س412: ماذا قصد القديس متى بقوله: "وَلَما أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ " (مت 26: 1)؟ وفي أي يوم قال السيد المسيح: "بَعْدَ يَوْمَينِ يَكُونُ الْفِصْحُ " (مت 26: 2)؟ وهل عيد الفصح يوم 14 من شهر أبيب أم 14 من شهر نيسان؟ وإن كان رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب قد انتهوا في اجتماعهم بدار قيافا إلى تأجيل قتل المسيح: "قَالُوا لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ " (مت 26: 5) فلماذا غيَّروا رأيهم وصلبوه يوم الفصح؟ وما دام هم واثقون في إمكانية القبض عليه فلماذا احتاجوا لمساعدة يهوذا؟ وكيف كذب توقعهم، إذ عندما صُلب المسيح في الفصح لم يحدث شغب في الشعب بل هتفوا ضده؟ وهل حادثة سكب الطيب حدثت قبل الفصح بيومين (مت 26: 2)، أم أنها كانت قبل الفصح بستة أيام (يو 12: 1)، وهل حدثت هذه الحادثة في بيت سمعان الأبرص (مت 26: 6) أم في بيت لعازر لأن مرثا كانت تخدم هناك (يو 12: 2)؟
ج: 1- ماذا قصد القديس متى بقوله: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ" ..؟ قال البعض أن إنجيل متى يتكون من خمس عظات تنتهي بالأصحاح الخامس والعشرين، وخاتمة عن الآلام والقيامة، ولكن التعبير الأدق أن إنجيل متى يتحدث أساسًا عن قصة الآلام والقيامة (ص26 - 28) يسبقها مقدمة طويلة عن تعاليم السيد المسيح متمثلة في العظات الخمس، وقد ختم القديس متى العظة الخامسة والأخيرة عن خراب أورشليم ونهاية الأيام، مثل ختامه للعظات السابقة بقوله: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ" (مت 26: 1)، وهنا يُنهي السيد المسيح دوره التعليمي كمعلم ونبي ويبدأ دوره ككاهن أعظم مزمع أن يقدم ذاته ذبيحة حية عن خطايا العالم، ففي الأصحاحين 26 ، 27 يحكي لنا القديس متى ببساطة مؤثرة وبكل خشوع ووقار قصة آلام السيد المسيح، موضحًا أن يسوع هو العبد المتألم، فليس هو الإنسان السيئ الحظ الذي ساقته الأقدار إلى مصيره التعس، إنما هو حمل الذبيحة الذي يوقد على مذبح الصليب، فهو الذبيحة وهو الكاهن في نفس الوقت.
2- في أي يوم قال السيد المسيح: "بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ"..؟ قال السيد المسيح: "تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ، وَابنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ" (مت 26: 2)، وحيث أن الصلب تم يوم الجمعة الذي بدأ بعد غروب شمس الخميس ، فقبل الجمعة بيومين أي يوم الأربعاء الذي يبدأ بعد غروب شمس الثلاثاء، وإذا تتبعنا أحداث الأيام الأخيرة للسيد المسيح على الأرض، نجد الآتي:
1) الأحد: دخل يسوع إلى أورشليم وإرتجت المدينة، وفي المساء ذهب إلى بيت عنيا.
2) الإثنين: وفيه جرت حادثة شجرة التين التي يبست، وتطهير الهيكل والتعليم والشفاء، ثم العودة إلى بيت عنيا مساءًا.
3) الثلاثاء: ذهب يسوع إلى الهيكل مع تلاميذه صباحًا، وفي الطريق لاحظ التلاميذ أن شجرة التين يبست من أصولها -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وفي الهيكل سأله الفريسيون ورؤساء الكهنة بأي سلطان تفعل هذا وتطرد الباعة من الهيكل؟ وأجابهم بسؤال معمودية يوحنا كانت من السماء أم من الأرض؟ ورفضوا الإجابة وهو لم يجبهم على تساؤلهم إنما ضرب لهم ثلاثة أمثال الأول مَثَل الابنين والثاني مَثَل الكرامين الأردياء والثالث مَثَل عُرس ابن الملك. ثم أرادوا أن يصطادوه بكلمة فوجهوا له ثلاثة أسئلة، حيث سأله الهيرودسيون مع تلاميذ الفريسيين أيجوز أن نُعطي جزية لقيصر أم لا؟ ثم سأله الصدوقيون عن عبث الاعتقاد بفكرة القيامة، ثم سأله ناموسي عن الوصية العظمى، وسألهم السيد المسيح عن كون المسيح ابن داود ورب داود في آن واحد، ومدح السيد المسيح الأرملة التي ألقت بفلسين في الخزانة، وجاء بعض اليونانيين لفيلبس يطلبون رؤية يسوع، وحديثه عن حبة الحنطة، وسماعهم صوت الابن يخاطب الآب، والآب يجيبه، ثم ترك المسيح الهيكل بعد رثاءه أورشليم، قائلًا لهم هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا، وخرج السيد إلى جبل الزيتون مع تلاميذه الذين أروه عظمة أبنية الهيكل، فأخبرهم عن خراب أورشليم وأيضًا نهاية العالم، وعودته مساء إلى بيت عنيا وقوله لتلاميذه أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب.
