س 1646 : جاء في الترجمة البيروتية: " اِرْتَعِدُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَاسْكُتُوا. سِلاَهْ" (مز 4 : 4)، وجاء في الترجمة القبطية: " أغضبوا ولا تخطئوا الذي تقولونه في قلوبكم أندموا عليه في مضاجعكم" (مز 4: 4).. فهل الكتاب المقدَّس يُحرّض على الغضب بقوله: " أغضبوا ولا تخطئوا" تارة، وتارة أخرى يقول " أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ" (رو 12 : 19)؟. ثم لماذا الاختلاف في الترجمــات إلى هــذا الحـد؟!، وأيهما الصحيح " اِرْتَعِدُوا" أم " أغضبوا" ولا يخفى عن كل ذي عين الفارق الكبير بين الارتعاد والغضب، وما معنى كلمة " سِلاَهْ"؟
ج : 1ــ الغضب يعتبر غريزة طبيعية في الإنسان، ولم تمنع شريعة العهد القديم الإنسان من الغضب، إنما منعت الغضب المنفلت الذي يؤدي للإساءة للغير أو إيقاع الأذى به، وعندما قال داود النبي: " أغضبوا ولا تخطئوا" فقد حذر من الأخطاء المترتبة على الغضب.
2ـ جاءت شريعة العهد الجديد وأكدت الناموس فمنعت الغضب الباطل، ولذلك قـال السيد المسيح: " كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ" (مت 5 : 22)، وقال الكتاب: " كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ" (1يو 3 : 15)، وعندما قال الكتاب: " لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ" (رو 12 : 19)، فالمعنى واضح أن يحض على الصبر وطول الأناة، وليس كما قال الناقد أنه يُحرّض الإنسان على الغضب، وقال بولس الرسول: " اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ" (أف 4 : 26).
3ــ هناك غضب مقدَّس، فعندما رأى موسى شعبه يعبد العجل الذهبي وقد تعرى غضب جدًا حتى أنه طرح لوحي الحجارة اللذان استلمهما من الرب، وكأنه يقول لشعبه أنتم قد كسرتم الوصايا الإلهيَّة، وأمر اللاويين أن يقتلوا كل إنسان متمسك بزناه، فقتلوا ثلاثة آلاف رجل، والرب لم يعاقبه على هذا ولم يعاتبه، وغضب شاول عندما علم بتهديد ناحاش العموني الذي أراد أن يقوّر عيون أهل يابيش جلعاد، وحمى غضبه وقطَّع البقر الذي معه، وقال هكذا يفعل ببقر من لا يخرج وراء شاول وصموئيل، وفي هذا لم يخطئ. وغضب بطرس الرسول على سيمــون الساحر: " فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ" (أع 8 : 20). وغضب بولس الرسول على بار يشوع: " وَقَالَ أَيُّهَا الْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ خُبْثٍ! يَا ابْنَ إِبْلِيسَ! يَا عَدُوَّ كُلِّ بِرّ! أَلاَ تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةَ. فَالآنَ هُوَذَا يَدُ الرَّبِّ عَلَيْكَ، فَتَكُونُ أَعْمَى لاَ تُبْصِرُ الشَّمْسَ إِلَى حِينٍ" (أع 13 : 10، 11).." وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا احْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا" (أع 17 : 16).
وعندما يغضب الإنسان على نفسه عندما يرتكب خطأ معين، فهذا نوع من الغضب المقبول، والغضب هنا يمثل كلاب الراعي التي لا تنبح على الراعي بل على اللصوص والذئاب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. هكذا ينبح الغضب على الشهوات والخطايا التي تقاتل النفس، وقيل من يغضب من أجل ذاته فأنه يخطئ، أما من يغضب دفاعًا عن إنسان مظلوم مطحون، ويغضب من أجل فضيلة تداس بالأقدام فهو غضب غير مزموم، ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": " كونك تغضب ليس خطيَّة، إنما الخطيَّة هيَ أن تغضب بلا سبب، لهذا قال النبي: {أغضبوا ولا تخطئوا}" (94).
ويقول "القديس أُغسطينوس": " أي شيء أكثر برًا من أن يغضب كل أحد على خطاياه الخاصة أكثر من خطايا الآخرين، فأنه إذ دين نفسه يقدم ذبيحة لله" (95).
ويقول "الراهب القس أوغريس السرياني": " ينصح المُرنّم الإنسان عند إحساسه بحركات مضادة للشريعة وهيجان آلامه الشهوانية، بأن يغضب على طبيعته البشرية الفاسدة ومقاومة ميوله المنحرفة، لأن في الاستجابة لها الهلاك الأبدي. يطلب مقاومة الأفكار الشريرة كمقاومة الأعداء لئلا يخطئ الإنسان بتراخيه وإهماله اللذين هما جرثومـة الخطايـا جميعها" (96).. كما يقول أيضًا: "هب لي أيها الحب الإلهي أن أغضب ولا أخطئ. أغضب لا على أخوتي بل على خطاياي. فأدين نفسي. قدّس أيها الحب غضبي" (97).
4ــ الكلمة العبرية التـي تُرجمت إلـى "ارتعدوا" يمكن أيضًا أن تُترجم إلى "أخطئوا" ويقول "ديريك كيدنر": " ارتعدوا وقد تُرجمت أيضًا " اغضبوا " كما في (أف 4: 26)، وكما ترى الترجمة السبعينية في هذه الآية أيضًا حيث توضح أن ذلك لا ينبغي أن يكون غضبًا خاطئًا... وإذ يقول داود " تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَاسْكُتُوا أي فكروا في قلوبكــم على مضاجعكم معتصمين بالصمت فإذ بولس يذهب أبعد من ذلك فيقول: {لا تغرب الشمس على غيظكم}" (98).
ويقول "لزلي مكاو": " لربما استهان هؤلاء الناس بالملك وثاروا عليه لكن عليهم أن يأخذوا في الاعتبار أن لله دخلًا في الموضوع. إذًا فليرتعدوا أمام الرب ولا يخطئوا (أي ليبتعدوا عن ارتكاب الخطأ ضده). وليوقظ كل منهم ضميره، ثم في سكون الليل وساعات التأمل الهادئة ليأخذوا قــرارًا بالسكـوت (واسكتوا) أي ليتوقفوا عن التمادي في مقاومة الملك المختـار من الله، والكلمة "ارتعدوا" في الترجمة السبعينية واردة "اغضبوا" (قارن أف 4 : 26)" (99).
5ــ سبق الحديث عن كلمة " سلاه" فيُرجى الرجوع إلى إجابة س 1631.
_____
(94) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير المزامير جـ 1 ص 103.
(95) المرجع السابق ص 103.
(96) تأملات في سفر المزامير جـ 1 ص 32.
(99) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 3 ص 83.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1646.html
تقصير الرابط:
tak.la/r7jx8d9