س453: كيف كانت نظرة الإنسان لفداء المسيح عبر العصور المختلفة، أو بمعنى آخر ما هيَ النظريات المختلفة للكفارة؟
ج: أولًا: من أهم نظريات الكفارة التي ظهرت عبر العصور المختلفة نظرية الفدية، ونظرية الترضية، ونظرية التأثير الأخلاقي، والنظرية الكلاسيكية ونظرية البدلية العقابية -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- (بالإضافة إلى نظريات أخرى أقل أهمية مثل الاسترداد، والغموض، والقدوة والمثال، والتجارية، والأرمينية، والحكومية... إلخ) ونعرض لهذه النظريات في عجالة:
1- نظرية الفدية: هيَ أقدم نظرية ظهرت منذ بدء المسيحية، وبُنيت على قول السيد المسيح: "أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مت 20: 28)، وقول بولس الرسول: "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ" (1 تي 2: 6)، وجاء في الرسالة إلى ديوجينس: "هو نفسه حمل خطايانا كفدية لنا. القدوس لأجل العصاة، وهو أهل وكفؤ لتغطية خطايانا ببره" (324). فهذه النظرية مستمدة من أقوال العهد الجديد وسارت على فكر الآباء منذ نشأة المسيحية، وتقوم على جانبين، الجانب الأول صراع المسيح مع قوى الشر، والجانب الثاني المسيح المنتصر. ولم يتساءل أحد: ما دام دم المسيح الذي سُفك على الصليب كان فدية للبشر، فلمن دُفِعت هذه الفدية؟ حتى جاء أوريجانوس فقال أن السيد المسيح دفع هذه الفدية للشيطان ليطلق البشر من قبضته، فيقول "الأسقف جوستاف أولين" Gustaf Aulen في كتابه "المسيح المنتصر" Christus Victor ص67 أن أوريجانوس قدم فكرة جديدة مرتبطة بفكرة فداء الإنسان من يد الشيطان، فالشيطان تم خداعه، إذ قد بذل المسيح نفسه كفدية للشيطان (مقابل أن يطلق أنفس البشر)، وقَبِل الشيطان بالفدية قبل أن يتحقَّق من أنه لن يستطيع أن يبقى على مكانته نتيجة للقوة الإلهيَّة والفدائية التي للمسيح، وأبتلع الشيطان الطُعم وأُمسك في الفخ، ولذا فإن نفوس البشر حتى التي في الهاوية سوف تُطلَّق حرة من قوة الشيطان (راجع د. فينيس نيقولا - الكفارة نظرية وتطبيق ص66).
فصار لهذه النظرية، جانب قديم مقبول وهو أن الصليب كان فدية، وجانب استحدثه أوريجانوس وهو أن السيد المسيح دفع الفدية للشيطان وهو جانب مرفوض، فقال القديس أثناسيوس لا يصح أن يحصل الشيطان السارق والغشاش على ثمن (تحرير الإنسان)، واستخف القديس غريغوريوس النيزنزي (540 - 604م) بفكرة دفع الفدية للشيطان، وقال كما قال القديس أثناسيوس أن الفدية دُفعت للآب: "وهكذا إذ إتخذ جسدًا مماثلًا لطبيعة أجسادنا، وإذ كان الجميع خاضعين للموت والفساد فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع وقدمه للآب.." (تجسد الكلمة 8: 4)(325). وقال "غريغوريوس النيزنزي": "فالتجسد إذًا هو أن اللَّه هزم الأعداء حتى يطلقنا أحرارًا ويصالحنا مع نفسه من خلال ابنه" (326).
وفي لحن " فاي إيتاف أنف" نصلي: "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا. فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة".. وردًا على سؤال: هل قدم السيد المسيح الفدية للعدل الإلهي أم للشيطان ليفك أسر الإنسان ويتخلى عن الذين في قبضته؟ يقول "البابا شنوده الثالث": "الفدية قُدمت للعدل الإلهي عن خلاص البشر، وهكذا كل ذبيحة في العهد القديم، كانت تُقدم للعدل الإلهي وليس للشيطان. لأننا كنا تحت حكم الموت الذي صدر علينا من اللَّه نتيجة للخطية: "لكِنْ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ... بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ" (رو 5: 14، 15). واللَّه هو الذي بيده حكم الموت: "وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ" (رؤ 1: 18).
وهو الذي أصدر الحكم: "أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ" (رو 6: 23) وأيضًا "وبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ " (عب 9: 22).