4) الأربعاء: أمضاه السيد المسيح في هدوء بيت عنيا، بينما سعى يهوذا للقيادات الدينية واتفق معها على تسليم سيده لها مقابل ثلاثين من الفضة.
5) الخميس والجمعة: ما أكثر وأعظم الأحداث التي تمت يومي الخميس والجمعة حتى أن الزمن لم يتسع لها، فقد تحقَّقت في الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض أكثر من ثلاثين نبؤة، ومن أحداث هذين اليومين المتصلين:
1) أرسل السيد المسيح اثنين من تلاميذه ليعدا الفصح في بيت أرسطوبولس، وبقى هو مع بقية تلاميذه في بيت عنيا إلى قرب المساء.
2) أعدَّ بطرس ويوحنا الفصح، وجاء السيد المسيح مع تلاميذه الذين ثار بينهم جدال عمن هو الأعظم.
3) الاحتفال بطقس عيد الفصح.
4) غسل السيد المسيح أرجل تلاميذه أثناء الاحتفال الطقسي بعيد الفصح.
5) أخبر السيد المسيح تلاميذه أن واحدًا منهم سيسلمه، وأفصح عن اسمه ليوحنا الحبيب الذي سأل المسيح عمن هو بناء على إيماءة بطرس إليه.
6) خروج يهوذا من وسط الجماعة المقدَّسة، بينما قدم السيد المسيح أعظم سرّ في الوجود إذ قدم جسده ودمه الكريمين تحت أعراض الخبز والخمر.
7) خطاب المسيح الوداعي للتلاميذ، وهو ما استغرق نحو ثلاث أصحاحات من إنجيل القديس يوحنا من الأصحاح الرابع عشر للسادس عشر.
8) صلاة المسيح الوداعية للآب السمائي واستغرقت الأصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا.
9) ختام سر الإفخارستيا بالتسبيح وترك العلية والتوجه إلى جبل الزيتون.
10) السيد المسيح يخبر تلاميذه بأنهم جميعًا سيشكون فيه في هذه الليلة، ويخبر بطرس بأنه سينكره ثلاث مرات في هذه الليلة.
11) صراع الصلاة في بستان جَثسَيمَانِي منفردًا عن تلاميذه.
12) وصول يهوذا وتقبيله للمسيح وتسليمه للجنود، والقبض عليه، وشد وثاقاته، وقيادته إلى رؤساء الكهنة.
13) محاكمة الرب يسوع أمام حنان رئيس الكهنة السابق، وصفع الخادم للسيد المسيح بدون سبب.
14) محاكمة الرب يسوع أمام قيافا رئيس الكهنة حينئذ.
15) محاكمة الرب يسوع أمام مجمع السنهدريم المنعقد باكر الجمعة.
16) محاكمة الرب يسوع الأولى أمام بيلاطس الوالي الروماني، وتبرئة المسيح.
17) محاكمة الرب يسوع أمام هيرودس، ورد هيرودس له موضحًا أنه لم يجد أي علة لموته.
18) محاكمة الرب يسوع الثانية أمام بيلاطس.
19) جلد الرب يسوع والسخرية به وتتويجه بإكليل الشوك.
20) الحكم على الرب يسوع بالصلب وإطلاق باراباس.
21) أحداث الصليب.
22) إنزال جسد المسيح من على الصليب وتكفينه ودفنه.
