قال بعض النُقَّاد أن أبناء الله هم أبناء آدم وحواء، لأن آدم خُلِقَ على صورة الله، ودُعي ابن الله. أمَّا بنات الناس فهم بنات آدم من الجن أو حواء من الجن، فيقول "د. محمد علي البَار": "ويُرفع الستار، فإذ نحن بمشهد غريب أبناء الله مجتمعون مع الرب... وقد أسلفنا القول في أبناء الله هؤلاء وأنهم حسب مفهوم أحبار اليهود الذين حرَّفوا التوراة وألَّفوا أسفار العهد القديم هم: أبناء آدم من حواء، وآدم هو ابن الله. تعالى الله عن ذلك... خلقه على صورة الله وشبهه تمامًا!! -أعوذ بالله- وبما أنَّ آدم كان له عشيقة من الجن اسمها " ليليت " عاشرها 130 سنة وأنجب منها أولادًا، وبما أن حواء كانت لها عشاقًا كثيرين من الجن وأنجبت منهم أولادًا أيضًا، فإن أولاد الجن من حواء وآدم ليسوا أبناء الله... وحدث أن أبناء الله -أي أبناء آدم وحواء- تزوجوا من بنات الناس -أي بنات الجن من حواء وآدم- فوُلد لهم الجبابرة الذين هم منذ الدهر ذوو اسم، كما يقول سفر التكوين من التوراة المحرَّفة... وتطلق أسفار العهد القديم أحيانًا لقب بنو الله أو بنات الناس على الملائكة؟!!"(1).
ويقول " إبراهيم ناصر": "نُبَلَّغ هنا باجتماع بينهم غريب... بنو الله يمثُلُون أمام الرب... من يكون بنو الله هؤلاء؟ ما علاقتهم بالرب؟ وما الغاية من هذا الاجتماع؟ أين كان هذا الاجتماع؟ في موضع إقامة الرب!.! والسؤال الأخير: كيف تسنى للراوي أن يعرف ما دار بينهما من نقاش؟ هل رواها الرب لموسى؟ معنى هذا أنها حصلت قبل عصر موسى... أين؟ ومتى؟"(2).
ج: 1- لم يكن لآدم أو حواء عِشْرة مع الجن، لم يأت أي ذكر لهذا في سفر التكوين أو غيره من الأسفار المقدَّسة، فمن أين جاء الناقد باسم "ليليت"؟! لماذا لم يشر للمصدر الذي استمد منه هذه الشطحات الخيالية؟ كما إننا كمسيحيين بل واليهود أيضًا، لا نعترف بوجود كائن اسمه "الجن" يتزوج من بني البشر ويتناسل منهم، إنما نعترف بوجود الملائكة وإن طائفة منهم سقطت فدُعيت بالشياطين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وإن كانوا قد فقدوا رتبتهم إلاَّ أنهم لم يفقدوا قوتهم، ونعرف تمامًا أن سفر التكوين عندما قال: "أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا" (تك 6: 2) فإن الكتاب كان يقصد بأبناء الله أبناء شيث بن آدم الذي أرضى الرب، ودُعيَ بِاسم الرب (تك 4: 26) وبنوة آدم أو أبناء شيث لله بنوة بالتبني عن طريقة الخلقة، وقال الله في العهد القديم: "أَنْتُمْ أَوْلاَدٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ. لاَ تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ وَلاَ تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيْتٍ. لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا" (تث 14: 1، 2). أمَّا بنات الناس فهن بنات قايين الذي قتل أخيه هابيل فلعنه الله. وإن المقصود بأبناء الله في سفر أيوب هم الملائكة، كقول الله لأيوب في موضع آخر من السفر: " أَيْنَ كُنْتَ... عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟" (أي 28: 4، 7)، وقال المُرنِّم: "لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ. مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ اللهِ؟" (مز 89: 6). والكتاب دعى الملائكة أبناء الله لأنهم أرواح (عب 1: 14) والله هو " أَبِي الأَرْوَاحِ" (عب 12: 9)، وفي الترجمة القبطية: "وكان ذات يُومٍ أن جاء ملائكة الله ليمثُلُوا أمامَ الربّ وجاء الشيطان أيضًا معهم".
2- لم يكن الكاتب حاضرًا في ذاك المشهد، لكن بلا شك أن روح الله القدوس هو الذي أوحى له بهذا، وإذا ما سلّمنا بالاعتقاد بأن موسى النبي هو الذي كتب مقدمة السفر وخاتمته، فنقول أنه كما أن موسى كتب عن أيام الخلقة ولم يكن حاضرًا فيها هكذا كتب عن هذا الاجتماع وهو لم يكن حاضرًا هناك، ولا يعد هذا المشهد فريدًا في الأسفار المقدَّسة، فهناك مشهد سجله سفر الملوك الأول على لسان ميخا النبي ابن يمله عندما قال: "قَدْ رَأَيْتُ الرَّبَّ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَكُلُّ جُنْدِ السَّمَاءِ وُقُوفٌ لَدَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ الرَّبُّ: مَنْ يُغْوِي أَخْآبَ فَيَصْعَدَ وَيَسْقُطَ فِي رَامُوتَ جِلْعَادَ؟ فَقَالَ هذَا هكَذَا، وَقَالَ ذَاكَ هكَذَا. ثُمَّ خَرَجَ الرُّوحُ وَوَقَفَ أَمَامَ الرَّبِّ وَقَالَ: أَنَا أُغْوِيهِ..." (1مل 22: 19-22)، وقد تم مناقشة هذا الموضوع من قبل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ10 س1313... هكذا في هذا المشهد جاء الملائكة الأبرار سواء ليتلقوا أوامرهم من الله، أو ليقدّموا تقريرًا عما أنجزوه من مهام، وجاء أيضًا الشيطان ليقدم شكواه ضد أيوب البار، وشتان بين مثول الملائكة ومثول الشياطين أمام الله، فالملائكة يسرون ويفرحون ويبتهجون برؤية الله ومراحمه ورأفاته، أمَّا الشياطين فيرتعبون ويقشعرون أمام العدل الإلهي فيزدادون حقدًا على أبناء الله الأمناء.