اللَّه إذًا هو صاحب الحق، وهو " دَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ " (تك 18: 25)، والفدية تُقدم إليه، إلى عدله الذي حكم بالموت، لأن الخطية موجهة ضد اللَّه: "إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ " (مز 50) فالإنسان أخطأ إلى اللَّه: كسر وصية اللَّه، وخالفه، وصدق الحيَّة أكثر منه، ولم يبالِ بقوله عن الشجرة: "يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ " (تك 2: 17).
أما الشيطان فليس له حق على الإطلاق يُطالب به. أنه مجرد مغتصب، ويشتكي على البشر. ونحن لسنا مبيعين له، وإنما كنا مبيعين للموت، وليس للشيطان. والموت زال حكمه عنا فصرنا أحرارًا بدم المسيح لنا. ولا يستطيع الشيطان أن يدعي سلطانًا علينا. بل قال عنه السيد المسيح: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ " (لو 10: 18). وقال: "رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ" (يو 16: 11).
وليس للشيطان سلطان أو جرأة أن يساوم اللَّه عن دم ابنه. بأي حق يساوم وهو واقع تحت الدينونة. وقد انحدر إلى الهاوية منذ أن أخطأ (إش 14: 15). وليس في يده مصير الناس حتى يتحكم!. كل ما يستطيعه أن يشتكي ويحتج: لماذا يخلص هؤلاء؟! فإن كان عدل اللَّه قد استلم دم خلاصهم بالفداء، إذًا يستد كل فم...
هل اللَّه يساوم عبدًا محكومًا عليه بالهلاك؟! حاشا. وهل يساومه بأن يقدم الابن القدوس فدية؟! عن أي شيء! عن أنفس عبيده؟! وهؤلاء لا يملكهم الشيطان... بل يشتكي عليهم كحسود. يراهم يخلصون، وهو هالك؟! وهم ليسوا في حوزته، لأنهم قد رقدوا على رجاء: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا "(عب 11: 13). المسيح نزل إلى الهاوية وعتقهم جميعًا بعد صلبه (أف 4).
كذلك فإن المسيح لم يقدم نفسه فدية للشيطان. بل من محبته قدم نفسه بإرادته عن خلاص العالم. فهو الذي قال عن نفسه: "أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا" (يو 10: 17، 18). وقد وضعها حبًا للناس، وليس مساومة للشيطان (يو 3: 16).
وعلى الصليب، قدم المسيح نفسه للآب، وليس للشيطان. وقال: "يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي " (لو 23: 46). ثم هناك سؤال نسأله بخصوص تلك المساومة المزعومة. ما الذي يستفيده الشيطان من تلك المساومة؟! هل يترك كل تلك النفوس التي يزعم أنها بين يديه، ليأخذ في مقابلها لا شيء؟ إن كان يطلب موت المسيح فرضًا، فماذا يستفيد من موته، وفي موته خلاص العالم؟! بل أن الشيطان كان ضد موت المسيح، وهو الذي أوحى إلى اليهود أن يقولوا: "إِنْ كُنْتَ ابنَ اللَّه فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ" (مت 27: 40).
وهل معقول أن دم المسيح يقدم للشيطان، وهو الدم الذي يطهر من كل خطية؟! (1 يو 1: 7)؟! وماذا عن ذبائح العهد القديم، التي كانت ترمز كلها إلى دم المسيح، هل كانت هيَ أيضًا تُقدم للشيطان؟!، والنار التي كانت تنزل من السماء لتقبلها كما مع ذبائح إيليا ضد أنبياء البعل (1 مل 18: 38). هل كانت تُقدم للشيطان؟! أم كانت تمثل العدل الإلهي الذي يقبل الذبيحة؟! ذبيحة الفصح مثلًا ترمز للمسيح (1 كو 5: 7).. كان الملاك هو الذي يرى دمها على الأبواب، فيعبر عن الأبكار ولم يهلكهم. أكانت هذه فدية مُقدمة للشيطان؟! وهل كل محرقات العهد القديم كانت لإرضاء الشيطان. أم رائحة سرور للرب ؟! (لا 1).
الشيطان مقاوم للخلاص، فلا يمكن أن يكون طرفًا فيه بقبوله الفدية. وهل معقول أنه يقبل موت المسيح، الذي بموته داس الموت، وحطم كل قوة الشيطان؟!" (327).