3- هل عيد الفصح يوم 14 من شهر أبيب أم 14 من شهر نيسان..؟ أوصى اللَّه موسى أن يعيدوا عيد الفصح يوم 14 من الشهر الأول وهو شهر أبيب، ومعنى "أبيب" أي سنابل الحنطة، قائلًا: "فِي الشَّهْرِ الأَوَّلِ فِي الرَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ فِصْحٌ لِلرَّبِّ" (لا 23: 5) (راجع أيضًا عد 28: 16)، والشهر الأول هو الشهر الذي خرجوا فيه من أرض العبودية: "اَلْيَوْمَ أَنْتُمْ خَارِجُونَ فِي شَهْرِ أَبِيبَ" (خر 13: 4)، وظل اليهود يُعيدّون بالفصح يوم 14 أبيب حتى ذهابهم إلى أرض السبي، وبعد عودتهم من السبي تغيَّرت أسماء الشهور، فصار اسم الشهر الأول (أبيب) شهر نيسان (نح 2: 1)، وتغيَّرت أسماء الشهور كالتالي:
1- نيسان 4- تموز 7- تشرين 10- تبيت
2- آيار 5- آب 8- مرشوان 11- شباط
3- سوان 6- أيلول 9- كسلو 12- آزار
4- وإن كان رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب قد انتهوا في اجتماعهم بدار قيافا إلى تأجيل قتل المسيح: "قَالُوا لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ"، فلماذا غيَّروا رأيهم وصلبوه يوم الفصح..؟ لقد اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب في دار قيافا رئيس الكهنة: "وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلكِنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ" (مت 26: 4، 5)، ولا سيما أنه كان في أورشليم عدد ليس بقليل من بيريه، وأيضًا من الجليليين الذين يتسمون بروح ثورية، بل أن الشعب كله ذهب وراءه، حتى كانوا يدوسون بعضهم بعضًا قائلين: "قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللَّه شَعْبَهُ" (لو 7: 16)، وكان عدد الوافدين إلى أورشليم في الفصح يتراوح بين 85 إلى 100 ألف، بالإضافة إلى عدد السكان الأصليين نحو 25 ألفًا (راجع القس صموئيل وهبه - صلاة المسيح في البستان والقبض عليه ومحاكمته ص45 ، 46). وكان كلما حدث شغب في الشعب واحتجاجات كان الرومان يلجأون إلى عزل رئيس الكهنة من منصبه وتعيين رئيس آخر، بينما في الأصل أن رئيس الكهنة يظل طوال حياته في وظيفته كما كان هرون أخو موسى، لأنه كان رمزًا للسيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، وكان رئيس الكهنة عند موته يقيمون ابنه البكر عوضًا عنه، أما الرومان فقد تمادوا في عزل وتعيين رؤساء الكهنة، فتم تعيين قيافا خلفًا لحنان قبل خدمة المسيح الجهارية بعام وظل في وظيفته نحو إثنى عشر عامًا وهذا دليل على موالاته للرومان، فخلال نحو مائة عام من سنة 37 ق.م إلى خراب أورشليم سنة 70م تم تعيين 28 رئيسًا للكهنة، جاء ذكر أسماء ثلاثة منهم في أسفار العهد الجديد وهم حنان وقيافا وحنانيا، وكان رئيس الكهنة المعزول يظل عضوًا في مجمع السنهدريم طوال حياته، وهذا يُفسر قول الإنجيل " رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ" فهو يقصد الرئيس الحالي، والرؤساء السابقين الذين ما زالوا على قيد الحياة. وكان رئيس الكهنة يعمل ألف حساب لإستقرار الأمن، لأنه بناء على هذا يتوقف وجوده في منصبه.
ولذلك كان القرار بتأجيل صلب المسيح إلى ما بعد فترة الأعياد، أما السيد المسيح فكان له رأي آخر، فهو القائد الذي يُحدّد ساعة الصفر لبدء المعركة الفاصلة التي من أجلها جاء ولبس جسد الإنسان وظهر في الهيئة كعبد، وهو أراد أن يربط ساعة الصلب بعيد الفصح، وقد ذهب إلى طريق الموت بملء إرادته، بدليل أن نبؤاته عن صلبه سبقت مؤامرات خصومه عليه، عند بدء خدمته قال لأمه القديسة العذراء مريم عندما طلبت منه إجراء معجزة: "مَالِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ. لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ" (يو 2: 4) أما الآن فهو يُعلِم تلاميذه بتوقيت الساعة قائلًا: "تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ" (مت 26: 2)، وفي هذا ينهض أذهانهم بالتذكرة لعل صورة أبيهم إسحق الذبيح أمام أعينهم: "وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيد" (تك 22: 4). وفي ليلة آلامه صلى قائلًا: "أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا" (يو 17: 1).
