س391: كيف يدعو الملك لعرس ابنه أولئك الذين في مفارق الطرق وعلى قارعتها، بدون أي اعتبار لشكل المدعو ومظهره وثقافته وعلمه وصلاحه (مت 22: 9 - 10)؟ وما هيَ ثياب العُرس؟ وكيف أتى المدعوون بهذه الثياب على التوِّ؟ وكيف عَبَرَ من ليس عليه ثياب العرس إلى داخل القصر دون أن يستوقفه حرس البوابة ولا الحرس الملكي؟ وهل الحكم الذي صدر ضده حكمًا قاسيًا صارمًا لا يتناسب مع عدم إرتدائه لباس العُرس، وربما فعل ذلك لفقره؟ ألم يكن كافيًا طرده من العُرس دون ربط يديه ورجليه وطرحه في موضع الظلمة والعذاب؟
ج: 1- كيف يدعو الملك إلى عُرس ابنه من هم على قارعة الطريق وفي مفارق الطرق؟ ... نطق السيد المسيح بهذا المَثَل، وأحداث المَثَل تُعبَر عن حقائق أخروية، فالمَثَل تمثيل وتشبيه لتلك الحقائق البعيدة ليسهل إدراكها، فمثلًا الملك في هذا المَثَل يُشير للَّه الآب، والعريس ابن الملك يُشير لابن اللَّه المتجسد من أجل خلاص البشرية، فهو عريس الكنيسة، والمدعوون الذين رفضوا الدعوة مرتين هم اليهود وخاصته وشعبه " إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يو 1: 11) وقد أوصى السيد المسيح تلاميذه عندما أرسلهم للكرازة قائلًا: "إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا" (مت 10: 5) حتى يأخذ اليهود فرصتهم بالكامل، ولكن اليهود أصرُّوا على الرفض، بل سخروا بعبيده وقتلوهم فاستحقوا الهلاك وحرق مدينتهم، وخرج عبيد الملك من الرسل والكارزين والمبشرين مجدَّدًا يحملون وصية سيدهم: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ" (مت 28: 19).. " واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر 16: 15) فخرجوا إلى مفارق الطرق حيث الفقراء والمساكين والطبقات المهمشة وأصحاب العشوائيات، والمزدرى وغير الموجود. كما أن مفارق الطرق تشير للأمم الذين شابهوا الواقفين على مفارق الطرق لا يعرفون يمينهم من يسارهم ولا في أي طريق يسلكون... لقد صارت الدعوة متاحة للجميع في كل زمان ومكان ولجميع الأجناس كقول بطرس الرسول: "بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللَّه لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ" (أع 10: 34 - 35).. " لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِه" (رو 10: 12). الدعوة للجميع ولكن يأتي يوم تفصل فيه الحنطة عن الزوان، تجمع الحنطة أي أبناء الملكوت، وإلى الملكوت يذهبون، ويجمع الزوان أي بنو الشرير، وإلى بحيرة النار يُلقون.
2- ما هيَ ثياب العرس؟ ثياب العرس هيَ:
ثياب الخلاص والبر: "فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلهِي، لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ" (إش 61: 10).. " كَهَنَتُكَ يَلْبَسُونَ الْبِرَّ، وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ" (مز 132: 9).
ثياب المعمودية البيضاء: "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" (غل 3: 27).. " وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ" (أف 4: 24).
ثياب القداسة: "الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عب 12: 14).
ثياب الأعمال الصالحة: "فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللَّه الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاة" (كو 3: 12).
ثياب التوبة والجهاد: "قال الله لملاك كنيسة ساردس": "عِنْدَكَ أَسْمَاءٌ قَلِيلَةٌ فِي سَارْدِسَ لَمْ يُنَجِّسُوا ثِيَابَهُمْ، فَسَيَمْشُونَ مَعِي فِي ثِيَابٍ بِيضٍ لأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ. مَنْ يَغْلِبُ فَذلِكَ سَيَلْبَسُ ثِيَابًا بِيضًا" (رؤ 3: 4 - 5)، وعندما ضل الابن الضال اتسخت ثيابه وتهلهلت، ولكن بمجرد أن عاد إلى بيت أبيه سمع صوت الأب يقول: "أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ" (لو 15: 22)، ووصف سفر الرؤيا أولئك التائبين: "هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ " (رؤ 7: 14).
