س433: كيف يصمت يسوع أثناء محاكمته ولا يبرئ نفسه من التهم الباطلة التي أُلصقت به (مت 26: 63)؟ وكيف يوافق يسوع رئيس الكهنة على القسَّم (مت 26: 63، 64) مع أنه قال: "لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ " (مت 5: 34)؟ وهل إجابة يسوع " أَنْتَ قُلْتَ " على سؤال رئيس الكهنة: "أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ أَنْتَ قُلْتَ" (مت 26: 63، 64) دليل على أنه لم يكن هو المسيح بل شبيهه؟ ولماذا لم يتحقَّق قول يسوع عن جلوسه عن يمين القوة ومجيئه على سحاب السماء (مت 26: 64) لا قبل ولا بعد موته، وحتى الآن، بل أنه لم يظهر لليهود بعد قيامته؟ وهل ما دام المسيح سيجلس عن يمين اللَّه إذًا من المستحيل أن يكون هو اللَّه، أو أنه هو واللَّه شخص واحد؟ ومن يستطيع أن يرى يسوع على يمين اللَّه، و" اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ" (يو 1: 18)؟
ج: 1- كيف يصمت يسوع أثناء محاكمته ولا يُبرئ نفسه من التهم الباطلة التي أُلصقت به؟... هناك أسباب عديدة دعت يسوع للصمت في هذه المحاكمات الجائرة التي عبَّر بها، فمثلًا:
أ - صمت يسوع لأنه لمثل هذه الساعة قد جاء، ليُذبح كحمل ويفدي البشرية، فهو يسير نحو الموت بخطى ثابتة واثقًا أنه سيدحر الموت وينتزع الإنسان من بين أنيابه.
ب - صمت يسوع لأنه يعلم أنهم يضمرون له الشر، كل الشر، فأصدروا قرار موته قبل محاكمته، وهذا ما عبّر عنه قيافا قائلًا: "أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا" (يو 11: 50) ولهذا قال لهم السيد المسيح: "إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ. وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي" (لو 22: 68).
جـ - كثيرًا ما يكون الصمت أقوى وأبلغ من الكلام، فصمت يسوع فضح المحاكمات الملفَّقة وشهود الزور، فصار محكومًا عليهم من ضمائرهم.
د - لم يأتِ السيد المسيح ليدافع عن براءته لأنه لو دافع عن نفسه ما كانوا يستطيعون أن يحكموا عليه بالموت، ولتعطلت قضية الفداء.
وقف أحد أعضاء المجلس يعرض التهم التي من أجلها يُحاكم يسوع الناصري، وأهمها قوله أنه المسيا، وأنه ابن اللَّه، وتقدم شهود الزور يشهدون كذبًا وإفتراءً، ونادى قيافا بصوت جهوري: لك أن تدافع عن نفسك يا يسوع...
والتزم يسوع جانب الصمت ولم يجب بشيء...
وتكرر النداء القيافي ثانية، وما زال يسوع صامتًا...
سألوه كثيرًا فلم يجب ولا بإيماءة بسيطة، وكأن هذه الأسئلة لا تخصه... فلماذا صمتَّ يا يسوع ؟!!
هل صمتك هذا كان احتجاجًا على ظلمهم؟!.. ربما.
هل صمتَّ لأنك وجدت الجور في مكان العدل، والظلم في مجلس الحكم؟!.. ربما.
هل صمتك يعني موافقتك على كل الاتهامات الموجهة إليك لأنك حمل اللَّه الذي يحمل خطية العالم كله؟!.. ربما.
هل صمتَّ لأنك لو تكلمت فأنك ستُبكم الكل، فيطلقونك وتتعطل قصة الخلاص؟!.. ربما.
هل صمتَّ حزنًا على كل إنسان مظلوم يقف أمام محكمة جائرة لا يعرف أن يحير أو يدير؟!.. ربما.
