رباط العائلة أمتن الروابط وهو أساس كل نظام، والعلاقة بين الزوجين وثيقة العُرى، ومقدمة على كل العلاقات النسبية زمنًا. وطبعًا لأن الله تعالى هو الذي رتبها وكنها وفضلها على كل الأنساب بقوله: "يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا. إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد" (مت 19: 5، 6). والمحبة بين الزوجين شُبِّهَت بمحبة المسيح للكنيسة (أف 5: 25)؛ فالزوجة للزوج جسده. والزوج الصالح يتخذ امرأته صديقته وحبيبته وخزانة أسراره، مفرجة همومه ومدبرة أموره، وهي تعزيته في كل أحواله، يُسَرّ بعِشرتها، ويغتبط بمحبتها. إذا مرض عالته، وإذا تألَّم تألمت لأجله، وإذا تعب حملت معه أتعابه.
وبما أن الوقت مُتَسَلِّط على الجميع ولا ينجو أحد منه. فكثيرًا ما يشهر سيفه ويقطع ذلك الرباط، ويفرق بين الحبيب وحبيبته، وبمقدار محبة وألفة الزوجين يكون الألم والحزن لفراق أحدهما عن الآخر، وكيف تنقطع علاقة مقدسة كهذه دون أن يتقد القلب بنار الأسى. ومَنْ يُقْطَع عضو من جسده ولا يتألَّم. إن موت الأحباء مصيبة ثقيلة على القلب، وربما أن فَقْد الزوجة من أثقل المصائب، فلذلك يفتقر الزوج إلى أوفر عزاء من الله، ولكن إن تَرَك نفسه للأحزان واستسلم للدموع والبكاء سقط إلى وهدة اليأس والضرر.
ومَنْ أُصيب بمثل هذه المصيبة لا يجِد عزاءه إلا في الإيمان. فان الكافر لا يجد عزاء في شيء. لأنه لا يؤمن بشيء ولا يستند على صخر الدهور الأبدي. ومتى تأمل المؤمن عرف أن زوجته وحبيبته لم تَمُت ولكنها نائمة، ولم تُفْقَد ولكنها في السماء، خَلَعَت عنها الجسد الترابي وصعدت روحها إلى مسكنها الأبدي، إنه سيلتقي بها يومًا ما في حياة لا فُراق فيها ولا دموع. ومتى واظَب على درس كلمات الوحي، وَتَمَسَّك بالإيمان وأكثر من الصلاة طلبًا للعزاء الإلهي يشعر بالراحة والاطمئنان، ويمتلئ قلبه بالصبر والخضوع لأحكام مشيئة الله وفي ذلك كل العزاء والسلوان، ولكن إذا أكثر من الضجر والاعتراض والتذمر والشكوى فلا يجديه ذلك سوى زيادة الألم.
نعم إن القوة البشرية ضعيفة أمام آلام الحياة ونكد الدنيا، وما أقل اصطبار الإنسان على احتمالها، ومَنْ يجتاز في الحياة متحملًا أثقالها على كاهله دون أن يسقط مِرارًا قبل وصوله أول رحلة من سيره، ولكن لنعلم أن الله لا يدعنا نحمل عبء الحياة ومتاعبها وأحزانها وحدنا، بل يضع النير على أعناقنا ويحمله معنا ويُخَفِّف عنا الأحمال، لا يتركنا ولا ينسانا. وبينما نظن أنه بعيد عنا يكون هو أقرب إلينا من نفوسنا، وكلما أحاطت بنا غيوم الحيرة والارتباك ازددنا تعليمًا بدرس الثقة بالله والاتكال عليه وحده والخضوع لعنايته. وليس لنا الحق أن نعرف أيضًا كل تصرفات الله معنا، كما لا يستطيع الولد الصغير أن يعرف تأديبات وتصرفات أبيه معه. غير أن لنا في مواعيده الأمينة أن لا يتركنا عند الضيق والتجربة، ولا يهملنا في أوان الحزن والشدة، بل في أشد الأهوال وأصعب الأحوال يلقي في قلوبنا مِلء الإيمان، ويهبنا العزاء الوافِر، ويصدق علينا قوله لبطرس: "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع بك ولكنك ستفهم فيما بعد" (يو 13: 7). هكذا نحن لا نفهم أعمال الله معنا في زمن الافتقاد والبلوى، ولكن إذا صبرنا والتصقت قلوبنا به حينئذ تتجلى لنا محبته ويفيض علينا عزاءه، لقد أجاز الرب شعبه إسرائيل في البحر. ثم أدخلهم إلى البرية. ثم جاء بهم إلى أرض الموعد، وهكذا يقود الله شعبه مرارًا كثيرة ويجيزهم في الماء والنار والجبال والقفار، ويأتي بهم أخيرًا إلى الراحة. فطوبى لِمَن يخضع لمشيئته ولا يتذمر على عنايته وأعماله.
