س434: هل اختلف الوحي بين الأناجيل، فمن جهة إنجيلي متى ومرقس أوضحا أن رئيس الكهنة مزَّق ثيابه (مت 26: 65، مر 14: 63)، ومن جهة أخرى إنجيلي لوقا ويوحنا لم يذكرا أن رئيس الكهنة مزَّق ثيابه؟ وهل كان من حق مجمع السنهدريم إصدار حكم بالموت؟ وكيف لم يستطع السيد المسيح أن يحمي نفسه من الذين بصقوا في وجهه ولكموه ولطموه وجلدوه وكللوه بإكليل الشوك (مت 26: 27، 27: 28 - 30)؟ ومن تحمَل هذه الآلام الناسوت أم اللاهوت؟
ج: 1- هل اختلف الوحي بين الأناجيل، فمن جهة إنجيلي متى ومرقس أوضحا أن رئيس الكهنة مزَّق ثيابه (مت 26: 65، مر 14: 63)، ومن جهة أخرى إنجيلي لوقا ويوحنا لم يذكرا أن رئيس الكهنة مزَّق ثيابه..؟ لو ذكر أحد الأناجيل أن رئيس الكهنة مزَّق ثيابه، وقال إنجيل آخر كلاَّ لم يمزّق ثيابه، لكان هذا تناقض وخلط واختلاف في الوحي، لكن هذا لم يحدث قط، وقد قلنا مرارًا وتكرارًا عندما ينفرد أحد الإنجيليين بخبر ما، فهذا لا يعني على الإطلاق أن بقية الإنجيليين ينكرون هذا الخبر، ولا يعني أن الوحي اختلف بين الإنجيل، فكل إنجيل له إنفراداته عن الأناجيل الأخرى، والأناجيل تتكامل وتتوافق دون أدنى تناقض، وهل يُريد الناقد أن تكون الأناجيل الأربعة صورة طبق الأصل من بعضها البعض، وما الداعي لكتابة أربعة أناجيل كل منها مطابق للآخر؟!!، وقد ناقشنا هذا الموضوع بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) س59. وما يهمنا في هذا الأمر أن رئيس الكهنة قد مزَّق ثيابه بالحقيقة مخالفًا الشريعة: "وَالْكَاهِنُ الأَعْظَمُ... لاَ يَكْشِفُ رَأْسَهُ وَلاَ يَشُقُّ ثِيَابَهُ" (لا 21: 10)، ولم تكن ثيابه العادية بل ثيابه الكهنوتية لأنه كانت أيام الاستعداد للفصح، ومما يُذكَر أن الوالي الروماني كان يحتفظ بهذه الثياب ويسلمها لرئيس الكهنة قبل العيد ويستلمها منه عقب احتفالات العيد.
ولم يسأل رئيس الكهنة يسوع كيف سيأتي ليدين المسكونة وهو يُحاكم بينهم الآن؟!.. لقد طفح الحقد من قلبه الشرير، حتى أنه مزَّق ثيابه، مصدرًا حكمه بأنه قد جدف، وعوضًا أن يأخذ آراء المجتمعين ثم يصدر الحكم، أصدر الحكم ثم بدأ يأخذ آراء المجتمعين: "هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ. ماذَا تَرَوْنَ؟ فَأَجَابُوا وَقَالوُا إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ" (مت 26: 65، 66)، وعقوبة التجديف الرجم، لكنهم لم يجرأوا على إتخاذ مثل هذه الخطوة لئلا يثور الشعب عليهم، فوضعوا في حسابهم أن يسلمونه للسلطة المدنية بتهمة سياسية لتتحمل هذه السلطة خطورة القرار نيابة عنهم.
