س490: ما الداعي أن يصف مرقس البشير ملابس يوحنا وطعامه؟ وهل كان يوحنا "يَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا" (مر 1: 6) أم أنه "جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ" (مت 11: 18)؟ وهل يوحنا لم يقصد بقوله "يَأْتِي بَعْدِي" السيد المسيح لأنه كان معاصرًا له، إنما قصد شخص آخر؟ وكيف يعتمد يسوع بمعمودية التوبة وهو بلا خطية؟
ج: 1- ما الداعي أن يصف مرقس البشير ملابس يوحنا وطعامه؟.. لم يصف مرقس الرسول ملابس يوحنا المعمدان وطعامه ليُشبِع فضول القارئ، إنما ليربط بين المعمدان وبين إيليا النبي الذي قاد الشعب لعبادة الله على جبل الكرمل، فقال الكتاب عن إيليا أنه كان: " مُتَنَطِّقٌ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ" (2مل 1: 8)، وقال مرقس الإنجيلي: " وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ" (مر 1: 6)، وهو الذي جاء بروح إيليا النبي الناري، محقّقًا آخر ما قيل في العهد القديم على لسان ملاخي النبي أن: " هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ. فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ " (ملا 4: 5)، وأدرك اليهود أن المسيح لن يأتي إن لم يأتي إيليًا أولًا، ولكن فات عليهم أن يوحنا المعمدان هو إيليا الجديد، والتلاميذ في نزولهم من جبل التجلي: " فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ... لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ" (مر 9: 11 - 13). لقد كرز يوحنا المعمدان ليس بكلماته فقط، بل أيضًا بملبسه وطعامه وسلوكه وتصرفاته، فخلال فترة وجيزة قدم خدمة عميقة مؤثرة مهد خلالها الطريق لمجيء المسيا، وقاد الرعية نحو الراعي الصالح، ولسان حاله يقول: " يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يو 3: 30).
ويقول "الأب متى المسكين": " في الحقيقة يحتار الإنسان بين إيليا وبين يوحنا المعمدان، لأن القوة الروحية واحدة، والشجاعة الإلهيَّة واحدة، وتوبيخ الخطاة وتعنيفهم واحد، حتى اللبس واحد، فأيهما صورة للآخر؟ هل جاء إيليا كنبي قبل الميعاد ليتنبأ عن شخصية المعمدان نصًا وحرفًا وشخصًا؟ أم أن يوحنا جاء على نمط إيليا تحقيقًا لوعد الله وتذكيرًا وتوثيقًا لصحة وصدق العهد القديم؟.. وعلى باب الملكوت يقف إيليا يعانق المعمدان وكل منهما صورة طبق الأصل شكلًا وموضوعًا، صنعها الله ليطابق القديم على الجديد ويصل الليل بالنهار والحلم باليقظة" (219).
2- هل كان يوحنا " يَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا" (مر 1: 6)، أم أنه " جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ" (مت 11: 18)؟.. يقول "القس منيس عبد النور": " لا يوجد تناقض، فقد قضى يوحنا حياة تقشف وزهد، فكان يقتصر على أكل الجراد والعسل البري، وهذا ليس أكلًا وشربًا اعتياديين، فأن المسيح قال عن يوحنا: "مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا... أَإِنْسَانًا لاَبِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً" (لو 7: 24) يعني أن يوحنا ليس من أصحاب الترف، فصح أن يُطلَق عليه أنه "لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ" كناية عن التقشف والزهد، فلا يعقل أن إنسانًا يعيش بدون أكل ولا شرب مُطلقًا، فلا نفسر هذا حرفيًا" (220). كما أنه سبق الإجابة على هذا التساؤل، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س332.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل يوحنا لم يقصد بقوله: " يَأْتِي بَعْدِي" السيد المسيح لأنه كان معاصرًا له، إنما قصد شخص آخر؟
أ - لقد سبقت كرازة يوحنا المعمدان كرازة السيد المسيح بستة أشهر، أي أن الستة أشهر الأولى من خدمة المعمدان لم يكن قد ظهر فيها السيد ولا بدأ خدمته، فخلال تلك المدة يحق ليوحنا المعمدان أن يقول: " يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي".
