س15 : من أين جاءت تسمية الفريسيين؟ ومتى بدأت نشأتهم؟ وما هيَ فئاتهم؟ وما هيَ عقائدهم؟ وكيف نالوا احترام الشعب وثقته؟ وكيف كانت علاقتهم بيسوع المسيح؟
أولًا:
تسمية الفريسيين
ثانيًا: نشأة الفريسيين
ثالثًا: عقائد الفريسيين
رابعًا: احترام
الشعب وثقته بالفريسيين
خامسًا: علاقة
الفريسيين بالسيد المسيح
مفرد كلمة فريسيين "فريسي"، وربما لفظ "فريسي" مشتق من الكلمة العبرية "فرش" بمعنى "فرز" أو "عزل" أو "فصل"، فكلمة فريسـي أي "معتزل" أو "منفصل"، وفسَّر البعض هذا الاعتزال عن المجتمع إذ عزلوا أنفسهم عن بقية الشعب، بل عزلوا أنفسهم عن المكابيين عندما سعوا للسلطة والكهنوت. ويقـول "راندال. إيه ويس" Randall A. Weiss: "يعتبر الفريسيون من الحاسيديم (كلمة حاسيديم مأخوذة مـن العبريــة hesed، وقـد وردت في كتابــات العهد القديم، ما قبل السبي، بمعنى "المخلصـون، الأوفياء"، في إشارة إلى الأوفياء أو المخلصين لإله إسرائيل يهوه)، الذين انفصلوا مع يوحنا هركانوس، وأحد تفسيرات مصطلح "فريسيون" بالعبرية Perusim، والآرامية Perisayya، أي الانفصاليون، يُشتق من هذا الانفصال أو الانسحاب عن حلف الحشمونيين"(47).
واحتكر الفريسيون معرفة الناموس وتفسيره، حتى قيل عنهم أنهم بنوا أسوارًا حول الناموس وحول أنفسهم، فقال لهم السيد المسيح: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ"(مت 23 : 13)، ونظر الفريسيون للآخَرين على أنهم خطاه لأنهم لا يحفظون الناموس بدقة، وقالوا للخدام الذين رفضـوا القبـض على يسوع: "هذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ" (يو 7 : 49)، فهم يشعرون أنهم الوحيدون الذين يسلكون بالحق، فهم مميزون لدى الله أكثر من بقية الطوائف اليهودية، فهم لم يمثلوا حزبًا سياسيًا كالصدوقيين، ولم ينشغلوا بالسياسة ولا بالفلسفة.
ربما بدأت نشأتهم في أرض السبي عندما انفصل الشعب عن الهيكل والكهنوت والذبائح، فأنكب البعض على تفسير الناموس والشريعة، وقد ظهر كيانهم واضحًا في القرن الثاني قبل الميلاد خلال الفترة المكابية، عندما استدعى الأمر الدفاع عن الإيمان اليهودي ضد الغزو الهيليني، فهم من نسل الحسيديم الذين شاركوا في الثورة التي قام بها متاتيا وأولاده الخمسة ضد أنطيوخس أبيفانوس، وجاء في سفر المكابيين الأول: "حِينَئِذٍ اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةُ الْحَسِيدِيِّينَ ذَوِي الْبَأْسِ فِي إِسْرَائِيـــلَ"(1مك 2 : 42)، واسم "الحسيديم" (الحسيديين) من الفعل العبري "حِسِد" أي الإخلاص والوفاء والألفة والمحبة والشركة، فهم أنصار المكابيين الذين ثاروا ضد حكم السلوقيين، ومن الحسيديم هؤلاء خرج الفريسيون والأسينيون نحو سنة 150 ق. م. كما ذكر التاريخ صراعهم مع يوحنا هيركانوس (134 - 104 ق. م) ومع ابنـه إسكندر حناوس (103 - 76 ق. م) الذي صلب منهم ثمانية آلاف شخصًا.
