س565: كيف يذكر لوقا سجن يوحنا (لو 3: 20) قبل عماده للمسيح (لو 3: 21، 22)؟ فهل اعتمد يسوع من يوحنا وهو في السجن؟ ولماذا وضع هيرودس يوحنا في السجن (لو 3: 20)؟ ولو كان يسوع بلا خطية فما هيَ حاجته لمعمودية يوحنا (لو 3: 21، 22)؟ وأين هيَ صلاة يسوع في المعمودية (لو 3: 21)؟
ج: 1- كيف يذكر لوقا سجن يوحنا (لو 3: 20) قبل عماده للمسيح (لو 3: 21، 22)؟ فهل اعتمد يسوع من يوحنا وهو في السجن..؟ ذكر القديس لوقا قصة هيرودس مع هيروديا زوجة أخيه فيلبس باختصار شديد، ومن قبيل ترابط الأحداث التي قادت إلى سفك دماء أعظم مواليد النساء، ذكر ما فعله هيرودس في القبض على يوحنا وسجنه، فقد ترتب على السقطة الهيرودسية سجن المعمدان ثم ذبحه، والقديس لوقا بعد أن ذكر سجن يوحنا عاد أدراجه للخلف خطوة وذكر قصة عماد يسوع من يوحنا، وهذا لم يكن أمرًا فريدًا بل هو أمر متعارف عليه في فن الكتابة، ويُعرَف بالالتفاف الأدبي، إذ يقطع الكاتب تسلسل الأحداث ليذكر حدثًا معينًا له ارتباط بجزئية معينة ثم يعود للسياق الذي يسير فيه، ولا سيما أن القديس لوقا لم يلتزم بالتسلسل الزمني بنسبة 100%، فقد يؤخر حدثًا ويُقدم حدثًا وفقًا للأهداف التي وضعها أمامه، ففي معرض حديث القديس لوقا عن هيرودس وتوبيخ يوحنا له لأنه تزوج بزوجة أخيه، وأيضًا بسبب شروره الكثيرة، رأى القديس لوقا أن يذكر خبر سجن يوحنا كشر من شرور هيرودس، وليس معنى هذا أن يسوع اعتمد من يوحنا في السجن، لأنه واضح في جميع المواضع أنه اعتمد في نهر الأردن، كما أن يوحنا لم يُطلّق سراحه بعد سجنه إنما ذُبح بأمر هيرودس وهو في سجنه... ويقول "القس أنسطاسي شفيق": "ليس من مقاصد الوحي في هذا الإنجيل أن يعطينا حوادث حياة المسيح، باعتبار قرائتها التاريخية، فإنه إنما يذكرها لكي يُعلن حقيقة شخصه وعظم النعمة الظاهرة به، ولا عجب من ذلك لأن الكتَّاب المؤلفين عادة يتخذون منهجًا كهذا إذا كانت غايتهم إظهار موضوع خصوصي واستخراج بعض الفوائد منه وليس تأليف كتاب تاريخي" (127).
أما عن التساؤل: لماذا وضع هيرودس يوحنا في السجن..؟ فأصل القصة باختصار شديد أن الملك هيرودس الكبير تزوج بعشرة نساء مما جعل قصره مرتعًا للمؤامرات والدسائس والخصومات، حتى أنه أغرق شقيق زوجته مريمن وتظاهر بالحزن عليه مدعيًا أنها حادثة، وذبح مريمن وأمها السكندرة ثم ابنيها ألكسندر وأرسطوبولس، ثم ذبح أيضًا ولي عهده أنتباتر قبل موته بعدة أيام... وبعد موته انقسمت مملكته على ثلاثة من أولاده، أرخيلاوس الذي كان من نصيبه اليهودية والسامرة، وهيرودس أنتيباس الذي حكم الجليل وهو محط حديثنا، وفيلبس حاكم ايطورية وتراخونيتس، وكان لهيرودس أنتيباس أخ آخر يُدعى "فيلبس" غالبًا ابن مريمن، الذي لم ينل نصيبًا من مملكة أبيه، فعاش كمواطن روماني في روما. وعندما زاره أخوه هيرودس أنتيباس أُعجب بزوجته هيروديا التي خانت زوجها وتزوجت بهيرودس أنتيباس، مما أثار يوحنا المعمدان رجل الحق، فوبخ الملك على فعلته هذه، وبالرغم من أن هيرودس كان يهاب يوحنا، إلاَّ أن زوجته هيروديا ضغطت عليه حتى ألقى القبض على رجل اللَّه القديس الناسك البار يوحنا ووضعه في سجن القلعة (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س350).