ويقول "متى هنري": "وأما يسوع فكان ساكتًا... لا كشخص كئيب، ولا كشخص يشعر بأنه مُدان، ولا كشخص منذهل وفي حيرة، ولا لأنه لم يجد إجابة شافية يقدمها، ولا لأنه لم يعرف كيف يقدمها، بل لكي تتم الكتب " كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ " (إش 53: 7)، ولأنه هو ابن داود الذي لما تكلم عليه أعداؤه بالمفاسد كان "كأصم لا يسمع وكأبكم لم يفتح فاه " (مز 38: 12 - 14).
لقد صمت لأن ساعته جاءت. لم يشأ أن ينكر التهمة لأنه أراد أن يخضع للحكم، وإلاَّ لكان قد استطاع أن يسكتهم ويخجلهم الآن كما فعل مرات كثيرة من قبل. أن دخل اللَّه في المحاكمة معنا لصمتنا (مت 22: 12) ولما استطعنا أن نجيب عن واحد من ألف (أي 9: 3) ولذلك فعندما صار المسيح خطية لأجلنا صمت وجعل دمه يتكلم (عب 12: 24). لقد وقف صامتًا أمام هذه المحاكمة لكي نجد نحن شيئًا نقوله أمام محاكمة اللَّه" (231).
ويقول "الكاتب محمد عطا": "وقد استمع (يسوع) إلى هذه الأقوال ولم يُعقب عليها لأنه أدرك أنه لا فائدة من التعقيب. فطريقة القبض عليه ومحاكمته في دار أعدى أعدائه في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل والتزييف الذي لمسه من أقوال الشهود، والمرارة التي أحس بها في لهجة الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة ومحلفين، وفي تصرفاتهم والشرر الذي يتطاير من أعينهم، كل أولئك دفعه إلى الصمت" (232).
2- كيف يوافق يسوع رئيس الكهنة على القسَّم (مت 26: 63، 64) مع أنه قال: "لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ" (مت 5: 34)..؟ بعد أن ظهر كذب شهود الزور وعجزهم عن إلصاق أي تهمة بذاك الذي بلا خطية وحده، وقد لمعت براءته أمام السنهدريم تفتَّق ذهن قيافا عن تمثيلية هزلية تنتهي باعتراف المتهم بما يدينه ويجر عليه حكم الموت، إذ هو إدعى الألوهة، وتجاهل قيافا أنه كان يقف موقف القاضي، وأن القواعد القانونية تُحرّم على أعضاء المحكمة سؤال المتهم بقصد إثبات التهمة عليه، فالمشتكي هو الذي من حقه توجيه الاتهامات للمتهم، ومجلس القضاء عليه أن يستمع لهذه الاتهامات وأقوال الشهود ويزنها بميزان العقل والحق، ثم يصدر حكمه العادل، وخالف قيافا كل هذا، وسأل يسوع سؤالًا صدَّره بالقسم: "أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ"، وكانت هذه هيَ الكيفية التي يستحلفون بها الشهود للحصول على شهادات صادقة، والإجابة لا تخرج عن نطاق الإيجاب (نعم) أو السلب (لا).. ولو أن يسوع صمت ولم يجب فإن هذا يُعد إحتقارًا لاسم يهوه، وجاء في كتاب التلمود: "إذا قال قائل: أستحلفك باللَّه القادر على كل شيء، أو بالصباؤوت أو بالعظيم الرحيم، الطويل الأناة، الكثير الرحمة، أو بأي لقب من الألقاب الإلهية، فأنه كان لزامًا على المسئول أن يجيب"(233). ولذلك أجاب يسوع بكل وقار وجلال إكرامًا لاسم يهوه. وعندما قال السيد المسيح في العظة على الجبل " لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ" (مت 5: 34)، فإن هذا كما درسنا من قبل لا يمنع الشهود من أداء القسَّم في المحكمة (راجع مدارس النقد - عهد جديد - جـ3 س268).