ما نقدر أن نمنعه، وما لا نقدر أن نمنعه، لا يجب أن نتذمر منهما. فما نقدر أن نمنعه لا داعي للتذمر منه طالما في أيدينا منعه. أما ما لا نقدر أن نمنعه فماذا ينفعنا التذمر إذا إلا زيادة الوجع والألم. فالطاعة والخضوع والصبر أولى بكثير من الضجر والشكوى.
إن المخلص له المجد كان أعظم مثال للطاعة، فقد كانت حياته لُجَّة آلام وأحزان من المذود إلى الصليب. وقد قال في أهول أوقاته لأبيه "لتكن لا إرادتي بل إرادتك" (لو 22: 42). فهل يليق بنا أن نتذمر متى شاء الرب اقتيادنا بالتجارب لتهذيب نفوسنا ورجوعها إليه؟! قال الرب "اخْتَرْتُكَ فِي كُورِ الْمَشَقَّةِ" (اش 48: 10) وهل في يدنا أن نختار نصيبنا؟ وهل في قدرتنا رفع ما يضعه الرب على أعناقنا؟ ومَنْ مِنَّا يستطيع أن يرفع صوته ضد مَنْ بيده أمرنا؟ هو الرب يفعل ما يشاء، ولا يوجد مَنْ يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل، وهو قادر أن يُخَفِّف ألمنا ويملأنا عزاء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فان الفاخوري لا يترك آنيته في النار حتى تحترق، وكذا البستاني فانه إذا نزع بعض أشجاره فإنه بذلك يحافظ على جذوعها وأصلها. فطوبى للنفس التي تقول مِن عُمق قلبها بتسليم كامل "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".
لا يحدث أمرًا إلا وقد سمحت به عناية الله. وطالما نؤمن بحكمته وصلاحه. فما بالنا لا نتركه يَتَصَرَّف فينا كيف شاءت مسرته، لكن إذا تركنا الإيمان وبعدنا عن كلام الله وأسندنا مصائبنا إلى عِلَل طبيعية جدًا، خسرنا عزاء الإيمان. حين نبتدئ نقول: لو عملنا كذا وكذا لما حصل كذا. فهذه كلها تَعَلًّلات باطلة لا أساس لها سوى الظن الباطل وحكمة الإنسان الواهية، وليس وراءها سوى زيادة الألم والإفراط في الحزن. ولنا في صلاتنا "لتكن مشيئتك" خير مُعَزًّ ودليل قوى على الخضوع لأحكام الله في كل ما يجريه معنا كل يوم، ونحن نعلم أن مشيئته مُقَدَّسة وعادلة. إن الصحة والقوة والثروة والأحباء والأطفال وكل خير نملكه ما هو ألا هِبات من الله تعالى، له أن يستردها أو يبقيها بحسب إرادته، ويزيدها أو ينقصها كما يوافق صلاحه. وكثيرًا ما يرى أن كَفَّة خيرات الدنيا رجحت على كفة خير نفوسنا وأننا عَلَّقنا قلوبنا على أمور زائلة. فيخطف منا بعض تلك الهبات حتى نلتصق به وحده وتعود نفوسنا لاجئة إليه، وفي حِماه نجد كل الأمن والعزاء.
الحُزن على فَقْد الأحباء شأن الطبيعة البشرية، والبكاء وسَكْب الدموع من دلائل رِقة القلب، ومَنْ لا تدمع عيناه ويبكي لفراق أحبائه فقد تَجَرَّد من خصائص الطبع البشري. إن التَّصَلُّب والجفاء علامة جمود القلب وقساوته، ألا ترى يسوع رب الكل وخالق الجميع بكى عند قبر حبيبه لعازر، وبكى على أورشليم؟ فالبكاء ليس خطية حين حلول المصائب والأحزان، لأن مِن شأن الدموع تخفيف الحزن، أبلغ الألم ما تخمد معه العين ويسكن في الأحشاء دون أن يجد له منفذًا للخروج. فلا يخطئ مَنْ يذرف دموعه لفراق أحبائه، وإنما الخطية في التذمر على عناية الله، والحزن الشديد الذي بلا رجاء.
