س 1656 : هل الرب يقف بعيدًا في وقت الضيق: " يا رب لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ" (مز 10 : 1)، أم أن الرب قريب لمن يدعوه كقول موسى النبي (تث 4 : 7)، وكقول داود النبي (مز 145 : 18)، وكقول المُرنّم: "اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ... عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا" (مز 46 : 1)؟
ويقول "د. حسن الباش": " وفي المزمور 10: نجد النفَسْ التوراتي يطغى على المعاني بحيث نرى الله إلهًا مزاجيًا يغيب متـى يشاء ويظهر متى يشاء، يقول: لماذا تقف يا رب بعيدًا. وفي زمن الضيق تحتجب" (128).
ج : 1ــ بادئ ذي بدء نقول أن الله مالئ كل مكان ولا يخلو منه مكان ولا زمان، فهو الكائن في كل مكان وزمان على الأرض وفي السموات، قال بلسان إشعياء النبي: " السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ" (إش 66 : 1)، وقال بلسان إرميا النبـي: " أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ يَقُولُ الرَّبُّ" (إر 23 : 24) (راجع مز 139 : 7 - 10). ففي الحقيقة أن الله قريب جدًا من كل إنسان، قريب من الإنسان المسكين ليعضده ومن الإنسان الفاجر ليجازيه، وفي نفس المزمور العاشر أوضح المُرنّم هذه الحقيقة، فيقول: " قَدْ رَأَيْتَ لأَنَّكَ تُبْصِرُ الْمَشَقَّةَ وَالْغَمَّ لِتُجَازِيَ بِيَدِكَ... أَنْتَ صِرْتَ مُعِينَ الْيَتِيمِ. اِحْطِمْ ذِرَاعَ الْفَاجِرِ... الرَّبُّ مَلِكٌ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. تَأَوُّهَ الْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يا رب. تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ. تُمِيلُ أُذُنَكَ" (مز 10 : 14 - 17)، فالرب قريب يرى ويبصر ويجازي ويعين اليتيم ويحطم ذراع الفاجر، فهو ملك إلى الأبد، يسمع تأوه الودعاء ويثبت قلوبهم ويميل أذنه ويسمعهم، وبنفس المعنى قال داود النبي: " قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ" (مز 34 : 18).
2ــ الله هو بعيد وقريب في آن واحد، يراه الأبرار قريبًا منهم يسكن في قلوبهم ويستريح، ويراه الأشرار بعيدًا عنهم يقف لهم بالمرصاد كديان عادل، رآه موسى النبي قريبًا فقال: " لأَنَّهُ أَيُّ شَعْبٍ هُوَ عَظِيمٌ لَهُ آلِهَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْهُ كَالرَّبِّ إِلهِنَا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِنَا إِلَيْهِ" (تث 4 : 7) ولكن حسرة على هذا الشعب العظيم الذي أخرجه الله من مصر بيد قوية وذراع رفيعة وشق أمامه مياه البحر العميقة وأخرجه إلى البرِّيَّة وعاله في البرِّيَّة أربعين سنة، لأنه سيرتد عن إيمانه فيبتعد الله عنه، وهذا ما أخبر به الله موسى قبيل وفاته: " وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى هَا أَنْتَ تَرقُدُ مَعَ آبَائِكَ فَيَقُومُ هذَا الشَّعْبُ وَيَفْجُرُ وَرَاءَ آلِهَةِ الأَجْنَبِيِّينَ... فَيَشْتَعِلُ غَضَبِي عَلَيْهِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَأَتْرُكُهُ وَأَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُ" (تث 31 : 16، 17)، فالذي يسجد أمام الأصنام مسكن الشياطين كيف يستطيع أن يتمتع بقرب الله منه؟!! بالقطع لن يرى في الله إلاَّ غضبًا مشتعلًا، ووجهًا محجوبًا.
وداود النبي الذي قال: " الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ" (مز 145 : 18) هو الذي صرخ في موضع آخر قائلًا: " إِلَى مَتَى يا رب تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ. إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي. إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُومًا فِي نَفْسِي وَحُزْنًا فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ. إِلَى مَتَى يَرْتَفِعُ عَدُوِّي عَلَيَّ" (مز 13 : 1، 2) وتجاوبت مع هذه الصرخة، صرخة المُرنّم: " اِسْتَيْقِظْ. لِمَاذَا تَتَغَافَى يَا رَبُّ. انْتَبِهْ. لاَ تَرْفُضْ إِلَى الأَبَدِ. لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَنْسَى مَذَلَّتَنَا وَضِيقَنَا" (مز 44 : 23، 24).. " لِمَاذَا يا رب تَرْفُضُ نَفْسِي. لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي" (مـز 88 : 14)، والحقيقة أن الإنسان هو الذي يقترب أو يبتعد عن الله، بينما الله دائمًا يدعو الإنسان للاقتراب إليه "هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. ارْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ" (زك 1 : 3). إذًا ليس الله هو الإله المزاجي كقول د. حسن الباش، بل أن الإنسان هو الذي يسير بحسب مزاجه وهواه، فزمام الأمر في يده إن شاء اقترب وإن شاء ابتعد، بينما الله ثابت في موقفه، ولذلك قال الكتاب: " اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ" (يع 4 : 8) ولخص إشعياء النبي الموضوع في قوله: "هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ" (إش 59 : 1، 2).
