يقول " ليوتاكسل": "وقد لاحظ فولتير أن الزوجة الخائنة لا تستطيع في مثل هذه الأحوال، أن تتزوج عشيقها قاتل زوجها الشرعي، إلاَّ إذا أفتى لها بذلك بابا روما " صاحب العصمة " فللبابا وحده مثل هذه السلطة، لكن الذي لا ريب فيه أن القاتل لا يستطيع أن يتزوج أرملة ضحيته، عند أي شعب من الشعوب المتحضرة.
وهناك صعوبة أخرى تتخفى هنا وهي: إذا اعتبرنا زواج داود من بثشبع زواجًا غير شرعي، فهذا لا يعني بالضرورة أن يسوع المسيح حفيد غير شرعي لداود، وإذا اعتبرناه حفيدًا شرعيًا فإن هذا يعني أننا ندوس القوانين البشرية والدينية بنعالنا. وإذا كان زواج داود من بثشبع جريمة، فإن يسوع المسيح يكون قد خرج من أكثر الينابيع قذارة، لأن كتاب العهد الجديد يخرجه من ذرية سليمان"(1).
ويتهم " ليوتاكسل " الله بأنه كان يسهل لداود طريق الخطية، ويطعن في توبة داود، فيقول: "ولكن توبته لم تستمر طويلًا إذ ضم زوجة ضحيته إلى باقي نسائه، أي أنه زاد إلى جريمته وزرًا ثقيلًا آخر، وأمام هذه الصعوبة الجديدة التي لم يستطع اللاهوتيون تجاوزها، لجأوا كالعادة إلى ضرورة الإيمان الأعمى بإرادة يهوه العصية على العقل البشري، فليهوه سر أو شأن، في مضاجعات داود، والحرام منها على وجه الخصوص، والحقيقة أنه يصعب علينا كثيرًا أن ندرك كنه الإرادة الإلهيَّة في الحالة المُعطاة، فيهوه الذي أمات العجوز نابال كي يُسهّل أول عملية عهر لداود، يحتدم غيظه فجأة عندما يقتل " مسيحه " الحبيب أوريا الحثي، فهل كان على داود أن يطلب من يهوه قتل الحثي وإعطاءه بثشبع دون عناء، كما كان قد أعطى أبيجايل قبل ذلك؟ ثم أظهر يهوه غضبًا شديدًا... ولكن هذا لا يمنعه من مباركة زواج داود بأرملة ضحيته، لأنه أكتشف في اللحظة نفسها ميله لسليمان الذي ستلده بثشبع لداود فيما بعد. أما إثم القاتل فقد انتقل إلى المولود منه سفاحًا من بثشبع، أي أن يهوه أخرج داود من الماء غير مبلل بفضل هذه التركيبة الإلهيَّة"(2).
ويقول " علاء أبو بكر": "هل نبي الله داود قاتل؟ هل يقتل نبي الله ليخفي جريمة زناه؟ هل نبي الله داود خسيس ليزني بجارته؟ هل نبي الله داود خان جنوده ودفعهم للقتال والموت للتخلص من زوج جارته التي حملت سفاحًا من داود؟ (2صم 11: 2 - 17) يا لها من خيانة عظمى أن يُضحي القائد بجنده من أجل خسته وندالته وزناه مع امرأة أحد جنوده الشرفاء، الذي ضنَّ على نفسه بالتنعم في فراشه، وأبى إلاَّ أن يبيت الليل على باب نبي الله وقائده الأعلى لحراسته، ثم يتخلص منه نبي الله ويقتله!.. أين القدوة التي أتى بها هذا النبيه (على زعمكم) لشعبه..؟ وإذا كانت هذه تصرفات كل أنبياء بني إسرائيل -القتل أو الزنى أو عبادة الأوثان- فأين علم الله الأزلي في انتقاء أنبيائه..؟ وما غرض الرب من انتقاء أردأ خلقه ليمثلوا حكمه على الأرض وليبلغوا رسالته إلى الناس؟ هل يريد من حرَّفوا الكتاب بذلك أن يخبرونا أن شرع الله غير مناسب للناس حتى أنه فشل في هداية الأنبياء أنفسهم..؟ ألا تدري أنه لو كان هذا الكلام صحيحًا لأقام الناس الحجة في الآخرة على خالقهم أنه هو الذي أفسدهم متعمدًا عن طريق إرساله شرار خلقه ليكونوا قدوة لهم فاقتدوا بهم..؟ ألا تدري أن هذا الكلام يعتبر سبَّة وقدح في جلال الله وقدسيته..؟ ألا تتهمون الرب بذلك بالجهل وعدم كفاءته في إدارة خلقه وإفساد خلقه متعمدًا..؟ أليست هذه الأقاصيص تعطي الحق للكفرة ألا يؤمنوا بالله؟ فكيف يقيم عليهم ربهم الحجة يوم القيامة..؟ ألستَ معي أن الله لو حاسب عبدًا زنى وألقاه في جهنم، لكان الله بذلك قد ظلمه (على زعم كتابكم)؟ أليست هذه هي القدرة التي انتقاها الله له..؟ ألستَ معي أنكم بذلك تحكمون على نبي الله داود بالقتل هو وامرأة أوريا؟ (تث 22: 22).. ألم يعلم الشعب بذلك؟ فلماذا أبقى الشعب عليه وحارب معه؟ وإذا كان الرب وصفه ووصف عمله بالشر، فكيف يكون الشر نبيًا؟"(3).
كما يقول " علاء أبو بكر": "هل داود من القديسين أم من عباد الله الزناة المخطئين؟ يقول صموئيل الثاني الإصحاح الحادي عشر أن داود زنى بامرأة جاره وخان جيشه وتسبب في قتل جاره ليفوز بزوجته ويطمس معالم جريمته (2صم 11) ويقول (1مل 14: 8) {ولم تكن كعبدي داود الذي حفظ وصاياي والذي سار ورائي بكل قلبه ليفعل ما هو مستقيم فقط في عيني}"(4).
وأيضًا يقول " علاء أبو بكر": "هل زنى داود حقًا..؟ على الرغم من تحريف الكتاب ووضع هذه القصة المُلفقة فيه، فأنك مازلت ترى الحقيقة فيه: فعلى الرغم من أنه قتل أبناءه من زوجته ميكال (2صم 21: 8 - 9) وأنه زنى (تبعًا للقصة المحرَّفة) (2صم 11) وكان يبيت في أحضان امرأة عذراء في آخر أيام حياته (1مل 1: 1 - 4) وما استتبعه كل ذلك من غضب الله عليه، حتى أن الرب أسلم نساءه للزنى (2صم 12: 11 - 12) إلا أنك ترى أن الله يذكره بعد مماته بالتقوى والهوى: {وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه راء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه} (1 مل 11: 4).. {إلاَّ أني لا أفعل ذلك في أيامك، من أجل داود أبيك..} (1مل 11: 12 - 13) وربما يقول قائل: أن ذنب داود كان الزنى، أما ذنب سليمان فهو الكفر. في الحقيقة فإن عقوبة الكافر عند الله، هي نفس عقوبة الزاني، حتى أن الرب يمثل زيغ بني إسرائيل وعبادتهم الأوثان بالزنى (حز 23: 1 - 2) وحتى لو اختلفت، فكيف يمدح الله داود على زناه، بعد أن فضحه وأسلم نساءه للزنى..؟"(5).