3- هل إجابة يسوع " أَنْتَ قُلْتَ" على سؤال رئيس الكهنة: "أَسْتَحْلِفُكَ باللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ أَنْتَ قُلْتَ" (مت 26: 63، 64) دليل على أنه لم يكن هو المسيح بل شبيهه..؟ عندما أجاب يسوع رئيس الكهنة قائلًا " أَنْتَ قُلْتَ" لا يجب أن نأخذ هذه الإجابة بمفهوم هذه الأيام، ولكن نأخذها بمفهوم الزمن الذي قيلت فيه، فهذه العبارة بعيدة جدًا عن التملُّص والمراوغة والتهرُّب، ففي تلك الأيام كانت تعتبر أسلوب أدبي راقي، يحمل التأكيد، فهيَ تعني: "الأمر كذلك حسب قولك تمامًا" أو " كما قلت أنت. هكذا هيَ الحقيقة" أو بلغة السيد المسيح " أنا هو ابن اللَّه" وفي إنجيل مرقس جاءت إجابة السيد المسيح "إغو إيمي" Ego eimi: "فَقَالَ يَسُوعُ أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ.." (مر 14: 62). وقد استخدم السيد المسيح هذه العبارة في أكثر من مناسبة، فمنذ ساعات قليلة: "فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَالَ هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ قَالَ لَهُ أَنْتَ قُلْتَ" (مت 26: 25) أي نعم أنت الذي ستسلمني، هذه هيَ الحقيقة المُرة، وبعد ساعات قليلة: "قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ أَفَأَنْتَ إِذًا مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ" (يو 18: 37)، وهذا دليل واضح على أن الذي أكل الفصح مع تلاميذه في العلية، هو الذي يُحاكم الآن أمام القيادات الدينية، هو الذي سيُحاكم أمام بيلاطس، هو الذي صُلب وقُبر وقام، لم يتغيَّر ولم يتبدَّل، هو هو المسيح وليس شبيهه، لأنه ليس له شبيه قط ولا نظير (راجع س430). وأدرك رئيس الكهنة المغزى والمعنى فشق ثيابه، فكيف يمكن لإنسان أن يدعي الألوهية؟!!. وأكد السيد المسيح ذات المعنى بقول: "وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ" (مت 26: 64)، وهذا رد قطعي منه حتى لا يترك أقل شيء للشك والريبة.
4- لماذا لم يتحقَّق قول يسوع عن جلوسه عن يمين القوة ومجيئه على سحاب السماء (مت 26: 64) لا قبل ولا بعد موته، وحتى الآن، بل أنه لم يظهر لليهود بعد قيامته..؟
أ - بهذه العبارة أراد السيد المسيح أن يضع من يحاكمونه أمام كرسي الدينونة في اليوم الأخير، وأن يذكرهم بنبوة دانيال النبي عنه -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وأنها دخلت في حيز التنفيذ: "كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (دا 7: 13، 14). ليدرك هؤلاء أن الذي يتجنُّون عليه ويحاكمونه ظلمًا، هو هو الذي سيدين المسكونة. لن يبصرونه فيما بعد في صورة الإخلاء هذه، وهو يعيش معيشتهم ويأكل ويشرب معهم، ويحضر مناسباتهم، ويجول بينهم يصنع خيرًا، بل سيرونه وهو يدين المسكونة بالعدل... فكيف سيقفون أمام هذا البار الذي ظلموه وحكموا عليه بالموت ظلمًا؟!!.. هم يسألونه سؤالًا واحدًا عما إذا كان هو المسيح ابن اللَّه الحي؟ فلم يكتفي بإجابة هذا السؤال، بل أضاف تأكيده أنه هو الذي سيدينهم في اليوم الأخير.
ب - ما نطق به السيد المسيح أمام رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب لم يكن أمرًا جديدًا، بل هو ذكره قبل هذا، فعندما إلتقى بنثنائيل: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً وَمَلاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَان" (يو 1: 51) وعندما تحدث عن آلامه عقب اعتراف بطرس بألوهيته قال: "فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِه" (مت 16: 27).. وعند حديثه عن مجيئه الثاني قال: "وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ" (مت 24: 30). ويقول "الأب متى المسكين": "وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَان. قوله من الآن تعني بعد الصلب والموت مباشرة، " فالآن " هو آخر لحظات ضعف ابن الإنسان، ولكن الآن أيضًا يبدأ المجد الصاعد، وقد رآه ق. استفانوس فعلًا جالسًا عن يمين العظمة في السموات... وهنا يستطرد المسيح بقوة ورأس مرفوعة حينما يذكر مجده العتيد أن يكون حتمًا بعد أن تنقضي محنة اتضاعه وحمله خطايا الإنسان، أنه سيمضي ليجلس عن يمين القوة والعظمة في السموات، ويأتي على السحاب بقوة ومجد كثير، لقد ألزموه بجهلهم أن يشهد لحقيقة نفسه"(234).