2- هل كان من حق مجمع السنهدريم إصدار حكم بالموت..؟ يرى بعض الباحثين أنه كان من حق المجمع الكبير الحكم بالموت في الجرائم الدينية والتجديف على اللَّه، ويعتمد أصحاب هذا الرأي على أن اليهود شرعوا في رجم المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل (يو 8: 2 - 5)، ورجموا اسطفانوس (أع 7: 58 - 60)، وتجنب بولس مواجهة مجمع السنهدريم لأنهم طالبوا بقتله (أع 23: 12 - 15، 25: 1 - 3، 9 - 11)، وقد حمَّل بطرس واسطفانوس وبولس اليهود مسئولية قتل المسيح (أع 2: 23، 3: 13 - 15، 5: 13، 7: 52، 10: 39، 13: 27، 28). وقد عرض المجمع يسوع على بيلاطس للتصديق على قرار المجمع بهدف أن يظهروا أمام الشعب أنهم أبرياء من دم يسوع، وأيضًا لكيما يحكم عليه بيلاطس بأشنع ميتة وهيَ الصلب فيمحو ذكره من أذهان أتباعه، ويقول "موريس بوكاي": "ترك الرومان للمجمع اليهودي الحق في إصدار الحكم بموت شخص، ولكن موافقة الحاكم الروماني كانت لازمة وضرورية لتنفيذ الحكم" (236).
ويرى آخرون من الباحثين أن حكم مجمع السنهدريم على أحد بالموت قد انتزع منه قبل صلب المسيح بعدة سنوات، كقول "أيدرشيم" Edershim بأنه من المعروف أن المجمع اليهودي قد توقف عن تنفيذ القرارات الرسمية الخاصة بحكم الإعدام من أربعين سنة قبل هدم الهيكل وخراب أورشليم، أي من أيام السيد المسيح (راجع القس صموئيل وهبه - صلاة يسوع في البستان والقبض عليه ومحاكمته ص97). ولذلك بعد أن قبضوا على يسوع اقتادوه إلى بيلاطس ليحكم عليه بالصلب، وبذلك تكون المسئولية القانونية في الحكم بصلب المسيح تقع على بيلاطس، والمسئولية الأدبية تقع على القيادات اليهودية التي قبضت عليه ودفعت به أمام بيلاطس.
3- كيف لم يستطع السيد المسيح أن يحمي نفسه من الذين بصقوا في وجهه ولكموه ولطموه وجلدوه وكللوه بإكليل الشوك..؟ بعد القبض على يسوع اجتهد حنان وقيافا في دعوة أعضاء مجمع السنهدريم وقد انتصف الليل أو تجاوز، وكان الشكل القانوني يكتمل باجتماع ثلث الأعضاء البالغ عددهم سبعون عضوًا بالإضافة إلى رئيس الكهنة على مثال السبعين شيخًا الذين اختارهم موسى ليعينوه في أمور القضاء وهو في وسطهم، ونجح رؤساء الكهنة في تجميع ثلث الأعضاء، متغافلين أنه من الأساس لا يصح اجتماع المجلس ليلًا للحكم في قضايا يترتب عليها الحكم بالإعدام. وإذ فشل المجلس في إدانة السيد المسيح بالرغم من استعانتهم بشهود زور، لجأ قيافا رئيس الكهنة إلى سؤال السيد المسيح عما إذا كان هو ابن اللَّه؟ وعندما تلقى الإجابة وأعلنت الحقيقة أمامه، لم يتساءل عما يجهله، بل في مسرحية هزلية مزَّق ثيابه حاكمًا عليه بأنه جدف، ولا حاجة بعد إلى شهود، وبهذا أعطى الإشارة للعبيد لإيقاع الأذى به، فقد فكَّ القيد الذي كان يمنع الأشرار عن أذيته، فانتقموا منه محتقرين إياه، حتى أنهم بصقوا في وجهه، أشد أنواع التحقير، ولكموه ولطموه، وغطوا وجهه وضربوه وهم يسألونه قائلين: تنبأ أيها المسيح من لطمك؟ مستهزئين بمعرفته الإلهية كابن اللَّه، ويقول "متى هنري": "بصقوا في وجهه". لأنهم لم يكن لهم سلطان لتنفيذ حكم الموت ولم يكونوا واثقين من أنهم سوف يقنعون الوالي بتنفيذ حكمهم، فقد أرادوا أن يسيئوا له بأقصى ما يستطيعون إذ كان هو نفسه في أيديهم... عندما أصدروا الحكم على الرب يسوع عاملوه كأن أبواب جهنم قد فتحت فقذفت حممها عليه... وكأنه لا يستحق العطف الذي يُعامل به أشر المجرمين، وهكذا "صار لعنة من أجلنا" ولكن من هم أولئك الذي عاملوه بهذه الوحشية؟ يبدو أنهم هم الذين أصدروا الحكم عليه "وقالوا أنه مستوجب. حينئذ بصقوا في وجهه". بدأ الكهنة، ولا عجب إن كان الخدام قد اقتدوا بهم إرضاءً لسادتهم الأشرار. انظر كيف أهانوه!!" (237).