ج: يمكن حصر أهم عناصر الاعتراض في الآتي:
1- ما دامت الشريعة تحكم برجم الزاني (تث 22: 22) فلماذا لم يُرجم داود؟
2- هل داود رجل زانٍ أم أنه إنسان بار وطاهر (مز 18: 20)؟
3- لو كان غير مسموح للعشيقة أن تتزوج قائد زوجها إلاَّ بعد تحليل بابا روما، فكيف تزوجت بثشبع داود؟
6- هل محبة الله لسليمان تعني ضمنيًا مباركة زواج داود من بثشبع؟
7- هل هذه القصة مُلفّقة ومدسوسة على الكتاب المقدَّس؟
8- كيف يكون داود نبيًا ويقتل ويزني؟ وهل داود بهذه الخسة والخيانة حتى يخون أحد جنوده الأوفياء؟
والآن دعنا يا صديقي نجيب على تلك التساؤلات:
ج: أ- هناك وصايا عديدة في الشريعة تقاعس الشعب عن تنفيذها، ففي عصر القضاة كثيرًا ما ارتدوا عن الله وسقطوا في الزنا الروحي والزنا الجسدي، والزنا الروحي هو ترك عبادة الإله الحقيقية وعبادة الآلهة الغريبة، وكانت عقوبة هذه المخالفة القتل (تث 13: 5، 9، 15) وتقاعس الشعب عن تنفيذ هذا ولم يُقتل أحد، وكانت عقوبة من يقدم ابنه ذبيحة بشرية لمولك القتل (لا 20: 2) وكذلك من يمارس السحر والعرافة يُقتل (خر 22: 18)، وكانت عقوبة الزنا الجسدي الرجم (لا 20: 10، تث 22: 22) وكثيرون سقطوا في هذه الخطية ولم يُحكم عليهم بالرجم لأن هذه الخطية تمارس في السر.
ب - المفروض أن الملك هو الحارس على تنفيذ أحكام الشريعة، فعندما يخطئ الملك من يجرؤ على الحكم عليه إلاَّ إذا كان في قامة يوحنا المعمدان؟! كما أن خطية الزنا التي أرتكبها داود مثل كثير من خطايا الزنا التي تتم في طي الكتمان وليس في العلن، بل أن داود أرتكب خطيته وحاول أن يتناساها، إلاَّ أن الله المُحب لداود أرسل إليه ناثان الذي كشف خطيته وبكَّته عليها وأعلن عقوبة الله له.
جـ- صحيح كانت الشريعة تأمر برجم الزاني والزانية، ولكن الله كان أحيانًا يعامل الناس بالرحمة ويعفي عنهم، كما عفا عن شعبه بتوسلات موسى النبي رغم عبادتهم للعجل الذهبي.
ج: أ - قال داود النبي: "يكافئني الرب حسب برّي. حسب طهارة يديَّ يردُّ لي" (مز 18: 20) وقد صلى داود بهذا المزمور يوم أن أنقذه الله من أيدي أعدائه ومن يد شاول، وهذا واضح من المناسبة التي قيل فيها المزمور، كما ورد نفس المزمور في سفر صموئيل الثاني: "وكلَّم داود الربَّ بكلام هذا النشيد في اليوم الذي أنقذه فيه الرب من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول" (2صم 22: 1) إذًا داود ترنَّم بهذا المزمور قبل أن يسقط في خطيته مع امرأة أوريا الحثي.
ب - حتى لو افترضنا أن داود رنَّم مزموره هذا بعد سقوطه في تلك الخطية، فمن ينكر أن التوبة المقبولة تغفر جميع الخطايا والذنوب والآثام، وتغسل الإنسان من جميع الأدناس، وتعيده إلى نقاوته الأولى، وقال الرب في سفر إشعياء: "هلمَّ نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (أش 1: 18).. أنها التوبة التي تُحوّل الزناة إلى بتوليين.
ج: أ - لم تكن بثشبع عشيقة داود، ولم يكن بينهما قصة حب، إنما الصدفة هي التي جعلت داود يراها عريانة فاشتهاها، ولو تقدم داود بعض الوقت أو تأخر بعض الوقت ما كان رآها في هذا المنظر... أنه الفخ الشيطاني الذي نصبه عدو الخير بمهارة فاصطاد ذاك الرجل العظيم، ولو كان قلب داود منشغلًا بالله كما كان في معظم الأوقات ما سقط في هذا الفخ، ولو كانت له يقظة يوسف لنجا من هذا الفخ الشيطاني، ولاسيما أنه كان متزوجًا، ومتزوج بأكثر من سيدة، ويعيش وسط شعبه، وفي قصره، وهو الملك المتحكم في كل الأمور، وفي مرحلة عمرية متقدمة، بينما كان يوسف شابًا صغيرًا، أُختطف من أحضان أبيه وتغرَّب في أرض مصر، بل صار عبدًا في بيت رئيس الشرطة، والتي تطارده لتسقطه هي سيدته التي لها الأمر والنهي، ومع ذلك فأنه نجا من الفخ بينما سقط داود.