2- لو كان يسوع بلا خطية فما هيَ حاجته لمعمودية يوحنا (لو 3: 21، 22)..؟ بلا شك أن يسوع الإله المتجسد هو قدوس بلا خطية وحده، قال رئيس الملائكة الجليل جبرائيل للعذراء مريم: "الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ.." (لو 1: 35)، وقال السيد المسيح له المجد عن نفسه: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ" (يو 8: 46)، وقال عنه بولس الرسول: "قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ" (عب 7: 26)، وقال عنه بطرس الرسول: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ" (1 بط 2: 22). إذًا قداسة يسوع المسيح أمر ثابت وفوق مستوى الشكوك... إذًا فلماذا اعتمد من يوحنا؟:
أ– اعتمد نيابة عنا مثلما خُتن نيابة عنا، ومثلما صلى نيابة عنا، ومثلما صام نيابة عنا. لقد دعى نفسه " ابْنَ الإِنْسَانِ" فهو نائب عن البشرية جميعها، لأنه حمل طبيعتنا البشرية. هو الذي بلا خطية وحده ولكنه حمل خطايانا وآثامنا وشرورنا، وقدم ذاته كفارة عنا... اعتمد يسوع من يوحنا المعمدان لأنه ارتضى أن يكون ابنًا للإنسان، فعماده دليل قوي على تواضعه ووداعته وأنه ارتضى أن يأخذ طبيعتنا. ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "كانت معمودية اليهودي العادي، تنطوي على معنيين، أحدهما ترك الخطايا السالفة، وثانيهما انضمامه إلى رعوية ملكوت اللَّه، وصيرورته واحدًا منها. لكن معمودية المسيح تحمل معها معنى جديدًا، هو رضائه أن يحسب نفسه واحدًا من الجنس البشري، وأن يصير "ابْنَ الإِنْسَانِ". إذا كانت معمودية المسيح أحد أعماله الكفارية النيابية التي قبلها مختارًا لأجلنا نحن الخطاة. لأنه إذ جاء ليفتدي البشرية، جعل نفسه واحدًا منها، متحدًا معها، قابلًا إمتيازاتها ومسئولياتها - إلاَّ الخطية- لذلك حق له، ومنه وعليه أن يتمم كل بر "لأن الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا لكي نصير نحن بر اللَّه فيه".. "وأحصي مع أثمة".. هذا ظاهر من كلمة "أيضًا" ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع "أيضًا" لأنه صار واحدًا منهم" (128).
ب- نزل يسوع إلى الماء لا ليتقدَّس بالماء، إنما ليقدّس الماء.
جـ- في عماده قدم لنا المثال الكامل للاتضاع وتكميل كل برٍ، فعندما أراد أن يعتمد، ويوحنا أراد أن يستعفي من هذه المهمة، قال الرب يسوع: "اسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ. حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ" (مت 3: 15) فمعمودية السيد المسيح هيَ تكميل كل برٍ.
د– نزول السيد المسيح للماء وتغطية الماء له، إشارة قوية إلى قبوله الموت طوعًا واختيارًا، فهو ارتضى أن يقبل الموت من أجل أن يعبر بنا نهر الأردن إلى كنعان السمائية " الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رو 4: 25).
هـ- اعتمد يسوع ليمسحه الروح القدس من جهة الناسوت ليبدأ كرازته، فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح (لو 4: 1). فتقدمة الدقيق الملتوتة بالزيت والمدهونة بالزيت كانت رمزًا لعلاقة السيد المسيح بالروح القدس، فتقدمة الدقيق ترمز للسيد المسيح والزيت رمز للروح القدس، فأولًا ملتوتة بالزيت علامة على أن الاثنين أقنوم الكلمة والروح القدس لهما نفس الطبيعة الإلهيَّة، الكيان الإلهي، الجوهر الإلهي، هذا من جهة اللاهوت. ومن جهة الناسوت فإن روح اللَّه القدوس مسح السيد المسيح للخدمة، كقول القديس بطرس: "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ الله بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ الله كَانَ مَعَهُ" (أع 10: 38).