ب - من هو الشخص الذي يأتي بعد يوحنا المعمدان البتول، الشهيد، ابن الموعد، السابق الصابغ، أعظم مواليد النساء، وينطبق عليه قول يوحنا: " مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (مر 1: 7)؟!! مع أن حل سيور الحذاء من عمل العبد وحده، حتى أنه جاء في الأدب الرباني أن على التلميذ أن يقدم لمعلمه كل الخدمات باستثناء حل سيور حذائه، لأن هذا من عمل العبيد، فمن هو هذا الذي لا يستحق يوحنا المعمدان أن يكون له عبدًا؟!! من هو غير المسيح الذي قال له المعمدان: " أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيّ" (مت 3: 14).
جـ - أي شخص في الوجود كله يستطيع أن يعمد بالروح القدس كقول المعمدان عنه: " أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (مر 1: 8)؟!!. من هو الذي يستطيع أن يُرسل روح الله القدوس إلَّا الله نفسه الذي قال: " أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ وَلَيْسَ غَيْرِي... وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى. وَعَلَى الْعَبِيدِ أَيْضًا وَعَلَى الإِمَاءِ أَسْكُبُ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ" (يؤ 2: 27 - 29)؟!!.. لا أحد يستطيع إلَّا يسوع المسيح إلهنا الحقيقي الذي أعطانا موعد الآب قائلًا: " وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (يو 15: 26).
4- كيف يعتمد يسوع معمودية التوبة وهو بلا خطية؟..
أ - أعتمد كنائب عن البشر مثلما قَبِل الختان وهو في اليوم الثامن ليتمم كل مطالب الناموس، فهو الإنسان الوحيد الذي استطاع أن يتمم جميع مطالب الناموس.
ب - أعتمد مع أنه بلا خطية ولكنه هو حمل الله الذي حمل خطايا العالم كله " لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً خَطِيَّةً لأَجْلِنَا لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ الله فِيهِ" (2 كو 5: 21).
جـ - أعتمد ليكمل كل بر، كقوله ليوحنـا المعمدان " لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِر" (مت 3: 15). فقد جاء ليكمل عجز الإنسان الذي فشل في الخضوع للوصايا.
ويقول "القديس كيرلس الكبير": "هل كان المسيح في حاجة إلى العماد المقدَّس؟ وأي فائدة تعود عليه من ممارسة هذه الفريضة؟ فالمسيح كلمة الله، قدوس قدوس كما يصفه إشعياء في مختلف التسابيح (إش 6: 3).. "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ" (1بط 2: 22)، "قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ" (عب 7: 26).. فما عُمّد المسيح إلَّا لتعليمنا بأن الإنسان الذي من ذرية داود وهو المتحد باللَّـه الابن عُمّد وقَبِل الروح القدس... مع أنه لم ينفصـل قط عن روحه (القدوس) قبل العماد" (221). ويقول "القديس أمبروسيوس": " أعتمد الرب ذاته... لم يُعمَّد ليطهُرَ وإنما ليطهّر الماء، فإذ نزل إليها المسيح الذي لم يعرف خطية صار لها سلطان على التطهير، بهذا كل من يُدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه" (222).
ويقول "الشهيد يوستين" أنه: "عندما أعتمد المسيح اشتعلت نار في الأردن" (223).
_____
(219) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 128، 129.
(220) شبهات وهمية حول الكتاب المقدَّس ص 346.
(221) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب مرقس ص 31.
(222) المرجع السابق ص 31.
(223) أورده دكتور ميخائيل مكسي إسكندر - تفسير الإنجيل بحسب ما كتبه القديس مرقس الرسول ص 20.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/490.html
تقصير الرابط:
tak.la/6gn9r8z