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "كل الأمور مكشوفة أمام الله، فهو ليس في حاجة إلى ملائكة تحمل إليه صلوات مؤمنيه، ولا إلى الشيطان ليكشف عن فساد مؤمن ما. لكن الله في محبته للسمائيين يهبهم عمل المحبة سواء بتقديم الصلوات أو إتمام إرساليته. كما في عدله يترك للشيطان الحرية ليشتكي على ما يريد. أنه يُقدّس حرية الإرادة في المخلوقات العاقلة، سواء على مستوى الطغمات السمائية أو القوات الروحية في الشر، أو البشر... بلا شك أن الوقوف هنا لا يحمل المعنى الحرفي، إنما سمح له الله بالحوار من أجل العدالة الإلهيَّة، وتأكيد حرية الخليقة العاقلة حتى بالنسبة للشيطان وجنوده الأشرار. وقف الشيطان كما وسط الملائكة يُسمح له بالحديث مع الله، لكنه لم يتمتع برؤية مجد الله، ولا أشرق عليه بهاء المجد الإلهي، ولا أختبر عذوبة صوت الله كمصدر لذَّة وفرح وسلام حقيقي!"(3).
3- يشرح " القمص أنطونيوس فكري " الموقف بأن الكاتب المُلهَم بالروح القدس ينقل لنا منظرًا سماويًا وأحاديث دارت بين الله والشيطان في وجود الملائكة، ومثل هذا المنظر لم يره إنسان ولا يمكن أن يتخيَّله، فأمور السماء ينطبق عليها ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان، فهذا المنظر التصوُّري ينقل لنا اجتماع الملائكة في الحضرة الإلهيَّة يتلقون أوامرهم منه ثم يأتون ليقدموا تقريرًا عما فعلوه، ويأتي الشيطان المشتكي على البشر ليُقدّم شكواه، فهو منظر تصوُّري خُطَّ بلغة البشر، فالقصة حقيقية ولكنها أعلى من تصوُّر الإنسان، وهكذا يعيد بولس الرسول رسم نفس المنظر في رسالته إلى أهل رومية: "مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ. مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا" (رو 8: 33، 34)... اعترض البعض كيف يكون للشيطان القدرة أن يصل إلى حيث العظمة الإلهيَّة ومقر الملائكة الأطهار؟ والرد أن الله ليس محصورًا في مكان (راجع إر 23: 24، 1مل 8: 27، مز 139: 7-12، إش 57: 15، 66: 1)، فالله موجود في كل مكان ومثول الملائكة والشياطين أمام الله هو تنازل العزة الإلهيَّة وتجليها أمام خليقته سواء البارة أو الأثيمة لكي يكشف مقاصده(5).
4- لم يذكر الكتاب مكان الاجتماع، ربما كان في السماء وربما كان في مكان على الأرض، فالله كائن في كل مكان ولا يخلو منه مكان، ففي بركة موسى النبي لشعبه قال: "جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ" (تث 33: 2)، وترنَّمت دبورة النبية قائلة: "يَا رَبُّ بِخُرُوجِكَ مِنْ سِعِيرَ، بِصُعُودِكَ مِنْ صَحْرَاءِ، أَدُومَ الأَرْضُ ارْتَعَدَتِ" (قض 5: 4) كما رآه إشعياء النبي وأذياله تملأ الهيكل والقوات الملائكية تسبحه (إش 6: 1-3)، وتكلَّم الكتاب عن مجلس الله قائلًا: "لأَنَّهُ مَنْ وَقَفَ فِي مَجْلِسِ الرَّبِّ وَرَأَى وَسَمِعَ كَلِمَتَهُ..؟ وَلَوْ وَقَفُوا فِي مَجْلِسِي لأَخْبَرُوا شَعْبِي بِكَلاَمِي وَرَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيءِ وَعَنْ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ" (إر 23: 18، 22).
5- كان من الضروري الكشف عن الجانب غير المنظور في قصة أيوب لأنه الجانب الأهم، فيقول " القس الياس مقار": "إن أهم ما في الوجود ومن في الوجود، هو غير المنظور، وإن مصائر الحياة، تتعلّق بغير المنظور دون أدنى شبهة أو شك... وإن أقل ما في الوجود هو المنظور... وإن أقل ما يجري بين الناس هو المنظور، وأنه كان من الطبيعي إذا أردنا لقصة أيوب أن تصوَّر على حقيقتها أن تبدأ بغير المنظور، أو أن تبدأ بالمنظور العلوي غير المكشوف للعين البشرية، الذي يمثُل فيه الشيطان في حضرة الله... والسؤال كيف يمثُل؟ وهل يمثُل برغبته أم يمثُل بأمر أو سماح من الله؟ أنها أسئلة عويصة، ليس من السهل الإجابة عليها، وإن كنا نعلم أنها حقيقة واقعة"(4).
_____
(1) أباطيل التوراة والعهد القديم 2 - الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم ص 483، 484.
(2) التوراة بين الحقيقة والأسطورة والخيال ص 341، 347.
(3) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 53، 54.
(4) رجال الكتاب المقدَّس جـ2 ص 138.
(5) راجع موقع هوليبابيلوان.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1514.html
تقصير الرابط:
tak.la/99bgxn3