ولكن كبادئ ذي بدء دعنا يا صديقي نتساءل:
هو مصطلح عام يستعمل لوصف تيار فكري وفلسفي يتمركز حول فكرة إنكار وجود خالق أعظم، أو أية قوة إلهية بمفهوم الديانات السائدة. وببساطة شديدة فإن الإلحاد يعني إنكار وجود الله لعدم توافر الأدلة على وجوده، فمنطق الإلحاد هو " إن ما لم تثبته التجربة العلمية يكون خاطئًا وتافهًا ومنقوصًا من أساسه، ونحن لا نؤمن إلاَّ بالعلم وبالمنهج العلمي، فما تراه العين وتسمعه الأذن وتلمسه اليد، وما يمكن أن يُقاس بالمقياس والمكيال والمخبار وما إلى ذلك من أدوات هذا الحق. وأما ما عدا ذلك مما يخرج عن دائرة العلوم التجريبية ومنهجها فلا نصدقه" (1). هذا مفهوم الإلحاد قديمًا. ثم أكتشف الإنسان أن الحواس البشرية تعجز عن إدراك أمور كثيرة وليس معنى هذا أن هذه الأمور غير موجودة، فالعين البشرية تقف عاجزة أمام رؤية الكائنات الدقيقة مثل البكتريا أو الأميبا، بينما تنجح في هذا بواسطة الميكروسكوب، وأيضًا تقف عاجزة أمام إدراك ما يدور حولنا من أجرام سماوية بعيدة جدًا. بينما تنجح في هذا بواسطة التلسكوب، وبينما طائر الكناري يرى جميع الألوان فإن العين البشرية تعجز عن هذا، وبينما للصقر قدرة على رؤية أرنب بين الحشائش، وهو يُحلق على ارتفاع نحو ثلاث كيلومترات، لأنه يُكبّر الصورة ثمان مرات، فإن الإنسان يعجز عن هذا، والأذن البشرية تعجز عن التقاط الأصوات التي تلتقطها أذن بعض الحيوانات مثل الكلاب والغزلان، التي تلتقط أصوات الزلزال قبل حدوثه بنحو عشرين دقيقة. بل أن الحواس البشرية قد تخدعنا، فالإنسان التائه في الصحراء ملتمسًا النجاة يرى السراب، والسراب ليس حقيقة، والملعقة في كوب الماء نجدها مكسورة وكذلك المجداف في المياه، وهما ليس كذلك.
بسبب ضعف الحجة التي أعتمد عليها الإلحاد قديمًا، وهي عدم إدراك الله بالحواس البشرية، وبعد أن بات العلم الحديث يثبت وجود الله بقوة، وقد تجلَّت القدرة الإلهيَّة في الخلية الحيَّة التي لا تُرى بالعين المجردة، وكذلك بعد التعمق في الفلسفة، حتى أن " فرانسيس بيكون" (1561 - 1626م) قال " أن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان" (2)، ولهذا ظهر " الإلحاد المعاصر " الذي يتجاهل تمامًا وجود الله، ويؤلّه الإنسان، فإن كان الله موجودًا فليبق في سمائه وليترك الإنسان إلهًا لهذا الكون، فقال الشاعر الفرنسي " بريفير": "أبانا الذي في السموات، ابقَ فيها" (3) فالاعتقاد بوجود الله يلغي كرامة وسلطان الإنسان على الأرض، فلسان حال الإلحاد المعاصر هو " إذا كان الإنسان إلهًا، فلا يحق لله أن يوجد"، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. ويقول "إيتان بورن " عن الإلحاد المعاصر " أنه مبدأ أولي، أو بالأحرى تصميم أولي، فيجب أن لا يكون الله لكي يوجد الإنسان" (4) وقال " فويرباخ": "أن نقطة التحوُّل الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعي فيها الإنسان أن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه" (5) أي الإنسان هو إله الإنسان وقال " كارل ماركس": "كل كائن لن يعتبر نفسه مستقلًا إلاَّ إذا كان مكتفيًا بذاته. ولن يكون مكتفيًا بذاته إلاَّ إذا كان هو مصدر وجوده. إن الإنسان الذي يعيش من فضل غيره يشعر بنفسه كائنًا تابعًا" (6) وادَّعى "ماركس" أن الإنسان الذي يشعر أن الله هو الذي خلقه، وهو الذي يحفظ حياته، فهو إنسان تابع وليس مستقلًا، ولذلك دعا لنبذ الدين قائلًا " أن نقد الدين يُخرج الإنسان من أوهامه، ويحمله على أن يفكر ويعمل وينظم واقعه كرجل تخلَّص من الوهم وبلغ إلى الرشد، حتى يدور حول ذاته، حول شمسه الحقيقية، وما الدين إلاَّ الشمس الوهمية" (7) كما ادَّعى "ماركس" أن الإيمان بالله يعني هدم قيمة الإنسان وقدره، فقال " أن الإيمان بالله يقضي بالاعتراف بعدم قيمة الإنسان. إذًا كان لابد من الاستغناء عن الله لإنقاذ الإنسان" (8) ولخص "ماركس" فلسفته الإلحادية في قوله " أن الإلحاد هو إنكار الله، وبهذا الإنكار يؤكد وجود الإنسان" (9).