وأيضًا عندما يجوز الإنسان في التجارب يشعر وكأن الله قد حجب وجهه عنه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فعندما يمسك الجرَّاح بمبضعه ويستأصل كل ما هو فاسد مـن جسد المريض، يتألم المريض ويصـرخ: " لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَحْسِبُنِي عَدُوًّا لَكَ" (أي 13 : 24).. هكذا كانت صرخات أيوب وهو يجوز في آتون التجارب، وهو يظن أن الله قد حجب وجهه عنه، بل قد حسبه عدو له، بينما عينا الله تراقبان أيوب بدقة حتى لا يحترق بنيران التجارب ويفنى إيمانه.
3ـ عندما قال المُرنّم: " يا رب لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ" كان يستدر مراحم الله وتعطفاته، إذ يتضرع إليه ليكون بجواره في أزمنة الضيق يعينه ويسانده ويعضده، فالضيق يشتَّد بالإنسان كلما شعر أن الله يحجب وجهه عنه، فيشعر أنه وحيد تائه في وادي الظلمات، تلاطمه أمواج الكآبة والأنين وصغر النفس، وفي لحظات ضعف الإيمان يشعر الإنسان وكأن الله قد تخلى عنه، فيزداد حزنه، وجاء في "التفسير التطبيقي": " كان الله يبدو للمرنّم بعيدًا جدًا، فسأل الله: لماذا تقف بعيدًا وتحتجب في أزمنة الضيق؟ (أي عندما أكون في أشد الاحتياج إليك؟). ولكن مع أن شكوكه ربما كانت صادقة، إلاَّ أنه لم يكف عن الصلاة، أو يفترض أن الله لم يعد يهتم. فهو لم يكن يشكو، بل يسأل الله ببساطة أن يسرع إلى معونته. ففي الأوقات التي نشعر فيها بالوحدة الرهيبة، أو الضيق الشديد. فإننا نحتاج أن نستمر في الصلاة، مستعرضين أمام الله كل متاعبنا" (129).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": " الله لا يتخلى قط عن قديسيه أثناء ضيقهم، لكن المؤمن أحيانًا إذ ينتظر التعزية الإلهيَّة طويلًا يبدو له وسط آلامه كأن الله يقف صامتًا، أو كأنه يقف بعيدًا، فيصرخ متسائلًا: " يا رب لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ ". بلا شك أن حضور الله هو مصدر الفرح والتعزية لشعبه. أما الشك في حضوره فيسبب قلقًا وفقدانًا للسلام الداخلي. وإن كان البعض يرى في تساؤل المرتل عتاب حب واعتراضًا مقدَّسًا ورعًا... فإن ما يحطم نفسية المؤمن ليس وجود شدائد أو الدخول في أزمنة الضيق، وإنما الشعور باِختفاء الله وحجب وجهه عنه" (130).
4ــ قال المُرنّم: " اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا" (مز 46 : 1)، وهذا المزمور كُتب غالبًا بمناسبة نجاة أورشليم من جيش سنحاريب نحو سنة 701 ق.م، حيث قتل ملاك الرب 185 ألفًا من جيش سنحاريب (2مل 19، إش 37)، فتغنى بنو قورح قائلين أن الله فعلًا "عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا. لِذلِكَ لاَ نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ الأَرْضُ وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ" (مز 46 : 21)، فعندما هاجمت جحافل الجيش الأشوري أورشليم وامتلأت قلوب أهلها بالفزع وكأن الأرض تزلزلت والجبال اهتزت من صيحات جنود العدو وحوافر خيلهم، لكن الله كان دائمًا هو الأقوى " وَيُقَالُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ هُوَذَا هو إِلهُنَا انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا. هذَا هُـوَ الرَّبُّ انْتَظَرْنَاهُ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِخَلاَصِهِ" (إش 25 : 9).
5ــ تعليقًا على (مز 145 : 18) يقــول "القس وليم مارش" عن الله: " وهو إله متنازل قريب في متناول كل إنسان على شرط أن يكون ذلك الإنسان يدعوه بالحق ويخلص في دعواه من كل قلبه. لأنه يوجد أناس يدعون ولكنهم مراؤون يفعلون ذلك وقت مسيس الحاجة. ثم بعد ذلك ينسون الله ولا يذكرونه أبدًا. وهنا يشير إلى تلك الصَّلاة الحقيقية الخارجة من أعماق القلب والمعبرة عن نوايا الإنسان وأفكاره الداخلية وليس مجرد ما يدعيه (راجع إش 21 : 13). يجب أن تكون الصلاة بإيمان وحرارة واتكال حتى يستجيب الله حسب قصده وليس حسب ما يشاؤه الإنسان ذاته" (131).
_____
(130) تفسير المزامير جـ 1 ص 193، 194.
(131) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 443.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1656.html
تقصير الرابط:
tak.la/a3gj75d