ولنا أن نتساءل: لماذا قال السيد المسيح عن نفسه " يُسَلَّمُ" مبني للمجهول، دون أن يذكر اسم مسلّمه يهوذا الإسخريوطي..؟ لأن الذي أسلم يسوع للصلب أولًا هو الآب كقول بطرس الرسول لليهود: "هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللَّهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ" (أع 2: 23)، كما أسلمه كل من تلميذه مُحب الفضة: "مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُوني وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ" (مت 26: 15)، وأيضًا أسلمه شعبه إلى الوالي الروماني: "لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا" (مت 27: 18) وقال لهم بطرس الرسول: "وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أع 2: 23). وهكذا بمشورة اللَّه المحتومة، ومشورة الأشرار أكمل اللَّه فداء الإنسان.
والسبب الظاهري الذي جعل القيادات اليهودية تعجل بصلب المسيح هو تقدم يهوذا الإسخريوطي ووعده لهم بأنه على استعداد أن يسلمه لهم بلا ضجة ولا جلبة وقبل أن يستطيع الشعب أن يحرك ساكنًا. ويقول "متى هنري": "ماذا وعد يهوذا " أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ " أعرفكم بمكانه وأتعهد بأخذكم إليه، وفي وقت ملائم ومكان مناسب بحيث تستطيعون إلقاء القبض عليه دون أي شوشرة ودون أي خطر من قيام ثورة أو فتنة. كان هذا هو ما حيرهم عند مؤامرتهم على المسيح (ع 4 ، 5) لأنهم لم يتجاسروا على إلقاء القبض عليه علنًا، ولم يعرفوا كيف يجدونه في عزلة. أما الآن فقد وجدوا مخرجًا للأمر وحلًا للمشكلة بمجيء يهوذا وعرض خدمته عليهم... مع أن الرؤساء، بما أُوتوا من سلطان، كان في استطاعتهم قتل المسيح عندما يصل إلى أيديهم، إلاَّ أنه لم يكن ممكنًا أن يسلمه سوى أحد تلاميذه" (95).
أما السبب الحقيقي للتعجيل بصلب المسيح في يوم عيد الفصح، فذلك يرجع للمشيئة الإلهيَّة، فالقائد هو الذي دائمًا يحدد ساعة الصفر، وكان ذلك عن قصد:
أ - لكيما يُقدم المسيح فصحنا الجديد ذاته ذبيحة حية على عود الصليب في عيد الفصح، ففي عيد الفصح فدى اللَّه شعبه من عبودية فرعون، وبالصليب يفدي العالم كله من عبودية إبليس، وخروف الفصح كان يُشير بقوة لذبيحة الصليب، لذلك كان لا بد أن يُصلب الفادي في عيد الفصح، عيد الحرية من العبودية والنجاة من الموت. كما أن التقليد اليهودي أفصح عن أن المسيا سيخلص إسرائيل في عيد الفصح.
ب - ليرى ربوات الشعب المسيح مُعلقًا على عود الصليب على جبل الجلجثة، فينشغلون بقضية ذات الشخص الذي شهرته عمت الآفاق كنبي عظيم، وبهذا عندما يسمعون رسله الكرام يبشرون بموته وقيامته والروح القدس ينخسهم يقبلون الإيمان.
ويقول "أحد الأفاضل": "وكانت السماء تسيطر لإتمام المقاصد الإلهيَّة حتى أن المسيح لا يُقتَل في حادثة خاصة، أو في ترتيب مُنظم، إذ أن ذلك لا يكن ليشاهده أشخاص قلائل، لكن ذلك كان أمام جماهير من الشهود، الذي كان يجب أن يروا ذلك من اليهود والأمم الدخلاء، الذين آتوا من كل ناحية إلى أورشليم، وقد شاهدوا صلبه... ونقلوا هذه الأخبار إلى أمكنة بعيدة" (96).