ب - مَنْ هو بابا روما الذي سمح بزواج العشيقة من قاتل زوجها؟ ولماذا فعل هذا..؟ وحتى لو صح هذا فأننا لا نعترف بعصمة أي إنسان على وجه الأرض، فالعصمة كانت مرتبطة فقط بكتبة الأسفار المقدَّسة وفقط أثناء تسجيلهم كلمة الله، فبابا روما مجرد إنسان يخطئ ويصيب، وإن كان داود النبي العظيم، ومرتل إسرائيل الحلو، قد سقط في الخطية، فليس من المستبعد أن يخطئ بابا روما في تصريحاته، فليس مولود امرأة بلا خطية، وخطية بابا روما يتحملها هو، ولا يُحاسب عليها الكتاب المقدَّس ولا المسيحية ولا الكنيسة.
جـ- كان زواج داود من بثشبع تصحيح للوضع الخطأ الذي حدث، حتى إذا وُلِد الطفل يعيش في ظل أبيه الملك وأمه، وأيضًا لكيما يعوض داود بثشبع عن قتل زوجها الذي كان سببًا فيه، وكان هذا الزواج حماية لبثشبع حتى لا تصير مطمعًا للآخرين ولاسيما بسبب جمالها الأخاذ، وكان نتيجة هذا الزواج أربعة أبناء أشهرهم سليمان حكيم حكماء الأرض.
ج: أ - يجب أن نفصل بين أمرين:
أولًا: الخطية التي سقط فيها داود: وهي خطية الزنا، ثم خطية القتل بهدف إخفاء معالم الجريمة الأولى، وهذه وتلك قدم عنهما داود توبة قوية نقية مقبولة، وكل خطية لها عقابان:
(1) العقاب الأبدي: وهذا العقاب الذي قال عنه ناثان لداود عندما أعترف بخطيته: "الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك. لا تموت" (2صم 12: 13) فالعقاب الأبدي لا يوجد من يحمله سوى السيد المسيح فادي البشرية، والذي حمل عقاب خطايا العالم كله منذ آدم للمجيء الثاني، وقال إشعياء النبي: "كلنا كغنم ضللنا مِلنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه أثم جميعنا" (أش 53: 6) وقال عنه يوحنا المعمدان: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيَّة العالم" (يو 1: 29).
(2) العقاب الزمني: وهذا الذي أشار إليه ناثان النبي عندما قال لداود: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد... هآنذا أقيم عليك الشر في بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس. لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس" (2صم 12: 1-12) وكما قتل داود أوريا قُتل ابناه أمنون وأبشالوم وفيما بعد أدونيا، وكما زنا مع بثشبع زنا ابنه أمنون مع أخته ثامار، بل وكما أستخدم داود يوآب لقتل أوريا، أستخدم أمنون أبيه داود ليحضر له ثامار، وكما زنا داود مع بثشبع أُخذت سراري داود العشرة وأعطين لقريبه، ولم يقل ناثان لداود أن من سيفعل هذا ابنه أبشالوم حتى لا يحتاط للأمر، بل قال له قريبك، والأمر المدهش أن قريبه هذا الذي كان مجهولًا لداود يوم أن كلمه ناثان هو ابنه الخارج من أحشائه فيزني مع سراري أبيه اللاتي هن في وضع أمه -مع اختلاف الصفة الاجتماعية بين أم أبشالوم كزوجة وبين هؤلاء السراري- فنال داود العقاب الزمني بالكامل، حتى أن زواجه من بثشبع كان هو الزواج الأخير في حياة داود.