الرب يسوع: "الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ" (رو 13: 14). وقال "العلامة أوريجانوس": "من يخطئ ولا يتجدد ولا لبس الرب يسوع المسيح ليس له عذر، لذلك قيل " فَسَكَتَ ".. " (3).
ثياب المحبة والفضيلة: يقول "القمص تادرس يعقوب": "وإذ يتكلم القديس يوحنا الذهبي الفم عن المحبة يقول أنها الثوب الملكي الذي يلتحف به الإنسان فيصير كملكة تدخل إلى العرش لتلتقي بالملك السماوي ولا يقدر أحد من رجال البلاط أن يعترض طريقها... ويرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن هذا الثوب الملكي للعرس إنما ينسج بين عارضتين، هما محبة الله ومحبة القريب. فالحب هو طبيعة تتسم بها النفس لا تقدر أن تفصل محبة الله عن القريب ولا القريب عن الله" (4).
وقد حذرنا مخلصنا الصالح لئلا يفقد الإنسان ثياب العرس قائلًا: "هَا أَنَا آتِي كَلِصٍّ! طُوبَى لِمَنْ يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثِيَابَهُ لِئَّلاَ يَمْشِيَ عُرْيَانًا فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ" (رؤ 16: 15).
كيف آتى المدعوون بالثياب بهذه السرعة..؟ هذه الثياب كانت متاحة للجميع ولكن لا تُفرَض على أحد، فمن شاء آخذ ومن شاء رفض، والذين أخذوا الثياب منهم من يحافظ على نقاوتها ورونقها، ومنهم من يهملها فتتسخ وتتهلهل عليه، ولأن هذه الثياب كانت متاحة للجميع بلا استثناء لذلك عندما سأل الملك من ليس عليه لباس العرس: "يا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ ؟ فَسَكَتَ" (مت 22: 12) وسكوته هذا يعني أنه لم يجد أي عذر يعتذر به.
3- كيف عَبَرَ من ليس عليه ثياب العُرس إلى داخل القصر دون أن يستوقفه حرس البوابة ولا الحرس الملكي..؟ عَبَرَ هذا الرجل ولم يستوقفه أحد، لأن لباس العُرس أمر داخلي خفي يُعبّر عن حياة الإنسان المستترة، فمن يعرف إن كان هذا الرجل قد آمن واعتمد وتبرر بدم المسيح وعاش حياة التوبة والنقاوة والتقوى وصنع صلاحًا أم لا، إلاَّ الله ذاته فاحص القلوب والكُلى والذي عيناه تخترقان أستار الظلام؟!.. لذلك لم يلحظ حرس البوابة ولا الحرس الملكي أن هذا الرجل لا يرتدي لباس العُرس، ولم يبكت الله هؤلاء الذين سمحوا لهذا الرجل بالعبور إلى القصر، فكثيرون يرتدون قناع الرياء المتقن، فلهم صورة ومنظر التقوى وهم ليسوا كذلك.
فلما دخل الملك لينظر... بحسب عادات الشرق أن الضيف لا يأكل مع ضيوفه الكثيرين، إنما يتجوَّل بينهم مُرحبًا بهم، وينظر احتياجاتهم، ويهتم بهم، وهذا عين ما فعله هذا الملك العظيم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وفعل " ينظر" المستخدم هنا في الأصل اليوناني يعني النظر باهتمام وانتباه وتمعن وتدقيق، فقد أراد أن يتأكد أن كل شيء على ما يرام، ليس هناك أي شيء يعكر صفو هذا الجو الاحتفالي الرائع، فنظر ذاك الرجل الذي ليس عليه ثياب العرس، فحكم بطرده من الحفل وعقابه.