5- وما دام رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب واثقون في إمكانية القبض على المسيح، فلماذا احتاجوا لمساعدة يهوذا؟ وكيف كذب توقعهم، إذ عندما صُلِب المسيح في الفصح لم يحدث شغب في الشعب، بل أنهم هتفوا ضده..؟ لم يذهب رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، ولم يرسلوا أحدًا إلى يهوذا، يلتمسون مساعدته في تسليم معلمه، بل أن هذا الأمر كان خارج نطاق تفكيرهم، فلم يتوقعوا يومًا أن أحد تلاميذ المسيح الذي عاش وأكل وشرب ونام معه، وقد ترك كل شيء من أجل محبته له، يمكن أن يخونه، أو يبيعه بأي ثمن كان، إنما هم فُوجئوا بتطوع يهوذا من تلقاء ذاته يعرض عليهم هذا العرض السخي أن يسلمه لهم بدون شغب، وعرضوا عليه ثلاثين من الفضة فوافق على الفور، ولو كان ساومهم لوصل لأضعاف أضعاف هذا المبلغ: "حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. وَقَالَ مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُوني وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ. فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّة" (مت 26: 14، 15) وتحيَّن يهوذا الفرصة لتسليم معلمه لرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب في خلو من الجمع، فتم القبض عليه في ساعة متأخرة من الليل في بستان جثسيماني خارج أسوار أورشليم وأقتيد مُكبلًا مربوطًا للمحاكمات ليلًا في غفلة من أتباعه ومحبيه، وحُوكم أمام بيلاطس وهيرودس في عيد الفصح والكل مشغول باحتفالات العيد، وفي وقت المحاكمة عندما خيَّر بيلاطس الشعب في أن يُطلق لهم يسوع أو باراباس: "وَلكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ" (مت 27: 20)، كما أطلق رؤساء الكهنة الشائعات حوله أنه يجدف على الهيكل، ويعادل نفسه باللَّه... إلخ، ولذلك لم يصدُق توقع القيادات الدينية بأن صلب المسيح قد يسبب شغبًا في الشعب، فكل شيء سار حسب هواهم لأنه هكذا كانت المشيئة الإلهيَّة أن يموت واحد عن الأمة كلها بل عن العالم كله.
6- هل حادثة سكب الطيب حدثت قبل الفصح بيومين (مت 26: 2)، أم أنها كانت قبل الفصح بستة أيام (يو 12: 1)..؟ لم يقل القديس متى أن حادثة سكب الطيب حدثت قبل يومين من الفصح، وأيضًا لم يقل أنها لم تحدث قبل الفصح بستة أيام، إنما قال أنه قبل الفصح بيومين أخبر السيد المسيح تلاميذه أنه سيُصلَب بعد يومين في عيد الفصح. وفي ذلك اليوم تشاورت القيادت الدينية لقتل يسوع. ونحن نعلم أن القديس متى لم يلتزم في إنجيله بالتسلسل الزمني للأحداث، وهنا نجده يذكر أولًا قول المسيح: "تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ" (مت 26: 2)، ثم ذكر بعد ذلك حادثة سكب الطيب التي كانت قد حدثت منذ عدة أيام خلت، دون أن يحدد تاريخها، ونحن نعلم أن الأناجيل تكمل بعضها البعض، فعند قراءة الحدث في إنجيل القديس يوحنا نجده يحدد وقت الحادثة، فيقول: "ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً.." (يو 12: 1 - 8) إذًا ليس هنا تناقض على الإطلاق، وجاء في "التفسير التطبيقي": "زيارته لبيت عنيا تسبق الأحداث في (مت 26: 6 - 13) زمنيًا... ففي (مت 20: 29) ترك الرب يسوع أريحا متجهًا نحو أورشليم، ووصل إلى بيت عنيا" (97).
ولكن لنا أن نتساءل: لماذا ذكر القديس متى حادثة سكب الطيب بعد أن مرت وعبرت..؟ لأنه كان مزمعًا أن يتكلم عن خيانة يهوذا (مت 26: 14 - 16)، فأراد أن يضع أمام أعيننا مقابلة بين هذه المرأة التي فاضت محبتها للمسيح، وفاقت محبة التلاميذ، فسكبت على رأسه طيبًا ثمينًا يساوي 300 دينار أو أكثر، في الوقت الذي كان فيه الخبز بمائتي دينار كان يكفي ليأكل منه خمسة آلاف رجل بحسب تقدير فيلبس (يو 6: 7) وبين تلميذ سلَّم سيده مقابل ثلاثين من الفضة.
