س350: هل ما جاء في (مت 14: 3 - 12) الخاص بقصة سجن وإعدام يوحنا لا يتناسب مع تسلسل الأحداث؟ وهل زوج هيروديا هو فيلبس (مت 14: 3) أم أنه هيرودس كقول يوسيفوس في كتابه الثامن عشر في الباب الخامس، كما أن طبعات الكتاب سنة 1823م , و1844م، و1882م جاء فيها: "من أجل هيروديا امرأة أخيه "، وأيضًا جاء قول إنجيل لوقا (لو 3: 19) في طبعتي 1865م، 1983م بين قوسين هلاليين للدلالة على أنها ليس لها وجود في أقدم النسخ؟ ولماذا لم تكتفي هيروديا باستصدار أمر بقتل يوحنا بل طلبت رأس يوحنا على طبق (مت 14: 8)؟ ولماذا لم يرفض الملك طلبها ما دام ضد إرادته حتى أنه اغتم وحزن جدًا (مر 6: 26)؟ وهل خاف يسوع هيرودس حتى أنه ترك المكان وانصرف إلى موضع خلاء منفردًا (مت 14: 13)؟
يقول "كمال الصليبي": "عندما قُتل يوحنا المعمدان بأمر من هيرودس أنتيباس، وكان يسوع بعد في الجليل، وأُخبر بذلك: "انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ" (مت 14: 13) مما يعني أن الخوف من نوايا هيرودس تجاهه بدأ يدخل في روعه من تلك الساعة" (933).
كما يقول "كمال الصليبي" أيضًا: "ولم يطل الوقت حتى أمر هيرودس أنتيباس بإلقاء القبض على يوحنا المعمدان وسجنه، ثم يقتله، وبعد ذلك بدأ يرسل في طلب يسوع، مكررًا الطلب مرة بعد مرة. ودخل في روع يسوع أن هيرودس ينوي له الشر هو أيضًا، ففرَّ مع المقرَّبين من أنصاره من الجليل إلى مخابئ آمنة في براري "عبر الأردن" و"اليهودية".."(934). (راجع الشيخ رحمة اللَّه الهندي - إظهار الحق جـ 2 ص312، وعلاء أبو بكر - البهريز جـ 2 س237 ص212 - 214).
ج: 1ــ فعلًا ما جاء في (مت 14: 3 - 12) يعتبر قطع لسياق القصة، وهذا أمر متعارف عليه في أدب الكتابة، ويُسمى بالالتفات الأدبي، إذ يقطع الكاتب تسلسل الأحداث ليذكر أمرًا معينًا ثم يعود إلى تسلسل الأحداث، وهنا نلاحظ أن القديس متى توقف ليذكر قصة القبض على يوحنا المعمدان واستشهاده (مت 14: 3 - 12) ثم عاود الحديث في (مت 14: 13) ليستكمل ما وصل إليه من قبل في (مت 14: 2) ويُعرَّف "الإلتفات الأدبي": "الانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر أو أنه الانصراف عنه إلى آخر" (935). ومن أنواع الالتفات:
أ - الالتفات الفعلي: وهو يقع بين صيغ الأفعال مثل: من المضارع إلى الأمر، ومن الماضي إلى الأمر، ومن الماضي إلى المضارع، ومن المضارع إلى الماضي.
ب - الالتفات العددي: وهو الانتقال من الجمع إلى الفرد، والعكس، ومن المثنى إلى الجمع. والعكس.
جـ - الالتفات النوعي (الضميري): ويقع بين الضمائر، ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، فينتقل الكاتب من المخاطب للغائب والعكس، أو من المتكلم إلى المخاطب والعكس، أو من الغائب للمتكلم والعكس.
وعُرِف أسلوب الالتفات في شعر المعلَّقات في الشعر الجاهلي، كما عُرِف في القرآن (راجع حسن طبل - أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية).
