ويقول دكتور محمد بيومي عن إله التوراة " يصوّره سفر الخروج كذلك ليس معصومًا، وأنه كثيرًا ما يقع في الخطأ، ثم سرعان ما يندم على خطئه، حدث ذلك عندما فكر في إهلاك اليهود عن بكرة أبيهم، مما أضطر موسى أن ينصحه فينتصح. بل أن موسى ليتخذ منه موقف المرشد والمعلم، فمن ذلك أن يهوه غضب على بني إسرائيل وقال لموسى {فالآن أتركني أحمي غضبي عليهم وأفنيهم} ولكن موسى يستثير فيه العواطف الطيبة ويأمره أن يفترض فيما يقوله الناس عنه إذا ما سمعوا بفعلته هذه {لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض. أرجع عن حمو غضبك وأندم على الشر بشعبك} وهنا يضطر الرب أن يتراجع عن وعيده {فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه}"(2).
ويقول الدكتور مصطفى محمود تعليقًا على ندم الله " ولا ينجو موسى ولا رب موسى من التلطيخ... فها هو موسى يتوسل إلى الرب حينما رآه غضبان لعودة قومه إلى عبادة الأصنام {لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك... أرجع يا رب عن غضبك وأندم عن الشر بشعبك. فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه}.. لغة لا يمكن أن تصدر عن نبي يعرف مقام ربه ورأى منه خوارق المعجزات، فيقول {يا رب أندم على غضبك} ورب عجيب... ما يلبث أن يندم على ما فعل"(3).
ج: 1- يقول أحد الآباء الرهبان بدير مارمينا العامر " هذا السؤال فيه فهم خاطئ للنص، فهو لا يعني إفناء بني إسرائيل، وفي نفس الوقت يصيرّهم شعبًا عظيمًا، لكن الوعد كان لموسى "فأصيرك شعبًا عظيمًا" في المستقبل، وأيضًا لم يهدد موسى الله بالاستقالة -كما ورد في السؤال- بل طلب من الرب " أمحني من كتابك " وبالتالي فلا يكون الرب خاف من هذا التهديد، لأن النبي لم يهدد، وبالتالي فلا مكان لكل من السؤالين(4):
- هل كان الله سيعجز عن اصطفاء نبيًا آخر غير موسى؟
- وهل لم يكن في مقدور الرب أن يجبر موسى على إكمال رسالته؟"
2- قال الله لموسى " أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم. فأصيرك شعبًا عظيمًا" والله قادر على فعل هذا، أي أنه قادر على إفنائهم بالكامل، وأن يأخذ موسى ويباركه مع زوجته فينمو ويكثر ويثمر، وبعد عدة مئات من السنين يصير شعبًا عظيمًا، وهذا أمر ليس غريبًا، فقد فعل الله هذا من قبل مع إبراهيم إذ باركه فصار نسله مثل نجوم السماء ورمل البحر، فبالإضافة إلى بني إٍسرائيل فإن هناك نسل إسماعيل، وأيضًا نسل عيسو بني أدوم، وكل هؤلاء جاءوا من صُلب إبراهيم.
3- كانت هناك دالة عظيمة بين الله وبين موسى رئيس الأنبياء، والله يعرف جيدًا قلب موسى ومدى تعلقه بشعبه، فلم يرد الله أن يفعل شيئًا يضايق عبده موسى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لذلك طلب الله من عبده موسى أن يوافقه الرأي على إفناء هذا الشعب العنيد القاسي، وموسى في محبته ظل يتشفع لشعبه أمام الله " فتضرَّع موسى أمام الرب إلهه. وقال لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة. لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض. أرجع عن حمو غضبك وأندم على الشر بشعبك. أذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب عبيدك الذي حلفت لهم بنفسك وقلت لهم أكثّر نسلكم كنجوم السماء" (خر 32: 11 - 13) وفي اليوم التالي ترآى موسى أمام الله وأخذ يستعطفه لكيما يعفو عن شعبه، حتى أنه قال " والآن إن غفرت خطيتهم. وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32) فهكذا هي اشتياقات الرعاة الأمناء نحو رعيتهم، وهذا ما كرَّره بولس الرسول لأجل محبته لشعبه بني إسرائيل فقال "فأني كنت أودُّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 3).
4- واضح من حوار موسى مع الله أن موسى يستميت من أجل استصدار قرار العفو الإلهي عن شعبه، فهو لم يكن يتحدى الله ولم يُهدّده بالاستقالة، إنما كان يستخدم كل وسيلة للوصول إلى هدفه، والله في محبته لعبده موسى أعطاه سؤل قلبه.
5- يقول أبينا الحبيب القمص تادرس يعقوب " طلب الله من موسى أن يتركه ليحمى غضبه عليهم فيقتلهم (ع 10) ويصيّره شعبًا عظيمًا، ولكن القلب الأبوي رفض أن يترك شعبه - مهما بلغت قسوة قلوبهم - بل تشفع فيهم بقوة (ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الفرصة سنحت لموسى النبي ليتخلص من هذا الشعب القاسي العنيد بأمر ألهي، لكنه كراع قديس وأب محب لم يحتمل ولا قَبِل أن يتخلى عن أولاده الضعفاء ليبحث عن أولاد آخرين. هذا ما يليق براعي النفوس).. وبقيت هذه الشفاعة ينبوعًا حيًا يستقي منه الرعاة والخدام الحب الأبوي إلى يومنا هذا، وفيما يلي تعليقات الآباء على هذه الشفاعة... (لقد هدَّد الله الشعب الذي داس المقدسات، لكن قلب موسى اللطيف أرتعب، معرضًا نفسه لغضب الله بسببهم... بهذا نظر إلى عدل الله ورحمته في نفس الوقت. فبكونه عادلًا لا يهلك الإنسان البار (أي موسى) وبكونه رحيمًا يغفر للخطاة... (لقد صنع موسى عجائب وآيات كثيرة عظيمة، لكن أمر واحد جعله عظيمًا هكذا، هو حديثه الطوباوي مع الله قائلًا: إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني).. يقول القديس أغسطينوس (إذ عرف أنه يفعل ذلك أمام الرحيم الذي لن يمحُ أسمه قط إنما يغفر له لأجله)"(5).