2- نظرية الترضية أو الإيفاء: وقال بها "أنسلم" (1033 - 1109م) وهو فيلسوف إيطالي، وفي سن العشرين ذهب إلى فرنسا فأمضى ثلاث سنوات يستمع إلى مشاهير الأساتذة، ثم التحق بالرهبنة. وفي سنة 1093م أصبح رئيس أساقفة كانتربري، وألَّف عدة كتب منها "حديث النفس"، و"مقالة في وجود اللَّه"، و"الحقيقة"، و"الإرادة الحرة"، و"سقوط الشيطان"، و"لماذا تجسّد الكلمة". ويعتبر الزعيم الرمزي في الكنيسة الإنجليكانية، وأكبر شخصية فلسفية في القرن الحادي عشر وتأثر "أنسلم" بفلسفة أُغسطينوس، فآمن أن العقل ينبغي أن يخضع للإيمان " أنني أؤمن لكي أفهم أو أتعقل" فالإيمان يسبق المعرفة، وأيضًا الإيمان يحتاج للعقل الذي يفسر الأمور الغامضة ويشرح ما جاء في الكتاب المقدَّس، ولكن يظل الإيمان مجاله أوسع من العقل، فهناك أمور إيمانية يعجز العقل عن إدراكها. ورفض "أنسلم" فكرة الكفارة كفدية ولا سيما في القول بأنها فدية دُفعت للشيطان، فقال بنظرية الترضية، وهيَ أن خطية الإنسان أهانت وجرحت كرامة اللَّه، وكان اللَّه قادرًا على مغفرة الخطية، ولكن لأنه ملك، وهذه الإهانة لحقت برأس الدولة لذلك لا تُغفر بدون ترضية. وقال "أنسلم": "إن الإهانة التي لحقت باللَّه هيَ أكبر من أن تمحوها ترضية من كائن آخر سوى اللَّه، ولكن الذنب اقترفه إنسان فإذًا الإنسان فقط هو الذي يجب أن يقدم الترضية، فالكائن الذي هو اللَّه وإنسان هو الذي نحتاجه لهذه المهمة" (328).
كما قال "أنسلم" أيضًا في كتابه "لماذا تجسد الكلمة؟": "إن الإهانة التي لحقت باللَّه كبيرة جدًا ولا يمحوها إلاَّ ذبيحة كاملة، وبما أن يسوع بطبيعته إله وإنسان، فإنه هو الذبيحة الكاملة التي يمكن أن يوفي الدين" (الأسقف جوستاف أولين - المسيح المنتصر ص17، 18)" (329).
إذًا كفارة الصليب في نظر "أنسلم" كانت ترضية للآب عن كرامته الجريحة نتيجة خطية الإنسان، وربما تأثر "أنسلم" في نظريته هذه بالوسط الإقطاعي الذي يعيش فيه، حيث تظهر قيمة كل عضو في تبادل تقديم الكرامة، كما أنه يجب ترضية النبيل بأي طريقة كانت، وبنى نظريته على وجهة النظر القضائية القانونية فقط، وهيَ ليست بعيدة عن فكرة ذبيحة الخطية في العهد القديم وممارسات يوم الكفارة ونجد جذور نظرية الترضية أو الإيفاء لدى "العلامة ترتليان" الذي قال: "كم هو غبي وسخيف أن نهمل التكفير ثم نتوقع الحصول على غفران الخطايا"(330). كما قال "ترتليان": "كيف نفشل في دفع الثمن ثم نمد أيدينا لنطلب المنفعة. لقد عيَّن اللَّه الغفران وقضى به ومنحه عند دفع الثمن وأراد أن زوال العقوبة يُشترى بثمن تقدمة الكفارة، وفكرة الاستحقاق ارتبطت بما ورد في الناموس"(331). وأيضًا قال "كبريانوس": "إن أداء الكفارة يستند في استحقاقه على العدل الإلهي" (جوستاف أولين - المسيخ المنتصر ص97)(332). فالكفارة عند "أنسلم" تركز على ترضية اللَّه وتتجاهل بقية جوانب الصليب العديدة، مثل:
1) كان الصليب لإستيفاء العدل الإلهي حقه.
2) كان الصليب لرفع العقوبة واللعنة عن الإنسان.
3) كان الصليب لخلاص الإنسان من حكم الموت.
4) كان الصليب إعلان عن الحب الإلهي.
وأظهرت نظرية الترضية عدل اللَّه ورحمته كقوتين متصارعتين معًا، وهذا لم يحدث، لأن في الصليب تحقق الأمران معًا، العدل والرحمة " أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يو 1: 17).