2ــ كانت هيروديا زوجة فيلبس أخو هيرودس أنتيباس من أبيه هيرودس الكبير، فهو أخ غير شقيق، وهناك رأيان فيمن هو فيلبس زوج هيروديا:
أ - فيلبس رئيس الربع، وهو ابن الملك هيرودس الكبير من زوجته اليهودية كليوباترا Cleopatra of Jerusalem من أورشليم، وجاء ذكره في (لو 3: 1)، وتميَّز بالأخلاق السامية والهدوء والاعتدال والعدل حتى أنه كان يأخذ معه في تنقلاته "كرسي القضاء" فيستمع لشكاوي المظلومين وينصفهم، وجاء في "التفسير التطبيقي": "كان فيلبس أخو هيرودس غير الشقيق، أحد الولاة الأربعة لولايات فلسطين، وكانت ولايته أيطورية وتراخونيتس إلى الشمال من بحر الجليل (لو 3: 1) وكانت زوجته هيروديا قد هجرته لتعيش مع هيرودس، وقد أدانهما يوحنا المعمدان لأجل هذا الفجور (مر 6: 17، 18)" (936).
ب - فيلبس آخر غير رئيس الربع، وهو ابن هيرودس الكبير من زوجته مريمن ابنة سمعان رئيس الكهنة والتي أمر هيرودس باعدامها مع أمها ألكسندرة رغم محبته لها، ثم أعدم ابنيه إسكندر وأرسطوبولس من مريمن.
وسواء كان فيلبس زوج هيروديا هو رئيس الربع أو فيلبس ابن مريمن، فكليهما كان أخًا غير شقيق لهيرودس إنتيباس الذي طمع في هيروديا وتزوجها رغم أن أخيه على قيد الحياة، وهذا التساؤل أُثير قديمًا حتى أنه أُجيب عنه سنة 1900م، فجاء في "كتاب الهداية": "قال المؤرخ يوسيفوس أنه لما كان هيرودس أنتيباس مسافرًا إلى روما عرج على بيت أخيه هيرودس فيلبس، الذي قال عنه البشير أنه فيلبس وعشق امرأته، واتفق معها على أن يُطلّق زوجته ابنة (أرتياس) ملك بترية في الغرب، واتفقت هيَ على أن تُطلّق زوجها، فالبشير متى قال أن هيروديا هيَ (امرأة فيلبس)، فإن لفظ "هيرودس" مشترك يُطلَق على كل من أولاد هيرودس الكبير... فلو قال البشير متى أن هيرودس تزوج امرأة هيرودس لكان ذلك تحصيل حاصل ولما فُهِم المُراد، ولكنه قال أن هيرودس أي أنتيباس تزوج امرأة فيلبس أخيه أي هيرودس فيلبس، فاقتصر على اللفظة التي تُعيّن المُراد، وصرف النظر عن اللفظ المشترك بل ذكر قرينة أخرى تُعيّن المُراد وهيَ قوله امرأة أخيه، وعبارة يوسيفوس مؤيدة لما ذكره البشير من كل وجه. ومن أُوتي ذرة من الفهم لا يعترض على عبارة البشير فأنها أوضح وأفصح من عبارة يوسيفوس" (937).
وكون أن بعض طبعات الكتاب المقدَّس لم يرد فيها اسم فيلبس بل أشير إليه بكلمة أخيه، أو وضع الجملة بين قوسين هلاليين فإن هذا يعتمد على المخطوطات والطبعات التي تعتمد عليها كل طبعة، فإن ورد في بعض المخطوطات "امرأة أخيه" وفي مخطوطات أخرى "امرأة فيلبس" فإن المعنى واحد، وهذا يدخل ضمن نطاق القراءات المتنوعة أو المختلفة التي تهتم بضبطها مدرسة النقد الأدنى.
