س392: كيف اجتمع الفريسيون الهيرودسيين (مت 22: 5 - 6) مع اختلاف مشاربهم؟ وما العلاقة بين سؤال عن الجزية (مت 22: 17) واصطياد السيد المسيح بكلمة (مت 22: 15)؟ وكيف أفشل يسوع أحبولتهم وأبكمهم؟
ج: 1- وبخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين بسبب تعدياتهم وآثامهم، وأدان رؤساء الكهنة بسبب فساد سيرتهم، حتى أنهم اجتمعوا جميعًا على الخلاص منه، وما منعهم من ذلك مؤقتًا إلاَّ محبة الشعب له، فألوفًا وربوات كانوا يحيطون به ويتبعونه، يرون فيه المعلِّم القائد والراعي الصالح والمسيا المنتظر، ولذلك احتالت هذه القيادات الدينية عليه ليصطادوه بكلمة. فتقدم تلاميذ الفريسيين مع الهيرودسيين، ثم الصدوقيون، ثم واحد من الناموسيين بثلاثة أسئلة سياسية، وعقائدية، وكتابية لعله يخطئ في شيء فيمسكونه عليه. وكان الهيرودسيون يشايعون هيرودس الملك الذي كان يحكم الجليل، وكان مواليًا للرومان، وكان هيرودس في هذه الأيام في أورشليم يتبعه الكثيرين من الجليليين الذين جاءوا بمناسبة عيد الفصح، ولم يرى الهيرودسيون غضاضة في دفع الجزية لقيصر ولي نعمتهم، وكانوا يحفزون الناس على هذا لأن روما تبسط عليهم جناح الأمان، كما أنهم كانوا يطمحون في مكاسب سياسية، حتى أنهم كانوا يتوقعون أن قيصر سيملّك هيرودس على اليهودية بجوار الجليل، لأن سمعة بيلاطس ليست جيدة لدى القيصر، بينما كان راضيًا عن هيرودس، فكانوا يحلمون بعودة المملكة كما كانت أيام هيرودس الكبير... وبينما كان الجليليون في غالبيتهم يوالون الرومان باستثناء حزب الغيورين، كان الفريسيون يناهضون الرومان، ويرون أن دفع الجزية لهم يُعد خيانة لله. ومع هذا العداء الفكري بين الهيرودسيين والفريسيين، فقد اجتمع الخصمان على التهام الفريسة، ولا سيما أن نجم يسوع قد لمع بتعاليمه السامية ومعجزاته الجبارة، بينما كان نجمهم آخذًا في الأفول، ولذلك اتفقوا معًا على اصطياده بكلمة تدينه فيحكمون عليه بالموت، وتقدموا إليه بكثير من الرياء يتملقونه: "يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّه بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ" (مت 22: 16) ومع أن هذه الصفات في حقيقتها تنطبق على السيد المسيح، إلاَّ أنهم لم يقتنعوا ولا بواحدة منها، بل " قَالُوا: إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!" (مر 3: 21).. " وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ" (لو 11: 15).. " أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَنًا: إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ... الآنَ عَلِمْنا أَنَّ بِكَ شَيْطَانًا" (يو 8: 48 - 52).. ذهبوا يتملقونه قائلين له: "وَلاَ تُبَالِي بِأَحَد" بهدف تحريضه على إعلان رأيه صراحة سواء كان ضد قيصر أو ضد الشعب، وهم لا يدركون أمام من يقفون!!. لقد انطبق عليهم قول داود النبي: "لأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ صِدْقٌ. جَوْفُهُمْ هُوَّةٌ. حَلْقُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. أَلْسِنَتُهُمْ صَقَلُوهَا" (مز 5: 9) واستحقوا بالحقيقة توبيخ السيد لهم: "لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟" (مت 22: 18).
2- في سنة 6م حرض "يهوذا الجليلي" شعبه على عدم دفع الجزية لقيصر، وأشعل الثورة والعصيان ضد روما، ولكنه فشل، وتولَّد عن هذه الثورة حزب الغيوريين الذين لجأوا إلى حرب العصابات ضد المستعمر الروماني، ورأوا أن كل من يشجع على دفع الجزية هو بالضرورة عدو حركة النضال الوطني، وكان الفريسيون يناهضون حكم الرومان أيضًا، ولكن ليس عن طريق الكفاح المسلح بل بالسياسة، حتى أنهم كانوا يدفعون الجزية على مضض وفي تأفف شديد، وفي الجانب الآخر الهيرودسيون الموالين لهيرودس يحفزون الشعب على أداء الجزية لقيصر. فاتفق حزبي الشيطان، الهيرودسيون والفريسيون، على طرح سؤال أمام السيد المسيح، سؤال كله ذكاء بل دهاء، صاغوه وحبكوه بمهارة شيطانية عالية. لا فكاك منها، سواء جاءت الإجابة بالسلب أو بالإيجاب: "أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لا" (مت 22: 17)، وقيصر هو الإٍمبراطور الروماني، وكان اسم "قيصر" يمثل الاسم العائلي ليوليوس قيصر، وقد خلَّفه ابنه أوغسطس قيصر، ثم صار "قيصر" لقبًا ملازمًا لإمبراطور روما... لقد طرحوا عليه هذا السؤال الخبيث، فلو جاءت الإجابة بالسلب أي لا يجوز إعطاء جزية لقيصر، لفرحوا وتهللوا، لأنهم أمسكوا الفرصة عليه ليشتكوه للوالي الروماني على أنه مشاغب سياسي يُحرّض الشعب على قيصر، والأمر الأعجب أنه بالرغم من أن السيد المسيح لم يقل بمنع الجزية عن قيصر، إلاَّ أنهم بعد أيام قليلة: "وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ" (لو 23: 2)، وإن وافق على دفع الجزية لقيصر فأنهم سيتهمونه بأنه خائن لوطنه يعمل لحساب الرومان، وبهذا يفقد شعبيته ويشكّكون في مسيانته وفي كونه ابن داود، فلو كان ابن داود لطالب بحقه الشرعي في عرش داود أبيه.