ويقول "نيافة الأنبا غريغوريوس": "الإلحاد المعاصر ليس إلحادًا عقلانيًا، ولا فلسفيًا، ولا منطقيًا، ولا علميًا... إنما هو إلحاد تصميم... تصميم بالرفض لفكرة الله... وذلك بسبب خبرة حزينة عن بعض الأفراد أو عند بعض الشعوب، خبرة مؤلمة وقاسية... عن الدين والمتدينين أو عن الملوك والحكام الذين يتخذون الدين غلافًا يغلفون به تصرفاتهم ويستندون فيها كذبًا وبهتانًا إلى الله" (10).
والإلحاد قد يكون ظاهرًا متى أعلنه الإنسان الذي يؤمن به للغير، وقد يكون مُبطَنًا متى أبطنه الإنسان وأخفاه عن الغير.
جاء تعريف " اللادين " في القواميس على أنه:
أ - انعدام الإيمان بالأديان، إما لعدم توفر المعلومات، وإما أن يكون بصورة متعمدة.
ب- عدم احترام فكرة اتخاذ الدين كفكرة مركزية لتنظيم حياة الإنسان.
ج- اختيار طريقة وأسلوب في الحياة لا تتماشى مع الدين.
وببساطة شديدة أن الإنسان اللاديني ينكر الأديان جميعها، ويرى أنها لا تصل بالإنسان لله، ويسير حسب هواه لا يتقيد بمبادئ الدين.
بين الإيمان والإلحاد تقف " اللاادرية"، ولسان حال الإنسان اللا أدري: لا أدري... هل الله موجود..؟ هل الله غير موجود..؟ لا أدري ولا أعرف، هل هناك عالم آخر..؟ هل هناك أرواح..؟ هل هناك ثواب وعقاب..؟ لا أدري، فكل معرفة هي معرفة نسبية وليست أكيدة، ولا يمكن الجزم بأمر ما، فما أراه أنا صائبًا يراه غيري خاطئًا، والعكس قد يحدث، بل أن حكم الإنسان في أمر ما قد يختلف من وقت لآخر، ومن ظروف لأخرى، ولذلك فالأفضل أن أقول أنني لا أدري، والإنسان اللاادري مثل إنسان أعمى تائه لا يدرك طريقه، وكريشة في مهب الرياح تحملها كيفما تشاء، والفكر اللاادري لا يشبع الإنسان، بل يجرده من شخصيته ويتركه في متاهة، ولن يعفيه من مواجهة المصير المحتوم عندما يقف الإنسان ليعطي حسابًا أمام منبر الديان العادل.
وقد زاد الإلحاد واستشرى منذ القرن السابع عشر فصاعدًا، ولاسيما في دول أوربا، وبالأكثر في روسيا ودول الكتلة الشرقية، فهناك عوامل زكَّت نيران الإلحاد وساعدت على انتشاره، نذكر منها الآتي:
_____
(1) أ. رأفت شوقي - الإلحاد بعض مدارسه... والرد عليها ج 2 ص 73، 74
(2) رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 58
(3) القمص تادرس يعقوب - تفسير سفر التكوين ص 53
(4) رأفت شوقي - الإلحاد... نشأته وتطوُّره ج 1 ص 114
(5) القمص تادرس يعقوب - سفر التكوين ص 53
(6) رأفت شوقي - الإلحاد... نشأته وتطوُّره ج 1 ص 115
(7) رأفت شوقي - الإلحاد... نشأته وتطوُّره ج 1 ص 116
(8) المرجع السابع ص 116
(9) المرجع السابق ص 116
(10) الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 17
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/atheism/what.html
تقصير الرابط:
tak.la/brxv7qa