ثانيًا: زواج داود بأرملة أوريا الحثي: وكان هذا زواجًا شرعيًا مُعلنًا أمام الجميع، لا يشوبه شيئًا من عدم الشرعية، فلو كان زوجها على قيد الحياة مثلما كان زوج هيروديا التي تزوجها هيرودس، لكان بلا شك زواج غير شرعي، ولو كانت هناك صلة قرابة تمنع من إتمام هذا الزواج، لكان هذا زواجًا غير شرعي، فلا يوجد في هذه الزيجة ما يستدعي أن ندعوها أنه غير شرعية.
ب - يغض الناقد الطرف عن عقيدته في أمر ولادة السيد المسيح له المجد بدون زرع بشر، فهذا أمر واضح ومفروغ منه في القرآن، فإن كان السيد المسيح وُلِد من العذراء مريم أطهر نساء العالمين، والتي اصطفاها الله على نساء العالمين، ووُلِد بدون زرع البشر فهل نقول عنه أنه حفيد غير شرعي لداود..؟ لقد حلَّ الروح القدس على العذراء مريم فطهَّر وقدَّس مستودعها ولذلك فالجسد الذي أتخذه السيد المسيح هو جسد مقدس بلا أي خطية، جديَّة أو فعلية... لقد أخذ السيد المسيح طبيعتنا لكنه لم يأخذ خطيتنا... شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها... هو وحده القدوس الذي بلا خطية، وتحدى الجميع: "من منكم يبكتني على خطية" (يو 8: 46).. فهل يصح أن نقول عن السيد المسيح أنه خرج من أكثر المنابع قذارة؟!!
ج: أ - في قصة داود ونابال عندما جرَّد داود سيفه وأصطحب رجاله للقضاء على نابال وكل أهل بيته، التقته امرأة نابال " أبيجايل " الحكيمة وردته عن هذه المذبحة: "فقال داود لأبيجايل. مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم لاستقبالي. ومبارك عقلكِ ومباركة أنتِ لأنكِ منعتني اليوم من إتيان الدماء وانتقام يدي لنفسي... اصعدي بسلام إلى بيتك. أنظري. قد سمعت لصوتك ورفعت وجهك" (1صم 25: 32 - 35) وكل ذي عين يلمح مدى قداسة هذا اللقاء، وقد وضع داود الرب إله إسرائيل أمام عينيه، ومدح رجاحة عقل أبيجايل وصرفها بسلام إلى بيتها، ولم يشتهي داود هذه السيدة ولم ينظر إليها نظرة شهوانية، ولم يمنعها من العودة إلى بيتها، ولم يختلي بها... فلماذا هذه النظرة الخاطئة لرجل الله؟! ثم بعد أن مات نابال أرسل داود رسلًا يستشيرها في أمر الزواج منها، فقبلت المرأة بكل رضى قائلة عن نفسها: "هوذا آمتك لغسل أرجل عبيد سيدي" (1صم 25: 41) وتم الزواج، وكان زواجًا عرفيًا... فهل نطلق عليه عهرًا؟!
ب - ما حدث بين داود وبثشبع هو خطية زنا، فماذا يريد الناقد؟ هل يريد أن الله يبارك خطية الزنا..؟! أنظر إلى تعبير الكتاب: "وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب" (2صم 11: 27) وكان على الناقد أن يُفرق بين "الزنا" و"العهر"، فداود زنا مرة واحدة لم تتكرر ثانية، أما "العهر" فهو تكرار لخطية الزنا مرات ومرات... سقط داود وبثشبع في خطية الزنا، لكن لا داود كان عاهرًا ولا بثشبع كانت عاهرة؟
أ - شتان بين نظرة الله للخاطئ التائب ونظرة الإنسان لهذا الخاطئ، فالإنسان لا ينسى خطية أخيه مهما مرَّ الزمن، ومهما تاب هذا الخاطئ وتنقى من هذه الخطية، ويظل يدينه في فكره، وربما في مواقف معينة يذكّره بخطيته هذه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولذلك أوصانا الله قائلًا: "لا تدينوا لكي لا تدانوا" (مت 7: 1). أما الله فعندما يغفر لنا فأنه ينسى تمامًا خطايانا، فهو الذي قال:
" لأني أصفح عن أثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد" (أر 31: 34).