3- كانت الجزية تُحصَّل من اليهود لصالح ملوك سوريا -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- ثم جعلها بومبي تُحصل لحساب القيصر، وقدرها دينارًا عن كل شخص كل عام على الذكور من سن أربعة عشر عامًا، وعلى الإناث من سن اثنتي عشر عامًا، وإلى سن خمسة وستين عامًا لكليهما، وكان الدينار يمثل أجرة العامل في اليوم، وكانت هذه الجزية تُحصل ضمن حزمة من الضرائب، مثل ضريبة الأرض وكانت تُقدَّر بعشر محصول الحبوب، وخمس إنتاج الزيت والخمر، تسدد نقدًا أو عينًا، وضريبة الدخل وتعادل 1% من دخل الشخص، بالإضافة إلى ضرائب التعاملات التجارية والجمارك. وعندما سُئل السيد المسيح عن موقفه من هذه الجزية، لم يجبهم لا بالسلب ولا بالإيجاب كما كانوا يظنون ويتوقعون، بل قال لهم: "أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ" (مت 22: 19)، وكانت عملة الجزية هيَ الدينار الروماني الذي صك عليه صورة رأس طيباريوس قيصر الذي حكم خلال الفترة من 14 - 37م، وكان اليهود يكرهون التعامل بهذه العملة، لأنها تحمل صورة الإمبراطور الروماني، فهيَ تذكّرهم بأنهم شعب مهزوم مقهور مُهان مُذَل، وليس هذا كل شيء، بل أيضًا الدينار الروماني عليه صورة، وبحسب مذهبهم الأضيق فإن الوصية تُحرّم الصور (خر 20: 4 - 5)، وعليها كتابة تنسب الألوهية للإمبراطور مثل "ابن الإله" وهذا ما يرفضه اليهود بشدة. ولذلك صكوا عملات نحاسية لا تحمل صورة الإمبراطور، كانوا يستخدمونها في معاملاتهم، ولم يكن لهم اضطرار لاستخدام الدينار الروماني إلاَّ في دفع هذه الجزية، وهذا يفسّر لنا لماذا قال السيد المسيح لهم: "أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ" أي الدينار الروماني، ولم يطلب منهم أي عملة غيرها. وبالرغم من بغضهم لهذه العملة إلاَّ أنها كانت متوفرة معهم، ولذلك أعطوه على الفور هذا الدينار الروماني، فسألهم: "لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟" (مت 22: 20)، فأجابوه جميعًا: "قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ" وبوجود العملة في جيوبهم، وإجابتهم هذه كتبوا صك إدانتهم، فبما أنهم قبلوا هذه العملة وقبلوا التعامل بها، فهم يعترفون ضمنًا بولاية قيصر عليهم.
وجاءت إجابة السيد المسيح التي أفشلت أحبولتهم وصدمتهم وأدهشتهم وأسكتتهم: "أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لله لله" (مت 22: 21).. " فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا" (مت 22: 22) وقال "العلامة أوريجانوس": "بهاء الحق يُسكِت على الدوام صوت الباطل المرّ والمضر" (6). والسيد المسيح في إجابته هذه الوافية الشافية ردَّ على الفكر الفريسي الخاطئ، الذي يعتبر أن أداء الجزية لقيصر يُعد خيانة لله، فأوضح لهم أن الواجبات السياسية لا تخل بالواجبات الدينية. وكان من الممكن أن يكتفي السيد المسيح بقوله: "أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ" ولكن المعلم الصالح وضعهم في مواجهة مع الله، فهم يدفعون الجزية لقيصر سواء كانوا راضيين أو متذمرين، ولكنهم يتجاهلون حق الله الذي قال: "يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ، وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي" (أم 23: 26).. فهوذا ابن الله الذي يقول لهم أعطوا الدينار الذهبي لقيصر، أما القلب فأعطوه لله. ويقول "القديس هيلاري أسقف بواتييه": "لترد لله ما هو لله أي تقدم له الجسد والنفس والإرادة، عملة قيصر هيَ من الذهب وعليها ختم صورته، وعملة الله عليها صورته. لنعطِ المال لقيصر ولنحتفظ بالضمير الذي بلا عيب لله" (7).
لقد أعطى السيد المسيح بهذه الإجابة المبدأ الذي يسير عليه الإنسان المسيحي في كل زمان ومكان " أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لله لله" وفعل " أَعْطُوا" المستخدم هنا ليس "Give" التي تستخدم في المعاملات المالية والتجارية وسداد الديون، بل استخدم فعل "Render" والذي يعني أعيدوا الحق لصاحبه. فالدولة تقدم خدمات للمواطنين فعلى المواطنين الالتزام بواجبهم الضريبي تجاه الدولة، وهذا ما أكد عليه الكتاب: "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ الله، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ الله... فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لهُ الإِكرَامُ" (رو 13: 1-7) راجع: (1 بط 2: 13 ، 14).
_____
(6) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص471.
(7) المرجع السابق ص466.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/392.html
تقصير الرابط:
tak.la/8g7fx3v