أما الجنود الرومان الذين لا يطيقون اليهود، فعندما علموا أن الذي بين أيديهم هو ملك اليهود، انتقموا منه فجلدوه، وكللوه بإكليل الشوك، وضربوه بالقصبة على رأسه، وقد جرت العادة في بلاد المشرق أن يسخروا من المحكوم عليه بالإعدام ليصير عبرة للآخرين، وكم وكم كان حقدهم على من إدعى أنه ملك اليهود، فهو بالضرورة يُريد أن ينتقم من الرومان ويطردهم شر طردة. وفيما كان يجوز السيد المسيح هذه العذابات كانت تتحقق النبوات: "بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ" (إش 50: 6).. " يَضْرِبُونَ قَاضِيَ إِسْرَائِيلَ بِقَضِيبٍ عَلَى خَدِّهِ" (مي 5: 1). لقد قُبِل أن يُربَط ويُقيَد لكيما يفك عنا رباطات الخطية والموت والهاوية، وقَبِل أن يُكلَّل بالشوك ليرفع لعنة الأرض التي بسبب خطيتنا تنبت شوكًا وحسكًا... ويقول "القديس كيرلس الكبير" إن السيد المسيح قَبِل هذه الآلامات: "أولًا: لكي يعتقنا من جرحنا المستحق، فلقد قبل الإستهزاء والضرب لكي نستهزئ نحن بالشيطان الذي أزلنا، ولكي نهرب من الخطية التي لصقت بنا من جراء المخالفة الأولى. سوف نعتبر أن فكرنا على صواب إذا قلنا أن كل آلام المسيح صارت بسببنا ولأجلنا ولها من القوة أن تحل كل ما حدث لنا باستحقاق. وثانيًا: لكي يعطينا المثال في طول الأناة، فسيد الأرض والسماء، خالق الكل وصانعهم، ملك الملوك ورب الأرباب، أُهين كواحد مثلنا، وهو بصبر يحتمل الضربات ويخضع لسخرية الأشرار، ويعطينا نفسه مثلًا كاملًا لطول الأناة" (238).
لقد فشل الشيطان أن يُسقط السيد المسيح في أية خطية سواء بالفعل أو بالقول أو بالفكر، وعجز عن تحديد هويته تمامًا -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- لأن السيد المسيح حجب لاهوته في الناسوت، فحمل له حقدًا دفينًا، ولا سيما أن السيد المسيح كان صاحب سلطان، فكان ينتهره، ويقول له أخرس، ويطرده، ولذلك دارت هذه المعركة الشرسة التي تفوق الحروب العالمية بين إبليس ومملكة الظلمة وبين السيد المسيح الذي جاء ليخلص الإنسان من براثن الشيطان، في كل زمان ومكان ما دام الإنسان يؤمن به. وفي هذه المعركة تعرَّض السيد المسيح للأذى النفسي والبدني وجُرِح لأنه كان لا بد للحية أن تنهش وتسحق عقبه. وليس من العدل ولا المنطق أن نركز على عذابات المسيح، وكأنها هيَ كل شيء... أنها مشهد قاسي وسط مشاهد عديدة تحكي قصة خلاصنا، فقبل هذه الساعة استخدم السيد المسيح سلطانه على الأرواح النجسة، وبعد أن يُعلّق على الصليب سيسحق رأس الحية القديمة... لقد أعدَّ الشيطان الصليب ليُعلّق عليه يسوع المسيح، وإذ بالسيد المسيح يسحق رأس الحية بالصليب: "إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا ظَافِرًا بِهِمْ فِيه" (كو 2: 15) فقد كان الصليب الذي أعده هامان لمردخاي فعُلِق هو عليه، رمزًا ومثالًا لما حدث بالنسبة لصليب المسيح.