ويقول "القديس غريغوريوس النزينزي": "لديك الآن مجموعة من نصوص كتابية تُبرهن لاهوت الروح القدس، على الأقل للذين ليسوا غرباء أو بعيدين عن الروح. انظر إلى الحقائق. المسيح وُلِد والروح كان سابقًا له. المسيح اعتمد والروح شهد له. المسيح جُرّب والروح قاده. أجرى المعجزات وصحبه الروح. صعد إلى السماء فملأ الروح مكانه" (موعظة على الروح القدس)" (129).
ويقول "القديس كيرلس الكبير": "أنهم يعارضون قائلين: ولكن كيف اعتمد ونال الروح أيضًا؟ فنجيبهم: إنه لم يكن محتاجًا للمعمودية المقدَّسة، أنه هو كلي النقاوة وبلا عيب، وقدوس من قدوس، كما أنه لم يكن محتاجًا للروح القدس، لأن الروح المنبثق من الآب هو معه ومساوٍ له في الجوهر، ولذلك يجب أن نستمع الآن إلى شرح التدبير أي خطة اللَّه. إن اللَّه في محبته للإنسان زودنا بطريقة للخلاص والحياة، لأننا بالإيمان بالآب والابن والروح القدس وباعترافنا بهذا الإقرار أمام شهود كثيرين، فإننا نغسل كل وسخ الخطية ونغتني بالحصول على الروح القدس ونصير شركاء الطبيعة الإلهيَّة وننال نعمة التبني. لقد كان ضروريًا إذًا أن كلمة الآب حينما وضع نفسه إلى الإخلاء وتنازل ليتخذ شكلنا، كان ضروريًا أن يصير من أجلنا نموذجًا وطريقًا لكل عمل صالح، فالذي هو الأول في كل شيء ينبغي أيضًا أن يضع نفسه مثالًا في هذا" (130). ويُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 6 س490.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- أين هيَ صلاة يسوع في المعمودية (لو 3: 21)..؟ قال القديس لوقا: "وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ. وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ بِكَ سُرِرْتُ" (لو 3: 21، 22) ولم يذكر القديس لوقا ولا كلمة واحدة من صلاة يسوع هذه، وهناك أمور كثيرة لم تذكرها الأناجيل، فمثلًا ذكر القديس لوقا أن يسوع كان يصلي أو أنه يقضي الليل كله في الصلاة، ولم يذكر ولا مرة صلوات يسوع هذه. وتصوَّر "مار فيلكيسينوس" صلاة يسوع في نهر الأردن أنها كانت هكذا: "إني أيها الآب حسب إرادتك صرتُ إنسانًا، ومن ميلادي من البتول إلى الآن كملت ما يخص الطبيعة البشرية. وحفظتُ وأتممت الوصايا والأسرار ومرسومات (فرائض) الناموس. والآن اعتمدتُ ورسمتُ المعمودية فجعلتها ولادة روحية يلد (يولد) منها الناس مولدًا (ميلادًا) جديدًا. وكما أن يوحنا جُعل آخر الكهنة في الناموس، هكذا أنا أول الكهنة في الإنجيل. أما أنت أيها الآب فبواسطة صلاتي افتح السماء وارسل روحك القدوس على مياه هذه المعمودية، ومثلما حلَّ في أحشاء البتول وكوَّن لي جسمًا، فليحل على مياه هذه المعمودية ويقدّسها. ويصوّر فيها بني البشر صورة جديدة ويلدهم بنين من جديد ويجعلهم بنيك وإخوتي يرثون الملكوت. وكما قوَّيت على العمل كهنة الناموس من هرون إلى يوحنا، ليقوَّ أيضًا كهنة العهد الجديد الذين أنا أولهم أن يُعمَدوا، ومتى عمَّدوا وصلوا فأرسل روحك القدوس على المعمودية التي فيها يعمّدون، والروح عينه يظهر الآن ظهورًا مبينًا، إلاَّ أنه ينزل ويحل في عمادهم نزولًا وحلولًا خفييّن وهكذا تتم بواسطتهم خدمة العهد الجديد، الذي لأجله صرت إنسانًا، وإني الآن أصلي أمامك كرئيس الكهنة" (131).
_____
(127) الفداء في إنجيل لوقا، ص297.
(128) شرح بشارة لوقا، ص77.
(129) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص127.
(130) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص7.
(131) مارديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي - الدر الفريد في تفسير العهد الجديد جـ2 تفسير بشارتي لوقا ويوحنا، ص70.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/565.html
تقصير الرابط:
tak.la/yz22xvw