وطوَّر "توما الأكويني" من نظرية أنسلم للترضية، فقال أن الصليب ليس مجرد رد دين الكرامة، بل أيضًا إيفاء لدين خطية البشر، لإيفاء مطلب العدل الإلهي، وتظل النظرية قاصرة أيضًا.
3- نظرية التأثير الأخلاقي: وتُدعى أيضًا النظرية الذاتية أو نظرية الشفاء، ونادى بها "بيتر أبيلارد" Abelard (بالفرنسية بيير أبيلارد Pieere Abelard) (1079 - 1142م).. فمن هو بيتر أبيلارد..؟ هو فيلسوف ولاهوتي كما يدعونه، وُلِدَ في فرنسا، وتعلم المنطق والأدب والفلسفة في باريس، واختلف مع أستاذه فانتقل إلى ميلان بالقرب من باريس وأسَّس مدرسة خاصة له، ودرس اللاهوت على يد "أنسلم" صاحب نظرية الترضية ورئيس أساقفة كانتريري، ثم اختلف معه فعاد إلى باريس حيث أنشأ مدرسة مقابل كاتدرائية نوتردام فاشتهرت ووصل عدد طلابها إلى نحو ألف طالب من شتى بقاع أوربا، ثم أصبحت فيما بعد جامعة باريس. وعندما طلب منه راهب كنيسة نوتردام أن يدرّس ابنة أخيه "إلويز" الرائعة الجمال سقط معها في قصة حب مآساوية، كان من نتاجها أنه ألف أغاني الحب، وأنجب منها طفلًا، ثم تزوجها سرًا، وتعرض لضرب مُبرح من مجموعة رجال دفع بهم إلويز، حتى أنهم خصوه، فذهب إلى الدير، وذهبت زوجته إلى دير آخر حتى لا تكون لغيره. وانشغل بيتر أبيلارد بتأليف الكتب، فكتب "اللاهوت المسيحي"، و"المنطق"، و"نعم ولا"، و"المحاورة بين يهودي ويهودية"، و"مقدمة في اللاهوت" وبسبب هذا الكتاب حُكم عليه بالهرطقة وأمروا باحراق كتبه، وعلى الفور تظاهر بالاعتراف بخطئه وإعلان توبته فصفح عنه. أما الأخطاء الثلاثة التي سقط فيها بيتر أبيلارد، فهيَ:
أ - أنكر الخطية الأصلية، وبالتالي فإن الصليب لم يكن عقوبة، ولم يكن لإيفاء العدل الإلهي، ورفض نظرية "أنسلم" الخاصة بالترضية. وقال بيتر أن الأهم من الفعل النية التي وراء هذا الفعل، وأعطى مثلًا للنية النبيلة التي نتج عنها عمل بشع، وهو هب أن أمًا رأت طفلها يرتعش بردًا، وإذ هيَ لا تمتلك ملابس ثقيلة له، ضمته إلى حضنها بشدة وفي غفلة اختنق الطفل ومات، فهيَ مدانة أمام القضاء الأرضي، لكن أمام القضاء السمائي فهيَ أمام اللَّه بريئة تمامًا من هذا الذنب، وخلص إلى نتيجة وهيَ أن الخطية ليست في الفعل بل في النية، وبرَّر الذين عذَّبوا المسيح وصلبوه وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا، لأن نيتهم كانت سليمة في الدفاع عن عقائدهم، ولو لم يفعلوا ذلك لخالفوا ضمائرهم. فنية الإنسان وليس فعله هيَ التي تحدد الفعل الأخلاقي.
ب - أنكر الأسرار قائلًا لا أسرار في الدين.
جـ - أنكر الثالوث القدوس، قائلًا أن اللَّه أقنوم واحد له ثلاث صفات هيَ القدرة والعلم والحياة.