جـ - يتحدث السيد المسيح في هذه العبارة عن أمور مستقبلية وليس لدى اللَّه ماضي وحاضر ومستقبل، ولأنها ستحدث لذلك يذكرها بأسلوب الحاضر، مثلما وردت بعض النبؤات، وهيَ تتحدث عن أمور مستقبلية بصيغة الماضي: "يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي" (مز 22: 15) فبعد قيامته أبصره أخصائه وهو صاعد إلى السموات، كما رأوه بعيون قلوبهم جالسًا عن يمين الآب، هكذا رآه أستفانوس في لحظات استشهاده: "فَقَالَ هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللَّهِ" (أع 7: 56).
د - قال بولس الرسول عن السيد المسيح: "الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 1: 20).. " الَّذِي وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عب 1: 3) (راجع أيضًا عب 8: 1، 10: 12، 12: 1).. " لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللَّهِ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ" (1 تس 4: 16). وقال بطرس الرسول عن السيد المسيح: "الَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ اللَّهِ إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى السَّماءِ وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ" (1 بط 3: 22).
هـ - جاء في "كتاب الهداية": "لما استفهم رئيس الكهنة من المسيح عما إذا كان هو المسيح أجابه بالإيجاب وأوضح له أنه هو المُراد بنبوات دانيال، وقد كان الجميع يعرفون أن نبؤات دانيال تشير إلى مجيء المسيح في ملكوته والمسيح ذاته أطلق عبارات هذه النبوة على ذاته قبل التجلي (مت 16: 28) وثانيًا أنه أطلق هذه النبؤة على نفسه لما تنبأ عن خراب أورشليم فقال أن ابن الإنسان يأتي على سحاب السماء بقوة ومجد كثير (مت 24: 30). وفي هذا المحل لما كان اليهود يناظرونه أجابهم بأنهم سيبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء كأنه يقول مع إني في أيديكم محتقر ومرذول ومُهان وأنتم تنظرون إليَّ كأني غير صادق لأني أدعيت بأني المسيا... كنتم متوقعين بغاية التولع مجيء المسيا بحيث يكون ملكًا أرضيًا يرفعكم من حضيض الذل إلى درجة رفيعة ويجعل لكم شأنًا رفيعًا بين أمم الأرض ويوردكم موارد العز والغنى والقوة... ولكن خيب اللَّه أملكم وأحبط عملكم لأني أنا الذي قلت بأني المسيا، ومع أني الآن مأسور بين أيديكم وموضوع إزدرائكم وتهكمكم... أنكم لا ترون فيَّ صفات المسيا الذي علقتم أمالكم عليه وتوقعتموه حتى قصدتم أن تصلبوني كأني كاذب إلاَّ أنه سيتضح لكم أنكم كنتم في ضلال بيَّن وتبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء... أن المسيح آتي وقد رآه اليهود بخراب أورشليم وتبديد أمتهم ورأوا قوته بحلول العقاب بهم لتماديهم على عنادهم" (235).
و - لم يظهر السيد المسيح لليهود الجاحدين بعد قيامته لأنه يعلم أنه حتى لو ظهر لهم فلن يُغيّروا موقفهم، فرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة والفريسيون شاهدوا الأعرج من بطن أمه يقوم بقوة الرب يسوع، وعاينوا عشرات الآيات التي أجراها اللَّه على يدي بطرس وبولس الرسولين، فماذا كان رد فعلهم..؟ أنهم ازدادوا اضطهادًا للمؤمنين، فرجموا اسطفانوس وقتلوا يعقوب أخي الرب بالسيف، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن السيد المسيح ظهر للكثيرين وجميعهم من اليهود ابتداء من تلاميذه وإنتهاءً بالمؤمنين الذي وصل عددهم للمئات، ولكن الذين ظهر لهم من اليهود من الذي آمنوا به.