وعندما استولى بومبي على أورشليم سنة 63 ق. م التزموا جانب السلم وتجنبوا إثارة النزاع مع روما، فانشق عنهم جماعة الغيوريين الذين لا يرون ملكًا غير الله، وقاوموا الاحتلال الروماني بقوة السلاح، ولكن عندما اشتعلت الثورة ضد الرومان قبيل سنة 70م شارك الفريسيون في هذه الثورة، وقد ترتّب عليها خراب أورشليم وحرق وهدم الهيكل وزوال مجد اليهود، فحاولوا جمع حطام اليهودية متمركزين حول الناموس والشريعة، وفي عصر السيد المسيح كان عددهم نحو ستة آلاف يعملون في الزراعة والتجارة والحرف المختلفة، ولكن تأثيرهم على الشعب كان قويًا، والحقيقة أنـه ليس جميع الفريسيين قد فسدت حياتهم، بل كان منهم أناس أتقياء مثل نيقوديموس، ويوسف الرامي، وغمالائيل معلم الناموس الذي تتلمذ على يديه شاول الطرسوسي، وقسم البعض الفريسين إلى عدة فئات، منها:
1ــ الفريسي ذو الكتف: وهو الذي يتفاخر بأعماله، واضعًا شارات على كتفه تميزه عن الآخَرين.
2ــ الفريسي المرضوض أو الأعمى: وهو الذي يسير في طريقه ويكاد يغمض عينيه حتى لا ينظر وجه امرأة، فيحمل في جسده بعض الكدمات والرضوض نتيجة لسيره مغمض العينين.
3ــ الفريسي المسنَّم أو المدق: وهو الذي يسير منحنيًا خافضًا رأسه عازفًا عن مباهج الدنيا، فهو أشبه بالمدق في الهاون.
4ـ الفريسي الحاسب: وهو الذي يحصي أعمال الخير التي يصنعها، والمعاصي التي يرتكبها، ثم يعادل بين حسناته وسيئاته.
5ــ الفريسي المحب: وهو أفضل أنواع الفريسيين، منهم سمعان الفريسي الذي دعى السيد المسيح للعشاء في بيته (راجع وليم باركلي - تفسير إنجيل لوقا، والراهب أولوجيوس البرموسي – الحياة اليهودية في عصــر المسيح ص 95).
ويرى "راندال. إيه ويس" Randall A. Weiss أنه كانت هناك نواحي إيجابية للفريسية، أقرها السيد المسيح (مت 23 : 2 ـ 3)، فيقول: "مـن المؤسف أن كلمة "الفريسية" أصبحت مصطلحًا سلبيًا... لدرجة أنه يرد في قاموس Roget's College كمرادف لكلمة "رياء". الحوار اللاذع بين يسوع والعديد من الفريسيين يبدو أنه مصدر معظم المواقف الازدرائية ضد الفريسيين والتعليقات القاسية الحادة المتضمنة في العهد الجديد ليست هيَ المصدر الوحيد لإهانة أشكال معنية من الفريسية. لم يُعفَ الفريسيون من الانتقاد على أيدي اليهود أنفسهم. فالتلمود نفسه يقدّم إدانته للرياء السائد بين الفريسيين... لقد ذكر يسوع عبارة "الويل لكم أيها الفريسيون" سبع مرات، ويُذكَر في التلمود سبعة أنواع من الفريسيين، خمسة منهم مراءون...