وبينما اتهم الكثيرون بيتر أبيلارد بالهرطقة فإن البعض اعتبروه أنه مسيحي يعمل عقله، ويعبر عن مسيحيته بالطرق العقلانية. أما عن نظريته بالنسبة للكفارة فقد قال بنظرية التأثير الأخلاقي ومحور هذه النظرية أن الإنسان مريض روحيًا ويحتاج للمساعدة، فجاء يسوع وصُلب ومات على الصليب ليظهر مدى محبة اللَّه لنا، فهذا يحرك محبتنا للَّه بقوة بتأثير الروح القدس، فالصليب هو استعلان للمحبة الإلهيَّة، فالسيد المسيح قال: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِه" (يو 15: 13) وقال بولس الرسول: "وَلكِنَّ اللَّه بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رو 5: 8). فالمسيح هو المثال للفضيلة والأخلاق الذي أعلن محبة اللَّه للبشر، وعلى البشر أن يبادلونه نفس مشاعر الحب ويتخلون عن الأنانية والخطية، كما أن مشاعر الحب تجاه اللَّه تُخلّص الإنسان من الخوف وتدفعه للتوبة والإيمان والصلاح. وانتعشت نظرية التأثير الأخلاقي في القرن التاسع عشر، وأُعجب بها أصحاب اللاهوت الليبرالي، كما تعلم بها كثير من الروس المحدثين، ويحاول البعض زرعها في كنيستنا القبطية، ويؤخذ على هذه النظرية ما يلي:
1) تتجاهل نظرية التأثير الأخلاقي حالة الإنسان الحقيقية، فالإنسان ليس مجرد مريض كما تصوَّر بيتر أبيلارد، بل هو ميت بالذنوب والخطايا (أف 2: 1).
2) تتجاهل النظرية أن الصليب كان ضروريًا لإيفاء مطالب العدل الإلهي.
3) تتجاهل النظرية أن الصليب هو الذي رفع عنا حكم الموت إذ مات المسيح عوضًا عنا، وإفتدانا من اللعنة: "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا" (غل 3: 13). فلا تُعطي هذه النظرية سببًا منطقيًا معقولًا لآلام وموت المسيح... هل مات لأنه يحبنا فقط، وما فائدة هذا الحب إن لم يرفع عنا حكم الموت واللعنة والعقوبة؟!!. قال أحد المعترضين على هذه النظرية: "إنني إذا سقطت في نهر وكنت على وشك الغرق فإن وُجِد شخص ألقى نفسه في النهر لينقذني لكنه مات أثناء محاولته فإنني سوف أدرك مدى حبه المضحي ومدى قوة تضحيته، ولكن إذا كنت أجلس في أمان ثم جاء شخص آخر وألقى نفسه في اليم ليُظهِر حبه لي وغرق، فإنه سوف لا يحدث شيء أكثر من أني سوف أرثي لحال الغريق البريء. فإن لم يُحدِث موت المسيح شيئًا واقعيًا داخل الإنسان فإنه في الواقع لا يُعلن أي محبة"(333).
4) إن كان اللَّه يمكنه أن يغفر دون أن يوفي العدل الإلهي حقه، فالمسيح مات باطلًا، فلماذا سلَّم الآب ابنه للآلام الرهيبة والموت المُهين، ما دام كل المطلوب هو تحريك القلوب نحو محبة اللَّه، وهذا يفعله اللَّه بواسطة روحه القدوس؟!!. هذه النظرية تترك الإنسان بدون ذبيحة حقيقية ثمنًا للخطية.
5) تتجاهل نظرية التأثير الأخلاقي مبدأ الفداء، وتسلب من آلام وصلب المسيح مغزاها الفدائي، وترى في المسيح أنه مجرد مُعلِّم الفضيلة والأخلاق يؤثر بتعاليمه وموته. وصار مقياس الاستفادة من كفارة المسيح الخبرة الشخصية، وتقول "د. فينيس نيقولا": "التأكيد هنا على الخبرة الشخصية، أما الكفارة بهذه الكيفية فليس لها أي أثر خارج المؤمن بل أنها واقع من خبرة الشخص وليس في أي مكان آخر، وهيَ نظرية دافع عنها راشدال Hasting Rashdal سنة 1919م في وقت متأخر. ويمكن القول أنها نظرية لا تخلو من الصواب، لكنها إذا أُخذت مجردة كما هيَ فهيَ ليست كافية، ولا تفي بالمطلوب" (334).
4- النظرية الكلاسيكية: انتشرت في العصور الوسطى، وتركز على النصرة التي حقَّقها السيد المسيح على قوى الشر بموته وقيامته، وهذا ما تم التركيز عليه في الغرب، وكان واضحًا في ليتورجية القيامة والترانيم والفنون، وتقول "د. فينيس نيقولا": "فطبقًا للنظرية الكلاسيكية فإن يسوع فدى الإنسان بالنصر على قوى الشر، وحدث هذا بموته على الصليب وبرَّره بالقيامة. وأخذ التعبير على الصراع الإلهي والنصر شكل ترنيمة احتوت عملًا دراميًا وكانت تُقدَم في احتفالات عيد القيامة في العصر الوسيط حيث تُصوّر صراع الحياة مع الموت، وأيضًا ظهر في العمل الفني للصليب الانتصاري كفكرة سائدة في الفن الروماني في العصور الوسطى ونصرة رئيس الحياة. أي نصر المسيح - حيث التركيز على نصر المسيح أكثر من التركيز على آلامه" (335).