" وخطية يهوذا فلا تُوجَد" (أر 50: 20).
" وتُطرَح في أعماق البحر جميع خطاياهم" (مي 7: 11).
" لأني أكون صفوحًا عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد" (عب 8: 12).
ب - بعد موت الطفل ابن الزنا " عزَّى داود بثشبع امرأته ودخل إليها واضطجع معها فولدت ابنًا فدعا اسمه سليمان والرب أحبه. وأرسل بيد ناثان النبي ودعا اسمه يديديَّا من أجل الرب" (2صم 12: 24، 25) ومعنى اسم " يديديَّا " أي " حبيب الرب " أو " محبوب الرب"، وجاء في "كتاب السنن القويم": "كان الرب ضرب الولد الأول ولكنه سمَّى الولد الثاني بهذا الاسم ليعرف والداه أن خطيئتهما مغفورة وابنهما هذا محبوب... وخلف سليمان أباه في المُلك وتسلسل منه المسيح رئيس السلام"(6).
ج: عجبًا لهؤلاء الذين يتكلمون بغير ما يعتقدون ليس إلاَّ بهدف نقض الكتاب المقدَّس. لقد تغافلوا تمامًا أن قصة سقوط داود في الزنا مع بثشبع وردت في القرآن وكُتب التفاسير، فجاء في القرآن: "وهل آتاك نبأ الخصم إذ تسوَّروا المحراب. إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغىَ بعضنا على بعض فأحكم بيننا بالحق ولا تُشطِط وأهدنا إلى سواء الصراط. أن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلينها وعزَّني في الخطاب. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه... وظن داود إنَّما فتنَّاه فاستغفر ربه وخرَّ راكعًا وأناب. فغفر له ذلك" (ص 38: 21 - 25) فذات القصة التي قصها ناثان النبي لداود يتردد صداها في القرآن، ثم ما هي الفتنة التي تاب عنها داود فنال المغفرة إلاَّ خطيته مع بثشبع..؟!
وجاء في كتب التفاسير أن داود: "أبصر امرأة في بستان على شاطئ ببركة تغتسل، وقيل رآها على سطح لها، فرآها من أجمل النساء خلقًا فعجب داود حسنها، وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها فزاده إعجابًا بها، فسأل عنها فقيل هي تشابع امرأة أوريا وزوجها في غزاة البلقاء، فكتب داود إلى رئيس الجيش أن ابعث أوريا وقدمه قبل التابوت وكان من قُدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد، ففُتح له، فأرسل داود إلى رئيس الجيش أن ابعثه إلى عدو أشد منه بأسًا فبعثه، فقتل في المرة الثالثة"(7).
وتحدث ابن عباس عن توبة داود فقال: "فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدًا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده رب زلَّ داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر له ذنبه جعلت ذنبه حديثًا في الخلق من بعده، فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود أن الله تعالى قد غفر لك"(8).
" قال وهب بن منبه أن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرفأ دمعه لا ليلًا ولا نهارًا... فقسم الدهر بعد الخطيئة إلى أربعة أيام، يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسبح في الجبال والفيافي والساحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه في ذلك، فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل مع دموعهم مثل الأنهار، ثم يجئ إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي وتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية، ثم يجئ إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر... (جاء في القرآن في سورة الأنبياء 21: 79 وسخَّرنا مع داود الجبال يُسَبّحن والطير وكنا فاعلين) فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه أن اليوم يوم نوح داود على نفسه فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجئ أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيبكي داود مع الرهبان حتى تغرق الفرش من دموعه، ويقع داود مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله. وعن الأوزاعي... أن مثل عيني داود كالقربتين ينقطان ماء، ولقد خدَّت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض"(9).