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "في الوقت الذي تسللت فيه القديسة مريم لتلتقي مع عريسها في بيت عنيا تعلن شوقها أن تُدفن معه، إذ بيهوذا "التلميذ" يبيع السيد بدراهم قليلة كعبد. لقد كان يهوذا مع السيد أغلب الأيام يقضي الساعات الطويلة بل وأحيانًا الأيام، يراه يصنع أعمالًا عجيبة ويسمعه كثيرًا بل ونال منه سلطانًا للكرازة وعمل الآيات لكن قلبه لم يلتقي معه بسبب محبة المال، أما المرأة فلم ترى هذا كله ولا سمعت مثله ولا نالت سلطانًا لكنها تعرَّفت عليه بنقاوة قلب. لقد أعمى الطمع قلب يهوذا ليبيع سيده، أما المرأة فتقدمت بالحب في حرارة الروح لتتقبل عمل الخلاص وحق الكرازة الخفية... لقد قدمت مريم غناها عطية للرب لتبقى غنية في داخلها، حتى وأن بدت بلا أموال، وباع يهوذا سيده بالفضة ليبقى فقيرًا حتى وإن تمتع بالفضة في يديه. وكما يقول "القديس يوحنا الذهبي الفم".. " لا نفع للمال إذا كانت النفس فقيرة، ولا ضرر من الفقر إن كانت النفس غنية "(98).
ويُرجِع "القس سمعان كلهون" خيانة يهوذا إلى إتلاف الطيب فيقول: "فاختار البشيران متى ومرقس (مت 26: 14 - 16، مر 14: 10، 11) أن يقرنا خيانة يهوذا بذكر السبب القريب الذي حركه لذلك هو " تلف الطيب" فأوردا الحادثتين معًا، مع أن بينهما بضع أيام" (99).
ويربط "الأب متى المسكين" بين عمل مريم الإيجابي وعمل رؤساء الكهنة السلبي، فيقول: "القديس متى عاشق للمقارنات، يضع قصة العطر والمسحة في بيت مريض شفاه المسيح، في مقابل بيت رئيس الكهنة الذي تفوح منه رائحة الدم والنتانة تتصاعد من أفواه وبطون الكبراء والرؤساء والمرؤوسين والمأجورين... فلما خذل الكهنوت صَنْعَتَهُ وإشتعل بالمؤامرات والقتل، قامت امرأة في إسرائيل كدبورة ترفع قرن الكهنوت عاليا وتطرح حقد التلاميذ وجشع يهوذا أرضًا لتقول قول دبورة: "دُوسِي يَا نَفْسِي بِعِزّ " (قض 5: 21) !! وضمَّخت الجسد بالعطر قبل أن يُعرف له قبر!! ودهنت الرأس ولم تكن تعلم أنها دهنت رأس الكنيسة كلها. ولقد عبَّرت هذه المرأة الملهمة الذكية عن بهجة القيامة في وسط مؤامرات الموت وحبَّبت إليه القبر لما إشتَّم من قارورتها رائحة الصعود!" (100). أن ما فعلته مريم هنا يمثل أعظم ما قدمته البشرية لشخص المسيح، أنه الحب العظيم الذي فاحت رائحته فعبقت أرجاء المكان، مقابل رائحة الخيانة الكريهة التي فاحت من قلب يهوذا. وإن كان يُعد أمرًا عجيبًا أن يدهن جسد إنسان لأجل تكفينه وهو ما زال على قيد الحياة، ولكن هذا يليق بإلهنا الحي بلاهوته.
7- هل حدثت هذه الحادثة في بيت سمعان الأبرص (مت 26: 6) أم في بيت لعازر لأن مرثا كانت تخدم هناك (يو 12: 12) ..؟ حدَّد كل من القديس متى والقديس مرقس مكان الحادثة قائلًا: "فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ" (مت 26: 6 ، مر 14: 3)، وركز القديس يوحنا على المناسبة التي تم فيها سكب الطيب بعد إقامة لعازر من الموت قائلًا: "أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَنًا.." (يو 12: 1 - 3) فواضح من قول القديس يوحنا أن الوليمة لم تكن في بيت مريم ومرثا ولعازر، لأنه لو كانت في بيتهم ما كان هناك حاجة إلى أن يذكر يوحنا بأن لعازر كان أحد المتكئين، ولا هناك حاجة أيضًا لقوله بأن مرثا كانت تخدم ، فلو كانت الوليمة في بيت لعازر لكان وجود لعازر وخدمة مرثا أمورًا طبيعية لا تحتاج الإشارة إليها. وليس عجيبًا أن يُقيم سمعان الأبرص وليمة عرفان بالجميل للسيد المسيح الذي شفاه من برصه، وأيضًا الذي أقام لعازر أحد أبناء قرية بيت عنيا، وليس عجيبًا أن تخدم مرثا أخت لعازر في بيت سمعان الأبرص، فلا بد أنه كان هناك علاقة قوية بين الأسرتين حتى قال البعض أنه احتمال أن يكون سمعان الأبرص هو والد لعازر، ولكن لو كان والده لأقامت معه ابنتيه مريم ومرثا، وقال البعض هناك احتمال أن يكون زوج مرثا: "فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا" (لو 10: 38).