يمكن الافتراض بأن الفريسيين كانوا متحمسين بنوايا صادقة تبغي الالتزام بالمثاليات الكتابية العالية. لقد أرادوا إيفاء متطلبات التوراة إلى أقصى حد ممكن. المساومة لم تكن طريقة مقبولة للعيش بالنسبة لهم. يخبرنا يوسيفوس أنه: "كان هناك طائفة من الرجال من اليهود الذين كانوا يقدرون ذواتهم اعتمادًا على الحنكة التي كانت لديهم في ناموس آبائهم، وجعلوا الناس يصدقون أنهم أصحاب مكانة متميزة أمام الله". كان الالتزام بالمعايير الموسوية الخيار الوحيد للفريسي الملتزم... لم يكن الفريسيون أشرارًا، أو آثمين، أو أوغاد يسببون الانشقاقات، كما يصوّرهم البعض. حتى يسوع نفسه قدم رأيًا كثيرًا ما يتغافله المسيحيون الأمميون. كان ليسوع بعض الأمور الإيجابية التي قالها عن الفريسيين... (مت 23 : 2 ـ 3).. لقد تحدّث عن الفريسيين بشكل عام، لكنه أدرج في كلامه الانتقاد الذي نجده في مصادر تلمودية ضد الأنواع السيئة منهم...
البعض قد يتهكّم على الفريسيين كما لو كانــوا لا يمتلكون أي سمات جيدة. وهذا من الواضح يمثل نظرة مغلوطة في ضوء حقيقة أن يسوع اعترف بقيمة نواياهم، حتى وإن لم ترقَ أفعالهم لمستوى نواياهم"(48).
1ــ رفض الفريسيون الاصطباغ بالصبغة اليونانية وقاوموا الثقافة الهيلينية، وحافظوا على عهد الختان بعكس الصدوقيين ومن شايعوهم الذين تهاونوا فيه.
2ــ آمن الفريسيون بالحياة الآخروية والأرواح والملائكة وخلود الإنسان والقيامة العامة والدينونة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كما آمنوا أن الله يدبر كل شيء، فجميع الأمور في يده، وليس للإنسان يد ولا دور لأن الأمر كله بيد الله، فالله هو وحده الذي يقود مجرى التاريخ فقالوا: "كل شيء سبقــت رؤيته في السماء" (ديفيد أ. دي سيلفا - مقدمة للعهد الجديد ص 106)، فآمنوا بنظرية القدرية بينما رأى الصدوقيون أن الإنسان هو الذي يرسم خريطة حياته.
3ـــ كان الصدوقيون يمثلون الكهنوت، بينما الفريسيون يمثلون العلمانيون الذين تمركزوا حول الناموس، ولم يكتفوا بالناموس المكتوب، بل أضافوا من تقاليدهم الكثير والكثير، وهم يزعمون أن هذه الشريعة الشفهية تسلمها موسى من الله كما تسلم الناموس المكتوب، وكانوا يزيدون من التقليدات بحسب ما يستجد من المواقف الحياتية، فوصفهم "يوسيفوس" بأنهم يمثلون "حزب العقليين"، وقال عنهم "كلاوستر" أنهم "الحزب التقدمي في اليهودية"، وبالغوا في الغسلات حتى أنهم لاموا على التلاميذ وقالوا للسيد المسيح: "لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ" (مر 7 : 5)، أما هـم فإن: "لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ. مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ... وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ" (مر 7 : 3، 4). أما السيد المسيح فقال لهم: "حَسَنًا تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ.." (مر 7 : 6 - 8).
ومن مبالاغاتهم أنهم لا يتناولون أي طعام إلاَّ إذا تأكدوا أنه قد تم تعشيره بالضبط، حتى لو كانت حزمة مـن النعنـع أو الشبت أو الكمون (مت 23 : 23)، وأيضًا لا يأكلون طعامًا إلاَّ إذا تأكدوا أنه قد أُعدَّ في آنية طاهرة مغسولة، ولذلك فهم غالبًا لا يشاركون في موائد غير فريسية، ولا يأكلون مع الخطاة، وإن استضاف فريسي شخصًا في بيته وهو يشك في طهارة ثيابه يهبه ثيابًا طاهرة ليمكث بها في بيته.