3ــ أوصت هيروديا ابنتها سالومي لتطلب من هيرودس: "أَعْطِني ههُنَا عَلَى طَبَق رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (مت 14: 8)، فلم تكتفي بإستصدار أمره بقتل يوحنا وذلك:
أ - لكي تشفي غليلها في الرجل الذي تصدى للملك ولم يخشَ الموت، بل دان الملك ووبخه قائلًا: "لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ" (مت 14: 4) فقد فعل هيرودس ما قد حرَّمه الناموس أن يتزوج أحد بامرأة متزوجة (لا 18: 16)، فلو أن فيلبس مات لحق لهيرودس أن يتزوج هيروديا ليقيم نسلًا لأخيه المتوفي (تث 25: 5، 6)، ولكن فيلبس كان على قيد الحياة، فكيف يتزوج أخوه هيرودس بهيروديا زوجته؟!!
ب - لتتأكد أن هيرودس لم يخدعها، بل تتأكد أن الذي ذُبح هو يوحنا المعمدان وليس شخص آخر.
جـ - لتنفيذ جريمتها البشعة بأقصى سرعة ممكنة لئلا يتراجع هيرودس عن وعده: "أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالًا رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق" (مر 6: 25)، فشهوة الانتقام جعلتها متعطشة إلى سفك الدماء البريئة، وكان يوحنا سجينًا في قلعة ماخيروس، ويقول "متى هنري": "والأرجح أن السجن كان قريبًا، عند باب القصر، وإليه أُرسل أحد الضباط لقطع رأس ذلك الرجل العظيم. يجب قطع رأسه على عجل إرضاءً لهيروديا التي كانت على أحر من الجمر حتى ينفذ الأمر. تم ذلك ليلًا، لأنه يبدو أنه كان بعد العشاء. وتم في السجن، لا في المكان المعتاد للقتل، خوفًا من حصول ثورة" (938).
4ــ لماذا لم يرفض هيرودس طلب سالومي ما دام أنه لا يشاء ذلك، حتى أنه اغتم وحزن جدًا لمقتل يوحنا؟:
أ - منذ البداية لم يشأ هيرودس أن يسمع لصوت السماء على لسان يوحنا المعمدان، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولو أصغى هيرودس لصوت السماء لندم على فعلته الشنعاء ولطرد هيروديا رأس الحية من قصرة، لكنه أصغى لصوتها حتى أنه أراد قتل يوحنا لولا خوفه من ثورة الشعب ضده. لم يخشَ صوت اللَّه، بل ألقى بيوحنا في السجن لمدة تعادل تقريبًا مدة كرازته، ويقول الكتاب: "وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ الشَّعْبِ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ" (مت 14: 5).
ب- خشى هيرودس من اهتزاز موقفه أمام الحاضرين، لأنه: "وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا" (مت 14: 7) فبسبب شهواته المنفلتة أراد أن يضحي بنصف المملكة، أما رأس يوحنا فقد كانت في نظر هيروديا أهم وأعظم من نصف مملكة زوجها، لأنها في الحقيقة كل مملكة هيرودس في يدها، والملك في مجونه وافق على طلبها، معتقدًا أن القسم الذي أقسمه يبرّر فعلته هذه، وفي الحقيقة أن قسمه كان خطأ وفعلته جريمة نكراء في حق أعظم مواليد النساء، وكان يمكنه أن يرفض طلبها لأنه وعد أن يعطي حتى نصف مملكته ولم يعد بسفك دماء بريئة، ولكن الأهواء الرديئة أعمت بصيرته ودفعته لارتكاب جريمته في غباء مطبق.
جـ- كان اغتمام هيرودس وحزنه: "فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا" (مر 6: 26) مجرد أمر عابر وسحابة صيف عارضة، فلم نسمع أن حزنه على قتل يوحنا دفعه لتصحيح سلوكه وطرد هذه الشريرة من قصره، وربما كان حزن هيرودس تظاهُر وليس حقيقة، كما تظاهر باحترام القسم، وتصنَّع الأدب والوفاء بالوعود.