6- يقول القديس أمبروسيوس " كلما عظمت الخطية استلزمت صلوات أكثر الناس جدارة بالصلاة، لأنه لم يكن واحد من عامة الناس هو الذي صلى من أجل الشعب اليهودي، بل موسى، عندما تركوا عهدهم وعبدوا العجل. فهل كان موسى مخطئًا؟ بكل تأكيد لم يكن مخطئًا في صلاته، فقد كان مستأهلًا لذلك وحصل على ما طلبه. لأنه كيف ينال طلبته من له حب كهذا الذي وضع نفسه لأجل الشعب قائلًا " والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتاب الحياة " فنرى أنه لم يفكر في نفسه... ولكنه بالحري إذ كان يفكر في الآخرين متناسيًا نفسه، لم يكن خائفًا من أن يخطئ من أجل أنه ينقذ ويحرر الشعب من خطر الأذى"(6).
7- يقول القديس كيرلس الأورشليمي " حتى خطية الشعب كله لم تبطل رحمة الله. فالشعب صنعوا عجلًا، ولكن الله لم يترك لطف محبته، البشر أنكروا الله، ولكن الله لم ينكر نفسه "هذه آلهتك يا إسرائيل" هكذا قالوا، ومع ذلك فإله إسرائيل كعادته، صار مخلصهم. ولم يكن الشعب وحده هو الذي أخطأ، ولكن هارون أيضًا " رئيس الكهنة". لأن موسى قال "وعلى هرون غضب الرب جدًا ليبيده. فصليت أيضًا من أجل هارون" (تث 9: 20) فسامحه الله"(7).
8- يقول أحد الآباء الرهبان بدير القديس أنبا مقار "يا لتواضع الرب ولطفه وتباسطه مع قديسيه!! ولكن الحقيقة أن الله ممسوك أساسًا بحبه الشديد للإنسان وطول أناته عليه، لأنه عارف بضعف الإنسان، كما أنه لا يمكن أن ينسى عهده مع عبيده الأوفياء إبراهيم وإسحق ويعقوب، والقسم الذي أقسم لهم أن يُكثر نسلهم كنجوم السماء ويعطي نسلهم أرض الميعاد"(8).
9- يقول الأرشيدياكون نجيب جرجس " أن موسى في هذا كان راعيًا ورئيسًا مثاليًا، لم يكن مثل القادة الأنانيين الذين يرضون أن يعيشوا على أنقاض شعوبهم... أبدى موسى استعداده لأن يقدم نفسه كفارة، ولم يقبل الرب كفارته بل صفح عن الشعب لأجل محبته لشعبه وصلاته لأجلهم"(9).
10- أما قول الكتاب " فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه" (خر 32: 14) فقد سبق الرد على هذا التساؤل باستفاضة(10) ونورد هنا رد القس صموئيل مشرقي على الدكتور مصطفى محمود حيث يقول " أما تأسُّف الله فلا يعني تغيير فكره أو قصده، وإنما هو مجرد تعبير بشري ليس أكثر غرابة من غيره، فيه يخاطبنا بلغتنا تنازلًا منه لضعفاتنا فليس في قول موسى للرب " يا رب أندم " اندفاع غريب يدل على تجاهله لمقام ربه بعد أن رأى خوارق معجزاته، إذ لا يقصد به التوبة أو تغيير الفكر كما سلف الذكر، وإنما هو يعني الاستجابة لتوسلات الإنسان أو إظهار الشعور الإلهي باللغة التي تناسب فهم المخلوق البشري ولذلك فقد ندم الرب فعلًا أي استجاب لتوسلات موسى، ولذلك فأن الندم هنا ليس على المعنى المألوف لأن الكتاب المقدَّس يذكّرنا مرارًا حتى عند استعماله كلمة الندامة بأنه لا يراد بها معناها الحرفي بقوله " ليس الله إنسانًا فيكذب. ولا ابن إنسان فيندم" (عد 23: 19)"(11) وإن ما حدث بين موسى والله كان له هدفًا تربويًا وحكمة إلهية، فهوذا الله يعلم الشعب أنه يمكنه أن يتجنب الغضب الإلهي بالتوبة والشفاعة.
_____
(1) البهريز جـ 1 س81، س323، س480.
(2) تاريخ الشرق الأدنى القديم - تاريخ اليهود ص 240.
(3) التوراة س 21، 22 .
(4) من إجابات أسئلة سفر الخروج.
(5) تفسير سفر الخروج ص 213، 214.
(6) شرح سفر الخروج ص 711.
(7) شرح سفر الخروج ص 710، 711.
(8) المرجع السابق ص 707.
(9) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر الخروج ص 365.
(10) راجع إجابة س411 مدارس النقد جـ 5.
(11) مصادر الكتاب المقدَّس ص 118.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/704.html
تقصير الرابط:
tak.la/ndkg9vf