4ـــ عاشوا حياة المظهرية والرياء، وهم يشعرون بالفخر والزهو والخيلاء، يطيلون أهداب ثيابهم ليكونوا مميزين عن الآخرين، ويصلون في الشوارع والأزقة ويطيلون الصلوات بهدف كسب مديح الآخرين: "وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ. فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ. وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ. وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ سَيِّدِي سَيِّدِي" (مت 23 : 5 - 7).
5- من مدارسهم مدرسية هليل Halill وشماي Shammai وما حدث بينهما من مشادات، فسجل التلمود 316 اختلافًا بين هاتين المدرستين، فمدرسة هليل تُحلّل أكل البيضة التي وضعتها الدجاجة يوم السبت، بينما مدرسة شماي تُحرم أكلها، والدخول في تفصيلات أخرى مثل هل يحل للإنسان أن يطفئ ملابسه متى اشتعلت فيها النيران يوم السبت، وانتهى الرأي إلى تحليل إطفاء الملابس الداخلية فقط، وتحريم لبس الحلي والأسنان الصناعية وحمل الأطـراف الصناعية وقتــل الهوام لأن كل هذا يكسر وصية حفظ السبت... الـخ ووصف "هليل" بالشيخ الطويل الأناة، الكثير الحلـم، الواسع الصدر، ودُعيَ "هناسي" أي الرئيس، ويرجع نسب هليل إلى نسل داود، ودُعي عشرة من ذريته بنفس الاسم (هليل)، ولاقت مدرسة هليل قبولًا شعبيًا واسعًا، بينما عُرف شماي بالتشدد.
ويقول "عباس محمود العقاد" عن الفريسيين: "وقد جاء عصر الميلاد وهم ينقسمون إلى فريقين: فريق مهما يتبع الحكيم "هلل" الذي قَدِم إلى فلسطين من بابل وهو الفريق السمح الودود في معاملة الأجانب، والفريق الآخَر يتبع الحكيم "شماي" وهو أقرب إلى التحرج والتضييق ورد الراغبين في دخول الدين من غير اليهود، وكان شعار هلل الاعتدال بين الزهد والمتــاع وكلمته المأثورة "أن الزيادة في اللحم زيادة في الداء" وشريعته في المعاملة أن الشريعة كلها كلمة واحدة وهيَ ألاَّ تصيب أحدًا بما تكره أن تُصاب به، وكل ما عدا ذلك من الأحكام المنزَّلة هو تفسير وتفصيل، وأما الحكيم شماي فقد كان الاعتدال بين الزهد والمتاع أكثر مما يطيق، وروي أنه كان يحترف النجارة ويعيش من حسب عمله، وأن غيرته على القديم كانت أقوى من إقباله على التجديد والتصرف في تأويل النصوص"(49).
وقال "هليل": "مُكثر اللحم يُكثر الدود. مُكثر الثروات يُكثر الهجوم. مُكثر النساء يُكثر الشعوذة، مُكثر الإماء يُكثر الفجور، مُكثر العبيد يُكثر النهب، مُكثر التعليم يـزداد حياة، مُكثر الدراسة يزداد حكمة، مُكثر (طلب) المشورة يزداد فهمًا، مُكثر الصدقة يُكثر السلام. من اقتنى اسمًا حسنًا لنفسه اقتناه، ومن حاز على معرفة التوراة حاز على الحيــاة فــي العالـم الآتي (مشن، أبوت 2 : 7)"(50).
وكانت مدرسة شماي أو شمعي هيَ الأكثر تدقيقًا، أما مدرسة هليل فهيَ الأكثر مرونة، وعندما منع السيد المسيح الطلاق إلاَّ لعلة الزنا، فهذا كان يتوافق مع مدرسة شماي الأكثر تدقيقًا، ثم جاء بعد ذلك "غمالائيل" فكان أكثرهم تعقلًا، وإسماعيل كان أكثرهم تشددًا، وكان كل من يفتي بفتوى جديدة كان عليه أن يذكر المصدر الذي اعتمد عليه في فتواه إذا كان هليل أو شماي أو غمالائيل أو إسماعيل.