5ــ هل خاف يسوع هيرودس حتى أنه ترك المكان وإنصرف إلى موضع خلاء منفردًا (مت 14: 13)؟
أ - السيد المسيح هو الإله المتجسد، الأسد الخارج من سبط يهوذا، لم يخف لأن الخوف نتيجة من نتائج الخطية، وهو القدوس الذي بلا خطية وحده، ولكن في حكمته لم يستهن بالمخاطر، فعندما سمع هيرودس الملك عن كرازة السيد المسيح قال أنه يوحنا المعمدان قد قام من الأموات، وقد يدفعه جنونه إلى القبض على السيد المسيح ووضعه في السجن أو ذبحه، مع أن ساعته لم تأتِ بعد.
ب - رتب السيد المسيح أن يكون موته بالصلب على خشبة العار، فعظم منه لا تُكسر بحسب النبؤات (خر 12: 46، مز 34: 20)، وليرفع عنا اللعنة وعار الخطية والآثام.
جـ - في هذا الوقت الذي سمع فيه السيد المسيح باستشهاد يوحنا كان التلاميذ قد عادوا من رحلتهم الكرازية (مر 6: 30، 31، لو 9: 10) ويحتاجون للهدوء، فصدموا بذبح يوحنا المعمدان وبعضهم كانوا من تلاميذه من قبل، فربما تسلَّل الخوف والإحباط إليهم، فالسيد المسيح ترأف عليهم وانصرف من ولاية هيرودس في الجليل، وإتجهوا إلى مدينة بيت صيدا وهيَ في ولاية أخيه فيلبس الذي عُرِف بالهدوء والرزينة والسلام والإعتدال.
د - في هذا كله لم تتوقف كرازة المسيح لحظة، لأنه حيثما ذهب كانت الجموع تسرع وراءه الجموع، فكان يحتويهم ويعلمهم ويرشدهم ويطعمهم لأنهم كانوا كخراف لا راعٍ لها.
أما قول الناقد بأن السيد المسيح فرَّ مع المقرَّبين من أنصاره إلى مخابئ آمنة، فهذا لم يحدث، إنما هو من وحي الخيال، والأدلة على ذلك كثيرة، فعندما: "تَقَدَّمَ بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ اخْرُجْ وَاذْهَبْ مِنْ ههُنَا لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ. فَقَالَ لَهُمُ امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ.." (لو 13: 31، 32)، وعندما ذهبوا ليقبضوا عليه في البستان: "فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ مَنْ تَطْلُبُونَ. أَجَابُوهُ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ" (يو 18: 4، 5) فسقطوا على الأرض وعندما نهضوا وجدوه أمامهم لم يهرب منهم، وشهد بيلاطس البنطي في رسائله إلى معلمه سينيكا لشجاعته وجسارته في مواجهة الموت، وعندما حوكم أمام هيرودس: "وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ" (لو 23: 9).
ويقول "متى هنري": "لم تكن ساعة يسوع قد أتت بعد، ولذلك لم يكن هنالك مبرر لدفع نفسه للآلام. كان ممكنًا أن ينجي نفسه بقوة إلهيَّة، ولكنه لأنه قصد أن يجعل حياته قدوة لنا تصرف كإنسان، لذلك " انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ " ولكن لأنه " لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل " فأنه لما " فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً " من كل مكان. هكذا كانت للمسيح مكانة خاصة في قلوب الجميع حتى أن انصرافه عنهم جذبهم إليه بأكثر رغبة" (939).
_____
(933) البحث عن يسوع - قراءة جديدة في الأناجيل ص57، 58.
(934) المرجع السابق ص65.
(935) جليل رشيد ــ فن الالتفات في مباحث البلاغيين ط 1984م ص66.
(936) التفسير التطبيقي ص1918.
(937) الهداية جـ 2 ص211.
(938) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص474.
(939) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى ص477.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/350.html
تقصير الرابط:
tak.la/nbws3tx