ج: 1- قال السفر: "كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عَوْصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيما،ً يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" (أي 1: 1) وهذا لا يعني أن أيوب بلا خطية، لأنه خلال أحاديثه اعترف بخطاياه قائلًا:
" إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي وَإِنْ كُنْتُ كَامِلًا يَسْتَذْنِبُنِي" (أي 9: 20).
" وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي، وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي؟ لأَنِّي الآنَ أَضْطَجِعُ فِي التُّرَابِ، تَطْلُبُنِي فَلاَ أَكُونُ" (أي 7: 21).
" لأَنَّكَ كَتَبْتَ عَلَيَّ أُمُورًا مُرَّةً، وَوَرَّثْتَنِي آثَامَ صِبَايَ" (أي 13: 26).
وفي النهاية قدَّم أيوب توبة قوية قائلًا: "لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أي 42: 6). إذًا كان أيوب كاملًا بمعنى أنه عاش حياة التدقيق واليقظة، فحرص على فِعل كل ما هو خير، وحاد بعيدًا عن كل ما هو شر، وفي قصيدة الحكمة التي أنشدها أيوب وقال: "مَخَافَةُ الرَّبِّ هي الْحِكْمَةُ، وَالْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ هُوَ الْفَهْمُ" (أي 28: 28)، فقد كان أيوب فريدًا في تقواه وبُعده عن الشر فلم يسلك كما سلك بنو جنسه وأهل زمانه، بل عاش حياة الكمال النسبي فلم يكن في حياته عيوب، مع أنه كإنسان لم يخلو من الخطية، وكان أيوب يسعى في طريق الكمال، ولذلك شهد الرب له مرتين قائلًا: "لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي الله وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" (أي 1: 8، 2: 3)، وليس معنى هذا أن أيوب بلا خطية لأن الرب عاد وعاتبه: "مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟!" (أي 38: 2) واتهام أيوب للقضاء والعدل الإلهي هو بلا شك خطية بلا معرفة، وقد قدَّم أيوب توبة عن هذه الخطية (أي 42: 6).
وبادئ ذي بدء يجب التأكيد على أن الإنسان الذي يقبل السفر على أنه سفر قانوني مُوحى به من الله فإنه لا يعود ويشكك في بعض جزئيات السفر، ولكن الأجدى به أن يقول أنني فهمت هذا ولم أدرك ذاك، وبروح الاتضاع والصلاة سيكشف له الروح القدس ما غمض عليه.
2- قال الكتاب عن نوح: "كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ" (تك 6: 9) وقول الكتاب " فِي أَجْيَالِهِ " أي بالنسبة لأجياله التي عاصرته وقد فسدت بالخطية: "إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ" (تك 6: 12). كما قال الكتاب عن زكريا الكاهن وزوجته أليصابات: "وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ الله" (لو1: 6) وهكذا كان أيوب كاملًا ومستقيمًا. أمَّا قول المزمور: "فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا... الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحا،ً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (مز 14: 1، 3) وهو عين ما تكرَّر في (مز 53: 1، 3) وهو ما اقتبسه مُعلِّمنا بولس الرسول عندما قال: "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ... الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3: 10-12) فالمقصود أن الجميع سقطوا تحت سطوة وسلطان الخطية، ولا يوجد إنسان قط يستطيع أن يقف موقف البراءة أمام الله، وقال أليفاز التيماني: "مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى يَزْكُو، أَوْ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَتَبَرَّرَ؟" (أي 15: 14)، وبولس الرسول يتكلَّم عن البِرّ المُطلق، ويتناول موضوعًا هامًا وهو: هل يستطيع الإنسان أن يتبرَّر بأعمال الناموس؟ وخَلُصَ إلى أن هذا الأمر مستحيل، فحتى لو أن الإنسان لم يرتكب خطية ظاهرة يُدان عليها من الجميع، فلا بد أن له خطايا فكرية مكشوفة أمام الله.
3- كان أيوب كاملًا بمعنى أنه كان متوازنًا في صفاته الخُلقية، فأحيانًا تجد إنسانًا عادلًا ولكنه قاسيًا، وآخر رحومًا ولكنه مستسلمًا، وآخر صادقًا ولكنه عنيفًا... إلخ.، أمَّا أيوب فكان متوازنًا جسدًا وروحًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. يسلك في بساطة وحكمة، لأن بساطة بدون حكمة هي بساطة ساذجة، وحكمة بدون بساطة هي حكمة شيطانية، أمَّا أيوب فكان كاملًا يجمع بين البساطة والفطنة، مستقيمًا في معاملاته مع الله ومع نفسه ومع الآخرين.
ويقول " القس الياس مقار": "ولا يعني الكمال أنه كان بلا خطية فهو قد تحدث عن خطاياه، وأنه لا يمكن أن يظهر الإنسان كاملًا أمام الله، ولكن الكمال بالمعنى النسبي، وهو التوازن الخُلقي الذي يظهر فيه الإنسان " موزونًا " على حد التعبير الشائع، بدون ازدواج أو انفصام في الشخصية، أو يعتبر ملومًا في هذا أو ذاك من أوضاع الحياة... وقد أوضح الرسول بولس هذا الكمال النسبي في رسالة فيلبي عندما قال: "لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلًا، وَلكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ... فَلْيَفْتَكِرْ هذَا جَمِيعُ الْكَامِلِينَ مِنَّا" (في 3: 12-15)... إن الولد الصغير الذي ينال الدرجة النهائية في الحساب مثلًا درجة الكمال، ليس معناه أنه أصبح عالمًا في الرياضيات لا يحتاج إلى نمو في معرفته للحساب... لكنه الكمال الذي ينمو ويتحوَّل كمالًا آخر مع تزايد المعرفة والإدراك... ولعل هذا الكمال يتضح في السلوك المستقيم الذي لا يعرف الالتواء، بل يتبع الخط المستقيم طوال الطريق كلها... فهو في السريرة الداخلية "يتَّقي الله" أي يخاف الله ويخشاه ويجله ويحترمه... وهو في المسيرة أمام الناس " يحيد عن الشر " أي يتباعد عنه، ولا يرتبط به بأية صورة من الصور"(1).
_____
(1) رجال الكتاب المقدَّس ص 136، 137.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1513.html
تقصير الرابط:
tak.la/cjak28x