ويقول "الأب إميل عقيقي": "حدث أيضًا أن جاء غريب إلى شمّاي قائلًا له: هوّدني شرط أن تعلمني التوراة بكاملها وأنا واقف على رجل واحدة. فصرفه بالعصا التي في يده. جاء إلى هيلل مهوَّده. قال له: "ما تكرهه لنفسك لا تصنعه لقريبك". هذه هي التوراة بكاملها، والباقي هو تفسير، أذهب وتعلَّم... " (تل با، شبّت 31 أ)(51).
اكتسب الفريسيون ثقة الشعب واحترامه وتقديسه بسبب علمهم الغزير، وتمسكهم الشديد بالشريعة، ومقاومتهم للثقافة اليونانية، فكان الصدوقيون في خلاف دائم معهم، بينما شايعهم الكتبة وتآلفوا معهم، بل أن بعض صغار الكهنة من الصدوقيين ساروا في ركاب الفريسيين، فصار للفريسيين سطوة وسلطة أدبية بين الشعب، ويقول "الدكتور القس فهيم عزيز": "وفي بداية العهد الجديد ظهر الفريسيون كجماعة لها سلطانها الطاغي على مستوى الأمة كلها، فقد كانت لها السيطرة داخل السنهدريم وخارجه، ومع أن الصدوقيين المنافسين لهم والهرودسيين كانت لهم السلطة السياسية في الأمة إلاَّ الروح الفريسية كانت قد امتلكت الشعب"(52).
يقول "ألفريد أيديرشيم": " لقد كان من الصعب علينا أن نتقدَّم كثيرًا في الجليل وفي اليهودية دون أن نلتقي بشخصية غريبة ومؤثرة تختلف عن كل من حولها وسرعان ما تستولي على كل التفاتنا. هذه الشخصية هيَ الفريسي Pharisee وسـواء تودَّدنا إليه أم خُفناه، سواء نفرنا منه أو داهناه، سواء احترمناه أم سخرنا منه... ننظر إلى الفريسي وهو يجول خلال الجمهور الذي إما أن يفسح له الطريق باحترام أو يتتبعه بنظراته بروح الاستطلاع، أما هو فيبدو غير متأثر بتاتًا باحترامهم أو حُب استطلاعهم... فإذا سرت وراءه لرأيته يقف من حين لآخر ليتلو صلواته الرسمية، فإذا حل ميعاد الصلاة وقف فجأة في وسط الطريق ليتلو جزء منها ثم يستأنف سيره ويتلو جزء آخر وهكذا، لا يكون هناك شك في أن غرضه إظهار عبادته في الأسواق وزوايا الشوارع... وإن كان حامل الأحمال يضع أحماله... ولا يجب أن يكون هناك ما يقاطعه أو يقلقه، وقيل أن تحية ملك لا تُرَد بتاتًا، لا بل أن التفاف ثعبان حول كعب أحد ما كان ليثير اهتمامه. ولم تكن أوقات الصلاة الوضعية وحدها هيَ التي تستدعي كل اهتماماته وتقواه بل كان يكرر ذلك عند دخوله أي قرية أو عند خروجه منها... ويتم نفس الشيء عند مروره في حصن، أو في مواجهة خطر، أو مقابلة شيء جديد أو غريب أو جميل أو غير منتظر، وكلما طالت صلاته كان ذلك أفضل"(53).