فيا أيها المحزون المتألم ابك ولكن لا تيأس. أطلق لطبيعتك أن تظهر عاطفتها ولكن لا تتذمر على تلك اليد المباركة التي لطمتك. احزن ولكن ليس كالباقين الذين لا رجاء لهم. نعم بالموت فارقت مَنْ تحب فراقًا طويلًا، ولكن اذكر أن الحياة قصيرة ولا بُد مِن مفارقتها اليوم أو غدًا. إن ما له نهاية قصير وسيكون لقاء بعد هذا الفراق، لقاء دائم وبقاء أبدى. فإن كنت تبكي مَنْ فارَقْت، فاذكر أنه في جوار الرب الذي ستمسح يده المباركة كل دمعة من عينيك. اطلب عزاءك منه فهو قادر أن يعزيك ويضمد جراحك، وسوف يجمع شمل مَنْ تَفَرَّقوا أمام عرشه المجيد. فيلتقي كل منا بِمَنْ يحب، حيث لا دموع ولا بكاء ولا فراق إلى الأبد.
ما رأيت إنسانًا فقد زوجته إلا وسمعت منه روايات وأحاديث عن حلاوة عِشرتها وصِدْق إخلاصها وشدة وفائها، وكيف كانت مثالًا للتضحية والأمانة.. فيا أيها الزوج الذي ماتت زوجته، إن كانت مَنْ فقدت على مثل هذه الخِصال فلا تدع تذكاراتها سببًا لأحزانك، بل اجعلها موضوعًا لتعزياتك بأنها انتقلت إلى السعادة العلوية والراحة السرمدية. اذكر أتعابها الماضية وأن الله تعالى أراحها سريعًا من آلام هذه الحياة المملوءة بالأوجاع. وان كنت تحبها محبة حقيقية فبارك الله على نصيبها السعيد الذي نالته. وان شئت أن تراها يومًا فانسج على منوالها وسِرْ في طريق الله الموصِلة إلى المجد. ولتكن هذه التجربة التي أصابتك نذيرًا لك ببطلان هذه الدنيا. اعلم أن فرصة هذه الحياة القصيرة أننا لسنا إلا في دار غربة وأننا سائرون نحو الأبدية. فأسرع في الرجوع إلى الله وارفع قلبك عن محبة هذا العالم، وضع كل ثقتك وأملك في السماء، عالمًا أننا ما دمنا في هذا الدار فنحن عُرْضَة لنوائب عديدة وأرزاء الأحزان ووادي الدموع. واتخذ من هذا المصاب درسًا آخر هو أن ترحم المصابين المتألمين أمثالك الذين يئنون تحت أثقال بلاياهم، فلست وحدك المتألم والحزين ولا بيتك فقط هو مَحَطّ الحُزن وعِبء أحزان مختلفة الأشكال متنوعة الصنوف. وأنه من الواجب على كل إنسان أن يشترك مع الآخرين في آلامهم ويواسيهم في ضيقاتهم ومصائبهم.
وان كان لك أولاد فاذكر كيف أنه تضاعفت عليك الواجبات. فاجتهد لتعوضهم ما خسروا بمحبتك لهم وعنايتك بتربيتهم. فسيكونون قُرَّة لعينيك وستراهم يومًا كأغصان الزيتون حول مائدتك، واحذر من أن محبتك لهم وزيادة شفقتك عليهم خوفًا من انكسار قلوبهم تجعلك تتراخى في تربيتهم وتطلق لهم زمام أنفسهم وتعرِض عن تقويمهم، فانتبه لذلك واحذره كل الحذر. وكُنْ قدوة لهم في التصرفات. وَمَهِّد لهم طريق الصلاح. وَعَلِّمهم من مِثالك ما يجعلهم رجالًا فضلاء أتقياء. وبذلك تعيش في الدنيا سعيدًا. وتجتمع أنت وأفراد عائلتك معًا أخيرًا بالمجد في دار النعيم حيث الحياة الأبدية والمجد الذي لا يزول.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/habib-guirguis/consolation/wife.html
تقصير الرابط:
tak.la/fs22zp2