5- هل ما دام المسيح سيجلس عن يمين اللَّه إذًا من المستحيل أن يكون هو اللَّه، أو أنه هو واللَّه شخص واحد..؟ نحن نؤمن بوحدانية اللَّه الجامعة، ففيها نرى الأبوة والبنوة والانبثاق، الآب والابن والروح القدس، مثلما نرى في الإنسان الواحد الروح والجسد والعقل، أو الروح والجسد والنفس، ومثلما نرى في الشمس الواحدة قرص الشمس والشعاع المولود من القرص والحرارة المنبثقة من القرص. وإن كانت وحدانية اللَّه هيَ الدرس الأول الذي علَّمه اللَّه للبشرية من آدم إلى مجيء السيد المسيح، فإن السيد المسيح في تجسده رأينا فيه حكمة اللَّه المتجسّد اللوغوس، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، أزلي بأزلية الآب، والكائن معه في الجوهر الإلهي، والمساوي له في جميع الكرامات والصفات الإلهية، وسمعناه يحدثنا عن الآب السماوي، ويتحدث معه، وعرفنا أنه يحبنا وقد بذل ابنه الوحيد الجنس يسوع المسيح فدية عنا، كما حدثنا عن الروح القدس الكائن معه والذي سيمكث معنا يرشدنا ويعزينا، وعندما اعتمد ابن اللَّه من يوحنا المعمدان سمعنا صوت الآب: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" ونظرنا الروح القدس على شكل حمامة حالًا عليه، فتعلمنا الدرس الثاني، أن في اللَّه الواحد ثلاثة أقانيم متساوية، والأقنوم هو ما يتميز عن غيره بدون انفصال، مثل الروح والجسد في الإنسان الواحد، والأقنوم هو كائن، حي، قدير، مستقل بدون انفصال، ينسب أفعاله لنفسه، فهو شخص غير منفصل، لذلك قول الناقد أن المسيح واللَّه شخص واحد قول جانبه الصواب لأن كل منهما شخص أي أقنوم بدون انفصال، فلهما طبيعة إلهية واحدة، جوهر إلهي واحد، كيان إلهي واحد، وكلمات طبيعة وجوهر وكيان مسميات لذات اللاهوت الواحد الغير محدود والمالئ الكل. في الإنجيل سمعنا السيد المسيح يخاطب الآب والآب يجيبه: "أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا" (يو 12: 28) لذلك لا نتعجب من قول السيد المسيح أن " ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّة" (مت 26: 64) وهو ما أخبر به داود النبي قديمًا وإحتار اليهود في تفسيره: "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" (مز 110: 1). وموضوع التثليث والتوحيد موضوع شيق يطول الحديث فيه، لذلك أحيلك يا صديقي إلى كتابنا: أسئلة حول حتمية التثليث والتوحيد.
6- من يستطيع أن يرى يسوع على يمين اللَّه، و" اللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ"..؟ اللَّه في جوهره لم يره أحد قط، ولا يستطيع إنسان أن يراه ويعيش كقوله لموسى: "الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خر 33: 20)، وهو " إِلهٌ مُحْتَجِبٌ" (إش 45: 15)، ولكن اللَّه أحيانًا يُظهِر قليلًا من مجده فيستطيع الإنسان أن يراه، مثلما كان يتكلم مع موسى بوضوح، فكان موسى يسأل الرب والرب يجيبه، وقال اللَّه عن موسى: "فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ" (عد 12: 8) وقد رآه يوحنا الرائي: "وَوَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَهِيَ تُضِيءُ فِي قُوَّتِهَا. فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّت" (رؤ 1: 16، 17). وقد سبق الحديث عن هذا الأمر فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد قديم جـ6 س710.
_____
(231) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ2 ص454.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/433.html
تقصير الرابط:
tak.la/3jm24k9