يقول " علاء أبو بكر": "لقد فشل نبي الله في هداية ابنه، فكيف سينجح إذًا في هداية باقي الشعب الذين أُرسل لهم؟
لقد قتل أبشالوم أخيه أمنون كما يقول سفر صموئيل الثاني (13: 1 - 29) كما قام بعمل مؤامرة ضد أبيه وجيَّش جيشًا ضده مات هو فيها، ومات معه أكثر من عشرين ألف من بني إسرائيل، كما زاد الذين أكلهم الوعر من جيش أبشالوم عن الذين أكلهم السيف في ذلك اليوم (2صم 18: 7، 8) وكان من بين أولئك أبشالوم نفسه، إذ كان راكبًا على بغل فدخل تحت أغصان البطمة العظيمة الملتفة، {فعلق بين السماء والأرض والبغل الذي تحته مرَّ} (2صم 18: 9) فرآه رجل على هذه الصورة فجري وأخبر يوآب، الذي لم يتردَّد لحظة -رغم كل توصيات داود- بل أخذ ثلاثة سهام بيده وأنشبها في قلب أبشالوم، وأحاط به عشرة غلمان من رجال يوآب وضربوا أبشالوم وأماتوه (2صم 18: 15) ثم طرحوه في الجب العظيم بالقرب من المكان الذي قُتل فيه وأقاموا عليه رجمة عظيمة جدًا من الحجارة (2صم 18: 17)"(1).
ج: 1 - عندما رفض الله شاول من المُلك بسبب عصيانه، أرسل صموئيل النبي إلى بيت يسَّى قائلًا له: "تعالَ أرسلك إلى يسَّى البيتلحمي لأني قد رأيتُ لي في بنيه ملكًا" (1صم 16: 1). فهل نجح داود كملك..؟! بلا شك أن داود نجح نجاحًا بارعًا، حيث أكمل العمل الذي بدأه يشوع بن نون في الاستيلاء على أرض الموعد، الذي توقف على مدار مئات السنين خلال فترة القضاة وحُكم شاول، فحصن يبوس الذي ظل عصيًا على بني يهوذا وبني بنيامين استولى عليه داود بحيلة، وأقام من أورشليم عاصمة لمُلكه، ونقل إليها تابوت العهد فصارت مركزًا للعبادة وصارت لها الصدارة الدينية، وجاء بعده ابنه سليمان فبنى الهيكل العظيم الذي هيأ له داود كل شيء، وتصدى داود الملك للفلسطينيين فهزمهم خلال عدة معارك " ضرب الفلسطينيين وذلَّهم وأخذ زمام القصبة من يد الفلسطينيين" (2صم 8: 1) وأخضع الموآبيين وعندما هبَّ جيش أرام لنجدتهم أنتصر عليه، كما أخضع العمونيين والأدوميين والعمالقة " وكان الرب يخلص داود حيثما توجه" (2صم 8: 6، 14).
2- أظهر داود تسامحًا كبيرًا مع شاول الملك السابق، فبينما كان هو الملك الحقيقي الممسوح من صموئيل النبي بأمر إلهي، لكنه ظل مُطارَدًا من الملك المرفوض، وتحمل هذا بصبر كبير، وحتى عندما سقط شاول تحت يديه أكثر من مرة وكان يمكنه القضاء عليه، رفض أن يمد يده إليه، داعيًا إياه مسيح الرب، وبعد قتل شاول وبنيه على أيدي الفلسطينيين رثاه داود مع ابنه يوناثان بدمع غزير، وبعد أن أستقر المُلك به بحث عن ذرية له ليصنع معه إحسانًا، وفعلًا عثر على مفيبوشث بن يوناثان، فرد إليه حقول شاول جده، ودعاه ليأكل على مائدته كل يوم كأحد أفراد عائلته.
3- تعلَّق قلب داود بإلهه وأحبه من كل قلبه، فمزاميره وتسابيحه وألحانه تشهد بهذا الحب العجيب.
4- إن كان داود أخطأ في لحظات من حياته، فقد أمضى في زمن التوبة سنوات طويلة، حتى صارت توبته ودموعه وانسحاقه مضرب الأمثال.
5- كان داود قديسًا وبارًا وكون ابنه يضل ويهلك، فهذا أمر وارد، لأنه كامل السن، مسئولًا عن تصرفاته، وله حرية الإرادة ليفعل ما يشاء سواء خيرًا أو شرًا، وداود النبي لم يغصب ابنه على فعل الخير، وقال الله: "ها كل النفوس هي لي. نفس الأب كنفس الابن. كلاهما لي. النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 4).. " النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن. برُّ البار عليه يكون وشرُّ الشرير عليه يكون" (حز 18: 20) كان عالي رئيس الكهنة شيخًا وقورًا صالحًا ولكن كان ابناه فاسدين، وصموئيل العظيم عوج ابناه القضاء، وطالما رأينا العكس أباء فاسدين وأبنائهم قديسون، وسفر الملوك خير شاهد على هذا.
