س268: كيف يغيّر الله أحكامه، تارة يقول: "الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي... وَبِاسْمِهِ تَحْلِفُ" (تث 10: 20) وكأن الحلف هنا نوع من التقوى، وتارة يقول: "لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ" (مت 5: 34)؟ وإن كان الله قد نهى عن القسم، فكيف سبق وأقسم بذاته (تك 22: 15، مز 110: 4)؟ وهل عندما يحلف المسيحي أمام المحاكم يخالف الوصية؟
(راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ 1 س155 ص107، والدكتورة سارة بنت حامد - التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة ص208، 209).
ج: 1ــ لقد تدرج اللَّه بالبشرية خطوة خطوة، ففي البداية عاش الإنسان في عصر الضمير قبل أن تكون هناك شريعة إلهيَّة مكتوبة، فكان ضمير الإنسان يحكم عليه، ولأن ضمير الإنسان كثيرًا ما يُصاب بالفساد لذلك كان من الممكن أن يرتكب الإنسان أفعال شائنة وخطايا جسيمة وينام هادئ البال مطمئن الفؤاد. ثم جاءت شريعة العهد القديم فكانت خطوة في طريق الكمال، واكتملت بالعهد الجديد. ولأن شعب اللَّه قديمًا كان محاطًا بالشعوب الوثنية الذين يحلفون بآلهتهم الوثنية، لذلك خشى اللَّه على شعبه أن يحلفوا بآلهة الأمم، فسمح لهم بالحلف بِاسمه القدوس، وكان هذا يعتبر نوع من التقوى، وشهادة للإله الحقيقي، وتعظيم لاسمه، وإظهار ثقة الإنسان اليهودي في إلهه، ولذلك قال اللَّه: "الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي. إِيَّاهُ تَعْبُدُ وَبِهِ تَلْتَصِقُ وَبِاسْمِهِ تَحْلِفُ" (تث 10: 20) وأوصى اللَّه شعبه أن يكون شعبًا صادقًا لا يحنث بالقسم، فقال: "لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلًا لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا" (خر 20: 7).. " وَلاَ تَحْلِفُوا بِاسْمِي لِلْكَذِبِ فَتُدَنِّسَ اسْمَ إِلهِـكَ. أَنَا الرَّبُّ" (لا 19: 12)، واعتاد اليهود الأتقياء حياة الصدق، حتى أنهم قالوا: "إن العالم يثبت على ثلاثة أمور. العدل والصدق والسلام "، كما قالوا: "من يعطي كلمة ثم يغيّرها هو شرير كعابد الوثن" (راجع وليم باركلي - تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص98).
ولكيما يلتف معلموا اليهود حول القسم ولا يلتزمون به كانوا يحلفون بأمور أخرى غير اللَّه مثل السماء أو الأرض أو أورشليم أو حياتهم أو رؤوسهم، زعمًا منهم أن هذا يُبرّر عدم إلتزامهم بالقسم، وقالوا أن الحلف بِاسم اللَّه يجب الوفاء به، أما الحلف الذي يخلو من اسم اللَّه فهو غير ملزم، وكأنهم قسموا الحياة إلى قسمين، أحدهما يخص اللَّه، والآخر لا يخص اللَّه، ويقول "القديس أغسطينوس": "لكننا قد نسأل: لماذا أضاف رب المجد إلى قوله: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّة "، " لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ... " إلى قوله " وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ "؟ أظن أن السبب في هذه الإضافة هو أن اليهود كانوا يعتبرون أن من يقسم بهذه الأمور لا يكون قد إرتبط بقسم أمام اللَّه. رغم ما جاء في الشريعة " أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ ". فإن أقسموا بالسماء أو الأرض أو أورشليم أو رؤوسهم ظنوا أنهم لا يرتبطون بقسم أمام اللَّه. هذا الخطأ لم ينتج عن الوصية بل عن عدم فهمهم لها فهمًا صحيحًا. لذلك أخبرهم رب المجد أنه لا يوجد بين مخلوقات اللَّه ما هو ليس بذي قيمة، حتى يظن أحد أنه يمكنه القسم بها باطلًا. فخليقة اللَّه من أعلى السماء إلى أسفل الأرض، من عرش اللَّه إلى الشعرة البيضاء أو السوداء... جميعها تحكمها العناية الإلهيَّة" (621).