4- هل الحكم الصادر ضد هذا الرجل الذي لم يرتدي لباس العُرس يُعد حكمًا قاسيًا صارمًا، لا يتناسب مع ما فعله، وربما فعل ذلك لفقره؟
على مستوى المَثَل: إن كانت بعض المحافل وبعض الاحتفالات الهامة لا يستطيع الإنسان أن يدخل إليها إلاَّ بالملابس الرسمية الكلاسيك، فما بالك بعُرس ابن الملك العظيم، هل يستطيع أن يدخل الإنسان بأي ملابس كانت، سواء ملابس النوم أو ملابس الحديقة، أو ملابس الرياضة، أو ملابس غير نظيفة وغير مهندمة؟! ومما يزيد من جرم هذا الرجل أن ملابس العُرس كانت متاحة له وللجميع لكنه لم يعبأ بها، حتى أن القديس أُغسطينوس يرى أن الملك وفر ملابس العُرس لجميع المدعوين، ويقول "دكتور وليم إدي": "جاء في التاريخ أنه كان للوكولوس أحد أغنياء الرومانيين خمسة آلاف رداء" (5) يستخدمها في الاحتفالات التي يُقيمها... ألا ترى أن تهاون هذا الرجل في ارتداء لباس عُرس ابن الملك يُعد استخفاف بالملك واحتقار له؟!! والدليل القاطع على إقرار هذا الرجل بذنبه أنه عندما سُئل عن سبب عدم ارتداءه لباس العرس صمت، وسكت، وفعل " سكت " المستخدم هنا في الأصل اليوناني يحمل معنى أنه كان ساكتًا أبكما مكمَّمًا، نفس الفعل الذي استخدمه السيد المسيح عندما قال للشيطان: "اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ" (مر 1: 25)، وذات الفعل الذي استخدمه على البحر الهائج: "وَقَالَ لِلْبَحْر: اسْكُتْ" (مر 4: 39).
وعلى مستوى الحقيقة: كيف يبقى إنسان في الملكوت وهو لم يلتزم بقوانينه وأحكامه ولم يقيم له إعتبارًا؟!!
ويمكنك يا صديقي أن تلاحظ:
أ - إن الملك لم يعلن غضبه على هذا الرجل، إنما عاتبه بلطف داعيًا إياه: "يا صاحب"، مثلما عاتب الذي تذمر على أجرته المتفق عليها فقال: "يا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ" (مت 20: 13) ومثلما عاتب يهوذا الخائن: "يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ " (مت 26: 50). فالملك العظيم الصالح سيظل دائمًا وأبدًا لطيفًا صالحًا من جانب، ومن جانب آخر عادلًا حازمًا: "وَيَكُونُ فِي يَوْمِ ذَبِيحَةِ الرَّبِّ أَنِّي أُعَاقِبُ الرُّؤَسَاءَ وَبَنِي الْمَلِكِ وَجَمِيعَ اللاَّبِسِينَ لِبَاسًا غَرِيبًا" (صف 1: 8). وأصدر الملك أمره لعبيده الملائكة الأطها: "ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ " فلا يستطيع أن يقاوم ولا يستطيع أن يفلت ويهرب، " وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّة" لأنه لا يوجد مكان ثالث، ففي الأبدية مكانين لا غير، الأول داخل الملكوت حيث تتلألآ الأنوار وتفيض البهجة والسرور ويضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم، والثاني خارج الملكوت حيث الظلمة الخارجية والبكاء وصرير الأسنان.
ب - في هذا المَثَل ذكر أن الذي لم يرتدي لباس العُرس واحد فقط، مع أن الحقيقة تقول أن: "كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ" (مت 22: 14). إذًا الذين لم يرتدوا ثياب العرس هم الأكثرية، فقد خرج من أرض مصر أكثر من ستمائة ألف ماشٍ يفوقون سن العشرين بينما الذين دخلوا أرض الموعد منهم اثنين فقط، وخرج مع جدعون اثنين وثلاثين ألفًا والذين انتخبوا للحرب كان عددهم ثلثمائة فقط. إذًا لماذا قلَّص السيد المسيح عددهم في المَثَل إلى واحد..؟ لأنه بالرغم من كثرتهم فهم لا يساوون شيئًا، وأيضًا إشارة إلى أن الدينونة ستكون فردية، كل إنسان يؤدي حسابًا عن نفسه.
_____
(3) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص463.
(4) المرجع السابق ص463.
(5) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل - تفسير إنجيل متى ص371.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/391.html
تقصير الرابط:
tak.la/4c3qt6h