وفي إحدى الروايات " قال وهب أن داود أتاه نداء إني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدًا قال أذهب إلى قبر أوريا فناداه وأنا أُسمِعه نداءك فتحلَّل منه. قال فأنطلق داود وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى: يا أوريا. فقال من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وأيقظني. قال: أنا داود. قال: ما جاء بك يا نبي الله. قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك. قال: وما كان منك إليَّ، قال: قد عرَّضتك للقتل، قال: بل عرضتني للجنة، فأنت في حل.
فأوحى الله تعالى إليه يا داود ألم تعلم إني حكم عدل لا أقضي بالتعنت ألاَّ أعلمته أنك قد تزوجت امرأته، قال فرجع فناداه فأجابه، فقال من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وأيقظني. قال أنا داود. قال: ما جاء به يا نبي الله. أليس قد عفوت عنك. قال: نعم، ولكن أنا فعلت ذلك بك لما كان من إمرأتك وقد تزوجتها. قال: فسكت ولم يجبه، ودعاه مرة فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه: فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا وُضعت الموازين بالقسط، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يُسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، فآتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك. قال: يا رب كيف وصاحبي لم يعفُ عني. قال يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم ترَ عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له: رضيتَ عبدي، فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي، فأقول: هذا عوض عن عبدي داود، فأستوهبك منه فيهبك لي. قال: يا رب الآن قد عرفت أنك غفرت لي. فذلك قوله (في صورة ص 38: 24، 25 فأستغفر ربه وخرَّ راكعًا وأناب. فغفرنا له ذلك وأن له عندنا لزُلفىَ وحسن مآبٍ)"(10).
وفيما يخص نقاط الاعتراض الثلاث الأخيرة وهي:
فنجمل التعليقات في النقاط الآتية:
1- سبق الحديث عن أخطاء الأنبياء(11).
2- عندما نتحدث عن داود النبي والملك، مسيح الرب، مرنم إسرائيل الحلو، لا نغفل أنه إنسان تحت الآلام مثلنا، غير معصوم من الخطية، لأنه لو كان معصومًا من الخطية ولم يخطئ فأي فضل له؟! وعلى أي شيء يكافئ؟! ولكن النبي له ضعفاته وشهواته وسقطاته واشتياقاته، وأيضًا لا يجب أن نتغافل توبة داود الجبارة، ونغض البصر عن فضائله الكثيرة.
يقول " الأب متى المسكين": "لقد أحب داود الله حبًّا يعجز عن أن يدانيه أعظم متصوفي العالم، وبالرجوع إلى مزامير داود نرى داود على حقيقته عملاقًا في الصلاة والتسبيح. يقوم لينشد مزاميره في نصف الليل وقبل الفجر وسبع مرَّات في النهار مع السهر والصوم. وها هي مزامير التوبة كلها بكاء ودموع وحسرة وتوجُّع على الخطية، مع رجاء لا ينقطع في رحمة الله ولطفه وإحسانه، بتواضع ملك يُخجل الأطفال الصغار، وتوسل منسحق لا يدانيه أخطى الخطاة 0
وبالنهاية، كان داود رائدًا لجيله ولأجيال كثيرة قادمة في كل شيء! لقد سخَّر موهبته الشعرية منذ صباه لتأليف المزامير التي صارت كنز الصلاة العالمي، وسخَّر موهبته الموسيقية لتسبيح القدير بالنغم مع الكلمة إلى مستوى الإلهام! وسخَّر رقة حبه للتعبير عن أسمى علاقات الإنسان مع الله!.. وكأنما أعاد الله تشكيله لداود مرات ومرات ليلاءم كل المواقف"(12).
3- في إيماننا المسيحي ليس مولود امرأة بلا خطية إلاَّ السيد المسيح له المجد، وما أكثر الآيات التي توضح هذه الحقيقة:
قال داود النبي: "الكل قد زاغوا معًا فسدوا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (مز 14: 3).
قال سليمان الحكيم: "لأنه ليس إنسان لا يخطئ" (1مل 8: 46).
" لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" (جا 7: 20).
قال يوحنا الحبيب: "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" (1يو 1: 8).