وحتى إن لم يكن هناك قرابة بين أسرة لعازر وبين أسرة سمعان الأبرص، فليس عجيبًا أن تخدم في عشاء مدعو فيه السيد المسيح صديق الأسرة والذي أقام أخيها من الموت منذ أيام قلائل، ويقول "القس سمعان كلهون": "ومع أن العشاء كان في بيت سمعان إلاَّ أنه كان أمرًا طبيعيًا أن مريم ومرثا تساعدان على تحضيره، لأن محبتهما لسيدهما كافية لبيان استعدادهما لخدمته ورغبتهما في إكرامه بخدمتهما الشخصية بدون وجود نسب بينهما وبين سمعان"(101). وليس عجيبًا أن مريم تسكب قارورة الطيب الناردين كثير الثمن والذي اشترته بكل ما اكتنزته طوال حياتها وحفظته ليوم تكفينه. وكانت هذه القوارير تُصنع بأشكال مختلفة من نوع مُعين من الحجر في مصر، وهيَ عبارة عن زجاجات صغيرة وكان اليونانيون يدعونها "البسترون" بحسب المدينة التي جاء منها، ولذلك سُميت هذه الزجاجات العطرية بِاسم الألبستر، واسم هذا الطيب الذي قدمته مريم هو "ناردين" وكان يُستخلص من زهور هندية وعربية من نبات صغير الحجم ينمو على الجبال على ارتفاع شاهق، وكان يستورد من الهند، يُستخدم كدواء لبعض الأمراض كما كان يستخدم لتطييب أجساد الموتى من الأثرياء، وجاء في سفر النشيد: "مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ" (نش 1: 12).
ودُعيَ سمعان بالأبرص باعتبار ما كان عليه قبل أن يشفيه السيد المسيح، مثلما قيل في هذه المناسبة عن لعازر: "لِعَازَرُ الْمَيْتُ" (يو 12: 1)، ومثلما قال القديس متى عن نفسه: "مَتَّى الْعَشَّارُ" (مت 10: 3). ولو كان سمعان ما زال أبرصًا ما كان يجرؤ على إقامة وليمة، ولا كان يجرؤ أحد على دخول بيته. إذًا لا بد أنه كان أبرص ونال الشفاء، وكان يسكن في " بَيْتِ عَنْيَا" وهيَ قرية تقع على السفح الشرقي لجبل الزيتون ومعنى اسمها بيت العناء، وهيَ موطن أيضًا للعازر وأختيه مريم ومرثا، وتُدعى الآن "العازارية"، ولاحظ أن كل من مرقس ومتى ذكر اسم القرية " بَيْتِ عَنْيَا" إلاَّ أنهما لم يذكرا اسم مريم ولا لعازر ولا مرثا، وعندما ذكر لوقا اسمي مريم ومرثا لم يذكر اسم القرية، ويرجع السبب في هذا أن حياة لعازر كانت مهددة بالخطر (يو 12: 10 ، 11)، أما القديس يوحنا فذكر كل شيء بالأسماء، ولذلك لأن سطوة أورشليم كانت قد انكسرت بخرابها، فلم يعد هناك خطورة على لعازر وأختيه، بل أن ربما بعضهم أو كلهم كانوا قد انتقلوا من هذه الحياة الزمنية.
_____
(95) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص410.
(96) سلسلة تفسير جون ويسلي للعهد الجديد - تفسير إنجيل متى ص265.
(97) التفسير التطبيقي ص1956.
(98) تفسير إنجيل متى ص531.
(101) اتفاق البشيرين ص426.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/412.html
تقصير الرابط:
tak.la/gvwq2as