهم شاخصين إلى من قال لهم: "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ" (يو 14: 2).. " مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ... وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا" (يو 6: 35، 37).
ب- هذا النظام منع التزاحم، ووفر وقتًا في توزيع الطعام بسهولة ويسر... اتكئوا وأكلوا وشبعوا جميعًا، لم ينصرف واحد منهم وهو يشعر بشيء من الجموع، بل أكلوا وشبعوا وتبقى منهم اثنتي عشرة قفة من الكسر، ولولا النظام ما كانوا استطاعوا أن يجمعوا هذا الكسر... أكلوا في هدوء وانصرفوا فرحين في هدوء، وتناغم هدؤهم على هدوء الطبيعة.
_____
(224) شرح بشارة لوقا، ص216.
(225) ترجمة نيكلس نسيم - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص169.
(226) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص230.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/585.html
تقصير الرابط:
tak.la/x5srqj9