وجاء في " دائرة المعارف الكتابية": "تقييم داود: أن داود -بصفة عامة- هو أكثر شخصيات التاريخ الإسرائيلي مواهب وبروزًا، ولا يفوقه في العظمة المثالية والأهمية التاريخية سوى موسى. وقد أكمل ما بدأه موسى، وخلق من إسرائيل أمة وأرتفع بها إلى قمة العظمة برغم كل ضعفاته البشرية، فقد كان في حقيقته رجلًا تقيًا أصيلًا، وحاكمًا مثاليًا، ومُحبًا للبر والسلام. ويرى "دين ستانلي":{أن داود كان عدة شخصيات في شخص واحد، فقد كان جنديًا وراعيًا وشاعرًا ورجل دولة ورجل دين، ونبيًا وملكًا، وصديقًا وفيًا رقيقًا، وقائدًا مقدامًا، وأبًا محبًا، ولعل يعقوب هو أقرب الشخصيات إليه في تعدد عناصر الشخصية، ويقول "كورنيل" وهكذا يمكننا أن نتفهم بسهولة كيف نظر إليه بنو إسرائيل في تقدير واحترام، وكيف صار حلمهم هو أن يروا شخصًا آخر مثل داود}.
أسَّس داود أسرة مالكة، ووضع أسس المملكة، كما كان وطنيًا، سخيًا، طيبًا، وملكًا ذا مشاعر رقيقة وإيمان راسخ، سياسيًا شجاعًا ومتسامحًا، وقد وضع علاقته بالله فوق كل اعتبار، فكان شديد الاتكال على الله، ولقد تاب بإخلاص عن خطيئته الشنيعة، وهو " مرنم إسرائيل الحلو" (2صم 23: 1) وليس ثمة سبب قوي يمنع من أن يكون الكثير من المزامير البالغ عددها 73 مزمورًا والمنسوبة إليه، من كتابته فعلًا. ويقول " موري " Mwrray في كتابه " أصل وتطوُّر المزامير": {إن المؤرخ يمكنه أن يصف شخصية داود... فإن كتاباته الأصلية تشهد له في كل العصور على أنه أعظم كاتب للأناشيد الغنائية. لقد تغلغل إلى قلب الطبيعة وعبَّر عنها كما لم يفعل آخر، وحلَّق في السماء ورفع البشرية نحو الألوهية}. وباختصار فأن أقل ما يمكن قوله في مدح داود هو أنه خلَّص بلاده من الأعداء، ووحَّد الأمة، وجعل أورشليم عاصمة للمملكة، وأقام العبادة، وهيأ لبناء الهيكل، وأصبح -كحاكم وطني غيور- مثلًا أعلى للأجيال التالية، ورمزًا للمسيا، وقال عنه الله: "وجدتُ داود بن يسَّى رجلًا حسب قلبي" (أع 13: 22، أنظر 1صم 13: 14).
وبين العديد من الفضائل التي تميَّز بها، تبرز عبقريته الشعرية، فكل شاب من الرعاة يحمل قيثارة، إلاَّ أن قيثارة داود وحدها كانت كفيلة بأن تشفي عقل رجل مريض. لقد كان الموسيقي الموهوب صاحب الأذن الموسيقية، والقلب المرهف، الذي جعل موسيقاه تبهج قلوب الآخرين، كما أن الطبيعة الإلهية فيه هي التي جعلت موسيقاه موسيقى سماوية.
ولكن كانت هناك أوقات، نحَّى فيها داود قيثارته جانبًا، فقد كان خاطئًا كسائر البشر، فهو "الابن الضال" في العهد القديم، فبعد جريمته المزدوجة ضد أوريا وبثشبع، ظل داود سنة كاملة أو أكثر، دون أن يعترف بخطيته، إلى أن تجاسر ناثان النبي على الذهاب إليه وتوبيخه على خطيته. فالمزمور الحادي والخمسون هو اعتراف بذنبه. وفيما بعد عندما أدرك أن الله قد قبل اعترافه وغفر له، كتب ترنيمة الخلاص التي نقرأها في المزمور الثاني والثلاثين، فنجده يترنم بالغفران، فيبدأ بتطويب " من غُفر إثمه وسُترت خطيته " وينتهي بالفرح والبهجة لأن الله قد غفر له. وقد كتب أوغسطينوس هذا المزمور على حائط غرفته أمام سريره...
فلم يكن عمل داود الرئيسي هو الحرب ولا الانهماك في شئون الدولة، بل في كتابة المزامير تعبيرًا عن تمجيده وشكره العميق للرب... ولما كانت المزامير تعبديَّة أساسًا، فأنها تسمو بفكر العابد إلى الله، وعلى هذا فسوف تبقى طالما كان هناك ما يدفع الناس إلى التسبيح والصلاة. وكان معلموا اليهود يقولون: {مع أن جميع التقدمات سوف تبطل في المستقبل، إلاَّ أن تقدمة التسبيح لن تتوقف. ومع أن جميع الصلوات ستتوقف فأن الشكر لن يتوقف}(2).
_____
(1) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 1 س409 ص 290.
(2) دائرة المعارف الكتابية جـ 3 ص 406، 407.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1210.html
تقصير الرابط:
tak.la/wkwqtj2