عندما رأى الفريسيون تمسك السيد المسيح بالناموس وإعلانه التمسك به والدفاع عنه، حتى أنه قال أن السماء والأرض تزولان ولا يزول حرف واحد ولا نقطة واحدة من الناموس، قبلوه وأرسلوا إليه يستوضحونه عن فحوى رسالته، وربما حاول بعضهم أن يكسبه لصفوفهم، والبعض مثل سمعان الفريسي دعاه إلى بيته، ولكن إذ رأوا شعبية السيد المسيح تطغى على شعبيتهم، وأنه يجلس مع العشارين والخطاة، ويُعلّم كمن له سلطان وليس مثلهم ولا مثل الكتبة، ويطرد الأرواح الشريرة، بدأوا يشعرون بالغيرة منه والتشكيك في رسالته: "قَالُوا هذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ" (مت 12 : 24).. "وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ" (مت 19 : 3).. "حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ... مَاذَا تَظُنُّ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ" (مت 22 : 15، 17) واتهموه أنه يكسر السبت وأكتمل رفضهم له ومحاولتهم الانقضاض عليه عندما أعلن عن لاهوته، أنه ابن الله، الكائن قبل إبراهيم، وأيضًا عندما صبَّ عليهم الويلات (مت 23 : 2 - 32)، فقال أنهم يعملون بغير ما يعلّمون (ع 3) وأن أعمالهم مظهرية (ع 5)، ويعشقون المجد الباطل ومديح الناس لهم (ع 6، 7)، ويغلقون ملكوت السمــوات قدام الناس (ع 13)، ويأكلون بيوت الأرامل ويطيلون الصلوات (ع 14)، ويحاولون اقتناص النفوس لهم ومن يقتنصونه يصيّرونه ابنًا لجهنم (ع 15)، ويفسّرون الوصايا كما يحلو لهم (ع 16 - 22)، وفي ريائهم يعشرون النعنع والشبت والكمون ويتركون الحق والرحمة والإيمان (ع 23)، وأنهــم قــادة عميان (ع 24)، وينقون خارج الكأس والصحفة ومن داخل مملوءان اختطافًا ودعارة (ع 25، 26)، وأنهم يشبهون القبور المبيضَّة فيظهرون للناس على أنهم أبرار ومن الداخل مشحونين رياءً وإثمًا (ع 27، 28)، فهم أبناء قتلة الأنبياء ويكملون مكيال آبائهم (ع 29 - 32).
وكان الفريسيون ينتظرون المسيا ابن داود المولود في بيت لحم لكي يخلّص البلاد من المستعمر الروماني، ويرفع مملكة إسرائيل فوق كل ممالك الأرض، وكانوا يدركون جيدًا أن المسيا لا بد أنه سيولد في بيت لحم بحسب نبوة ملاخي النبي، حتى عندما دافع نيقوديموس عن السيد المسيح: "أَجَابُوا وَقَالوُا لَهُ أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ. فَتِّشْ وَانْظُرْ إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِــنَ الْجَلِيلِ " (يو 7 : 52).. "أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ"(يو 7 : 42)، وعندما جاء المسيا وأعلن محبة الله للجميع حتى للخطاة، رفضه الفريسيون، وعندما صنع قوات شفاء وعجائب يوم السبت ظنوه أنه يحطم وصية السبت، وبهذا بدأوا يتآمرون عليه، وحتى بعد صلبه وقيامته لم يشفي هذا غليل الفريسيين، بل راحوا يضطهدون أولاده في الكنيسة الأولى اضطهادًا قاسيًا.
_____
(47) ترجمة د. عادل زكري - الطوائف اليهودية في زمن كتابة العهد الجديد ص 16، 17 .
(48) ترجمة عادل زكري - الطوائف اليهودية في زمن كتابة العهد الجديد ص 17-20 .
(49) حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث ص 45.
(50) أورده الأب إميل عقيقي - مدخل إلى الأدب الرابيني ص 58، 59.
(51) أورده الأب إميل عقيقي - مدخل إلى الأدب الرابيني ص 59.
(52) المدخل إلى العهد الجديد ص 31.
(53) صور من الحياة الاجتماعية اليهودية في أيام المسيح ص 162، 163.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/15.html
تقصير الرابط:
tak.la/gvvkwf5