وما أجمل صلوات الكنيسة في أوشية (طلبة) الراقدين: "وإن كان لحقهم توانٍ أو تفريط كبشرٍ، وقد لبسوا جسدًا وسكنوا في هذا العالم. فأنت كصالح ومُحب البشر اللهم تفضل أغفر لهم. فأنه ليس أحد طاهرًا من دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض..".
4- لم يتهاون الله ولم يتساهل مع الأنبياء عندما أخطأوا، بل ربما كانت عقوبتهم أشد من عقوبات الآخرين، لأن من يعرف أكثر يُطالب بالأكثر، فداود النبي الذي أرتكب خطية الزنا في السر، وتستر عليها بذكائه البشري فأرتكب جريمة القتل ليخفي معالم خطيته، وإذ بخطاياه تعلن على العالم أجمع عبر الأجيال المتتالية.
5- سجل الكتاب المقدَّس عن قصد خطايا الأنبياء، فبينما يميل الإنسان إلى تمجيد من يحبهم وينزّههم عن الخطأ، فإذ بالكتاب يذكر الأحداث كما حدثت بالضبط، فيحدثنا عن إيمان وعظمة هؤلاء الأنبياء، وأيضًا لا يغفل ضعفاتهم وسقطاتهم، ولو سجل الكتاب النقاط البيضاء فقط في حياة الأنبياء لأصابنا هذا بصغر نفس، وكأن هؤلاء الأنبياء من كوكب آخر وليسوا من نفس عجينة البشرية، ولذلك قصد الوحي الإلهي أن يسجل خطايا الأنبياء، ولكن كان هدف الكتاب من ذلك:
أ - إعلان الضعف البشري، ومهما ارتفعت قامة الإنسان الروحية فأنه يظل معرضًا للانزلاق والسقوط.
ب - إعلان مراحم الله المتسعة، فالله الذي يبغض الخطية جدًا يحب الخاطئ جدًا ويسعى لخلاصه، فهو لا يشأ موت الخاطئ مثلما يرجع وتحيا نفسه.
ج - أخطاء الأنبياء جرس إنذار يدوي محذرًا القائم لئلا يسقط، ومناديًا الساقط لكيما ينهض، فأخطاء الأنبياء خير موعظة، للكل للقائم ليحذر، وللخاطئ لينهض ولا يهلك في يأسه، فأن باب التوبة مفتوح على مصراعيه طالما في الإنسان نفس.
د - لن تجد النفس شبعها إلاَّ في الله نفسه، فتعدد الزوجات لم يصن الإنسان من السقوط في خطية الشهوة، والغنى العظيم لا يمنع الإنسان من السقوط في خطية الطمع... وهلمَّ جرا.
هـ- لا غنى أبدًا عن المُخلص الذي يحمل عقاب خطايانا فلا نهلك.
و - عندما نسمع بسقوط إنسان لا نشمت فيه، بل نشكر الله أنه حفظنا إلى هذه الساعة... إلخ.
6- خطية داود لم تغيّر نظرة الله الحلوة له، وليس معنى هذا أن الله يسر بالخطية، ولكن معناه أن الله يعظم التوبة، فتوبة داود حافظت على سراج داود ليبقى مضيئًا عبر نسله الملكي في أورشليم لمئات السنين، ومن نسله جاء السيد المسيح، الذي من ألقابه " ابن داود " الوارث مُلك داود " ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب ولا يكون لمُلكه نهاية" (لو 1: 32).
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 348.
(2) المرجع السابق ص 348، 349.
(3) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 1 س405 ص 287 - 289.
(4) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 1 س103 ص 83، 84.
(5) المرجع السابق س 484 ص 336 - 338.
(6) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 4 (أ) ص 186.
(7) كتاب الهداية جـ 1 ص 49.
(8) المرجع السابق ص 49، 50.
(9) كتاب الهداية جـ1 ص 52.
(10) كتاب الهداية ص 51، 52.
(11) فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ 5 س 434.
(12) تاريخ إسرائيل ص 85.
(13) ترجمة نذير جزماتي - حكايا محرَّمة في التوراة ص 13.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1194.html
تقصير الرابط:
tak.la/db7bgtw