وتبنى هذه النظرية "مارتن لوثر" فاستخدم صورًا وأشكالًا في تعبيراته تصوّر النظرية الكلاسيكية، فكان يميل للعبارات الرنانة والألوان القوية. وبعد أن كان التركيز على إنتصار المسيح على الناموس والغضب الإلهي، فتجد التركيز على النصرة على قوى الشر، وهذه النصرة بلا شك قاصرة لأنها تصرف النظر عن موت المسيح الكفاري لفداء الإنسان ورفع العقوبة وإيفاء العدل الإلهي... إلخ.
5- نظرية البدلية العقابية: وفحوى هذه النظرية أن المسيح مات بدلًا ونيابة عنا وتحمل العقوبة عنا، فالمسيح مات عنا ليرفع عنا حكم الموت، ومات ليحمل العقوبة واللعنة الساقطة علينا، فموت المسيح هو الثمن الذي دفعه الابن للعدل الإلهي. الخطية هيَ تعدي على شريعة اللَّه القانون السمائي، فإن كان الإنسان عندما يخالف القانون الأرضي يتعرَّض للعقوبة، فمن يكسر إشارة المرور فإنه يتعرَّض لدفع الغرامة الواجبة، ومن يسرق يتعرَّض للسجن، ومن يقتل يتعرَّض للإعدام، فبلا شك أن الإنسان عندما تعدى الوصية الإلهيَّة وأكل من الثمرة المحرمة جرى عليه حكم الموت كما قال له الرب من قبل " يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تك 2: 17) فسقط الإنسان تحت عقوبة الموت، ولهذا تجسد كلمة اللَّه وتأنس وارتضى أن يقدم ذاته ذبيحة ويُذبح نيابة عنا ليفي العدل الإلهي حقه. وجاء في موقع "Got Questions" تحت عنوان: "ما هيَ النظريات المختلفة حول عمل المسيح الكفاري على الصليب": "نظرية العقاب البديل: وترى هذه النظرية أن عمل المسيح الكفاري على الصليب كان عملًا انتصاريًا تعويضيًا يستوفي متطلبات عدالة اللَّه عن الخطية. وقد دفع المسيح عقوبة خطية الإنسان مما جلب من الغفران والتبرير والمصالحة مع اللَّه. والذين يؤمنون بهذا الرأي، يؤمنون بأن كل جزء من الإنسان، بما في ذلك عقله وإرادته ومشاعره قد أفسدتها الخطية، وأن الإنسان فاسد تمامًا وميت روحيًا. ويقول هذا الرأي أن موت المسيح قد دفع ثمن عقوبة الخطية، وأن الإنسان يستطيع بالإيمان أن يقبل كون عمل المسيح الكفاري ثمنًا لخطاياه. وهذه النظرة إلى الكفارة تتفق بشكل دقيق مع وجهة نظر الكتاب المقدَّس عن الخطية، وطبيعة الإنسان، ونتائج موت المسيح على الصليب". وبالطبع لكي يحصل الإنسان على نصيبه من هذا الخلاص عليه أن يؤمن ويعتمد كقول السيد المسيح: "مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ" (مر 16: 16)، فالمعمودية موت ودفن وقيامة مع المسيح المصلوب القائم. وهناك أسئلة تتعلق بهذه النظرية عن وراثة الخطية الأصلية، وموت المسيح النيابي، وهل كان الصلب عقوبة؟ وهو ما نتابع الحديث عنه.
_____
(326) أوردته د. فينيس نيقولا - الكفارة نظرية وتطبيق ص56.
(327) سنوات مع أسئلة الناس جـ 8 ط 1994م ص40 - 42.
(328) أوردته د. فينيس نيقولا - الكفارة نظرية وتطبيق ص42.
(329) المرجع السابق ص42.
(330) المرجع السابق ص96.
(331) المرجع السابق ص96.
(332) المرجع السابق ص96.
(333) د. فينيس نيقولا... الكفارة نظرية وتطبيق ص44.
(334) د. فينيس نيقولا... الكفارة نظرية وتطبيق ص44.
(335) المرجع السابق ص109.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/453.html
تقصير الرابط:
tak.la/n662wz9