لقد اعتاد إبليس أن يبتلع جميع أنفس البشر في جوفه، وظن أن يسوع هو مجرد واحد من البشر، ففي لحظة موته على الصليب، وقد سمعه يقول: "يا أبتاه في يديك أستودع روحي"، قال إبليس هذه روح بشرية ملكي قد اشتريتها بمكري وخداعي وذكائي وحيلتي، وهجم على السيد المسيح ليقتنص روحه، وإذ به يُصدم بأن المسيح يُعلن عن لاهوته، ويضبطه متلبسًا بالتعدي على العزة الإلهية، فيقتنصه ويُقيّده ويقتحم مملكته ويُطلّق جميع أسرى الرجاء " الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ" (1 بط 3: 19).. إذًا لمن هيَ النصرة؟ أنها لذاك الذي تحمل من الأشرار كل هذه الآلامات، ذاك التي شهدت له الطبيعة بقوات عجيبة وقت موته.
4- من الذي تحمل هذه الآلامات الناسوت أم اللاهوت؟... الذي تحمل هذه الآلام الناسوت المتحد باللاهوت، مع إدراكنا التام أن اللاهوت منزَّه عن الألم، وأمام أعيننا تشبيه البابا كيرلس الكبير بالحديد المحمي بالنار، فهذا الحديد يحمل طبيعتين طبيعة الحديد وطبيعة النار، فمن يقترب من هذا الحديد إلاَّ ويكتوي بناره، وعندما يطرق الحداد على الحديد فإن الذي يتأثر ويتشكل هو الحديد وليس النار، فالحديد المحمي بالنار رمز لاتحاد الناسوت باللاهوت. ويقول "القديس أغناطيوس الأنطاكي": "نحن نؤمن أن اللَّه تألم بالجسد كالإنسان، وهو غير متألم كالإله، وذاق الموت بالجسد وهو غير مائت كالإله. فإذا سمعت أن اللَّه تألم عنا وأن المسيح اللَّه الكلمة مات لأجلنا، فافهم أننا نؤصّل الطبائع إلى وحدانية اللاهوت والناسوت، ونسميها بهذا الاسم الواحد اللائق باللَّه، كما أنك أنت أيضًا من طبيعتين هما نفس وجسد، وتُسمى بهذا الاسم الواحد اللائق بالإنسان، ونفسك غير مائتة بالطبع" (239).
ويقول "البابا أثناسيوس الرسولي": "أنا أعرفه أنه إله بالحقيقة من السماء غير متألم، وأنا أعرفه أنه من زرع داود بالجسد الناسوتي من الأرض المتألم، ولا أسأل بأي مثال هو متألم وغير متألم، هذا هو الواحد فقط مع اللَّه وهو إنسان" (240).
ويقول "البابا كيرلس الكبير": "كيف يصبح الواحد نفسه غير متألم ومتألم في نفس الوقت؟ عندما يتألم في جسده لم يؤثر الألم في ألوهيته. هذا التدبير فائق ولا يستطيع عقل أن يسبر عمقه ومجده... نؤمن أنه تألم في جسده دون أن يتألم في لاهوته... فقطعة من الحديد أو أي معدن آخر إذا اتصلت بنار مشتعلة تتحد بالنار، وإذا طُرِقت يترك الطرق آثارًا على المعدن، أما طبيعة النار فهيَ تظل بعيدة عن التأثر. وهكذا نعتقد بأن الابن تألم بالجسد دون أن يتألم بلاهوته"(241).
كما يقول "القديس كيرلس الكبير" أيضًا: "إنه بسبب اتحاده بالجسد تألم بكل الإهانات، لكنه احتفظ بما له من عدم الألم، لأنه ليس إنسانًا فقط بل هو نفسه اللَّه. وكما أن الجسد هو جسده هكذا آلام الجسد ورغباته غير الدنسة وكل الإهانات التي وجهها البعض. كل هذا احتمله هو لأنه كان موجهًا ضد جسده الخاص به. وقد تألم دون أن يتألم" (242).
(راجع كتابنا: أسئلة حول الصليب ط (3) سنة 2015م س23: ما هو فكر الآباء في موت المسيح ص183 - 187).
_____
(236) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص37.
(237) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص458.
(238) أورده القس صموئيل وهبه - صلاة المسيح في البستان والقبض عليه ومحاكمته ص154.
(239) اعترافات الآباء - طبعة دير المحرق ص24، 25.
(240) المرجع السابق ص49.
(241) أورده القمص عبد المسيح بسيط - إن كان المسيح إلهًا فكيف تألم ومات ص35، 36.
(242) شرح تجسد الابن الوحيد ص66.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/434.html
تقصير الرابط:
tak.la/69myt2r