كما يقول "القديس أغسطينوس" أيضًا: "أي شيء يعتبره الإنسان مِلكًا له أكثر من رأسه؟! ولكن كيف تكون مِلكًا لنا، مادام ليس لنا سلطان لجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء؟! لذلك فمن يقسم برأسه يرتبط بالقسم أمام اللَّه، الذي له السلطان في كل شيء بطريقة غير منطوق بها" (622).
لقد جاء رد السيد المسيح على هؤلاء قائلًا: "لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ. لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ. وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ. وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ نَعَمْ نَعَمْ لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ" (مت 5: 34 - 37)، فعندما نوافق على أمر ما نقول "نعم"، وعند التأكيد نقول "نعم نعم"، وهكذا عند الرفض نقول "لا" وعند تأكيد الرفض نقول "لا لا"، وحذرنا معلمنا يعقوب من الحلف حتى لا نُدان: "لاَ تَحْلِفُوا لاَ بِالسَّمَاءِ وَلاَ بِالأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَـرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَة" (يع 5: 12)، وقال القديس أكليمنضس السكندري على المسيحي أن يحيا حياة تجعل الناس يثقون في كلامه، فلا يطلبون منه قسمًا ولا حلفًا.
2ــ قال الرب لإبراهيم: "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ" (تك 22: 15)، وقال داود النبي: "أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَـى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ" (مز 110: 4) واللَّه له الحق في القسم لأنه هو مالك كل شيء، أما الإنسان فليس له الحق في القسم بما لا يملك، ويقول "مارديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي": "إن المراد من هذا القول هو أن ابن اللَّه قد صدق في قوله. ولكي نزداد اعتقادًا بذلك عبَّر عنه بالقسم" (623).
وإن كان اللَّه في الكتاب المقدَّس قد أقسم بذاته، فإن اللَّه في القرآن أقسم بأشياء أخرى مثل قوله: "وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ" (الطور 52: 1، 2).. " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى" (النجم 53: 1).. " وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" (القلم 68: 1).. " وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا. فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا" (المرسلات 77: 1، 2).. " وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ" (التكوير 81: 17، 18).. " وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود" (البروج 85: 1، 2).. " وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ" (الفجر 89: 1، 2).. " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا" (الشمس 91: 1، 2).. " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ" (التين 95: 1 - 3)، والواو أمام كل اسم هيَ "واو القسم" (راجع تفسير الطبري لهذه النصوص).
3ــ عندما منع اللَّه القسم، فذلك لأجل تقديس وتعظيم اسم اللَّه، وعدم النطق بهذا الاسم المبارك فيما يستحق وفيما لا يستحق، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. مثل أمور البيع والشراء والمسامرة، ولكن حينما يكون الإنسان ملزمًا بأداء اليمين أمام المحكمة فلا مانع من هذا، ولا تعتبر هذه مخالفة للوصية، لأنه من الواجب أن يدلي بشهادته التي قد تنقذ إنسانًا بريئًا من حبل المشنقة. ويرى القديس أغسطينوس: "إن القسم أمام المحاكم لا يحسب خطية، ولا يعتبر طاعة للناس من دون اللَّه طالما أنه صيغة وضعت لضمان سير العدل أمام السلطة المختصة"(624). فالقسم أمام المحكمة لا يعد مخالفة لوصية " لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ"، وبعض المسيحيين يقولون أمام المحكمة: "أشهد أمام اللَّه العلي العظيم أن أقول الصدق" أو "أتعهد أمام اللَّه العلي العظيم بأن أقول الصدق"، وكثيرون من القضاة المطلعين على قواعد الإيمان المسيحي يتفهمون هذا، ويقبلون هذه الشهادة.
_____
(621) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ص115.
(622) المرجع السابق ص116.
(623) الدر الفريد في تفسير العهد الجديد جـ 1 ص187.
(624) أورده القس يوسف البرموسي - تساؤلات حول إنجيل متى ص47.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/268.html
تقصير الرابط:
tak.la/a6w863k