يضع العظيم بين القديسين أثناسيوس الرسولي في كتابه "تجسد الكلمة" -في الفصلين الرابع والخامس تحديدًا- أساسًا بني عليه اللاهوتيين الأرثوذكس على مر العصور فكرتهم عن وجود الشر. فيقول القديس أثناسيوس:
{وهكذا خلق الله الإنسان وكان قصده أن يبقى في غير فساد. أما البشر فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكروا في الشر وابتدعوه لأنفسهم كما أشرنا أولًا، فقد حكم عليهم بحكم الموت الذي سبق إنذارهم به، ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلقوا، بل إن أفكارهم قادتهم إلى الفساد ومَلَكَ عليهم الموت. لأن تعدي الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجدوا من العدم هكذا بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن.}[32]
وبذلك يوضح لنا جليًا القديس أثناسيوس أن الشر من اختراع البشر ولم يكن بسبب خلقة الله. ثم يتطرق القديس أثناسيوس إلى أمر هام جدًا وهو أن:
[كل ما هو شر فهو عدم، وكل ما هو خير فهو موجود، ولأنهم حصلوا على وجودهم من الله الكائن، لذلك كان لا بُد أن يُحرموا إلى الأبد من الوجود.]
كما قال أيضًا في موضع آخر:
[في البدء إذًا لم يوجد الشر أيضًا، لأنه الآن لا يوجد في القديسين[33]، لأنه بالنسبة لهم الشر غير موجود. غير أن البشر فيما بعد بدأوا يخترعون الشر حسب تصوراتهم، وهكذا اخترعوا لأنفسهم أصنامًا حاسبين غير الموجود كأنه موجود.][34]
فالوجود والحياة عند الله وفي فكر الآباء الذين لهم فكر المسيح ليست هي النَفَس الذي يتنسمه الإنسان وينتهي فيموت ويُدفن في التراب، بل الحياة والوجود تعني أمرًا واحدًا وهو الإتحاد والالتصاق بالله.[35] ويُكمل أثناسيوس:
[فالبشر لم يقفوا عند حد معين في خطاياهم، بل تمادوا في الشر حتى أنهم تجاوزوا شيئًا فشيئًا كل الحدود، وصاروا يخترعون الشر حتى جلبوا على أنفسهم الموت والفساد، ثم توغلوا في الظلم والمخالفة ولم يتوقفوا عند شر واحد بل كان كل شر يقودهم إلى شر جديد حتى أصبحوا نهمين في فعل الشر].
وبهذا نجد أن تعديات البشر وخطاياهم هي التي أدخلت الشر إلى العالم وليس الله، حتى أن القديس أثناسيوس يقتبس صراحة من سفر الحكمة الآية التي نرتلها في قداس القديس باسيليوس في أول صلاة الصلح ويقول: "فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الإِنْسَانَ خَالِدًا، وَصَنَعَهُ عَلَى صُورَةِ ذَاتِهِ، لكِنْ بِحَسَدِ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْمَوْتُ إِلَى الْعَالَمِ[36]".
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وقد ورث هذا التعليم آباء كنيسة إسكندرية ونادي به الكبير بينهم، القديس كيرلس السكندري. فقد قال في مقالته الأولى على سفر التكوين:
[فلا تتذمر إذًا على الخالق لأنه أحضرنا إلى الوجود -بل بالأحرى ندين ذواتنا، نحن الذين بإرادتنا أصبحنا في معاناة بسبب الشر -لأن أذهاننا وفكرنا كانا صالحين][37].
وبهذا يؤكد القديس كيرلس كلام أثناسيوس الرسولي أن الله قد خلق ذهننا وفكرنا صالحًا، وكان العالم كله حسنًا أمام الله، ولكن الإنسان بإرادته هو الذي صنع -وما زال يصنع- الشر وانخدع فيه وهذا الشر هو الذي يسبب للإنسان معاناة.
وينقل لنا الآباء النُساك نفس الفكر أيضًا والذي كنا قد ذكرناه مسبقًا، بأن الله يسحب عنايته من الإنسان بسبب كبرياءه. فيرسل أبينا القديس أنطونيوس لتلاميذه قائلًا:
[أما من يسعى بهواه، وهو يظن أنه هوى الرب، فإن الله لا يعضده في شيء؛ بل يتركه للشياطين لتسكن في قلبه الليل والنهار ولا يتركونه يجد شيئًا من الراحة؛ لأن قلبه يصير مظلمًا لا يرى شيئًا من النور البتَّة، ويجعلونه بغير قوة في كل أموره الظاهرة والباطنة، بسبب انعدام النعمة. ويجلبون عليه أشياء أخرى كثيرة صعبة ومتعبة، لا أستطيع أن أنطق بها.][38]
ويقول أيضًا:
[إذا لم يأتي علينا قتالٌ فعلينا أن نتضع جدًا عالمين أن الله لمعرفته بضعفنا رفع عنا القتال، ولكن إن افتخرنا يرفع عنا ستره ومعونته فنهلك][39]
كذلك يقسم القديس بفنوتيوس أمور هذا العالم إلى قسمين: القسم الأول هو أمور بحسب مشيئة الله وهي الأمور التي تتوافق مع الفضيلة ومجد الله. أما القسم الثاني فهو أمور تحدث بسماح من الله وهي الأمور الضارة والخطيرة. ثم يقول:
[لأنه عندما يغمر الكبرياء إنسانًا ويتباهى بجمال أحاديثه وينسب هذا الجمال وفيض معرفته ليس لله بل لنسكياته ومعرفته الخاصة به؛ حينئذ يبعد الله عنه ملاك العناية الإلهية، وعندما يبعد هذا الملاك يُبتلى الإنسان من العدو ويتباهى بقدرته الطبيعية ثم يسقط في النجاسة بسبب إعجابه بنفسه الممتلئة بالكبرياء. وهكذا تُنزع عنه حكمته...[40]]
_____
[32] أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الأبائية، الفصل الرابع.
[34] أثناسيوس الرسولي، ضد الوثنيين، ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الأبائية، الفصل الثاني.
[35]عن موضوع الحياة والموت، راجع كتاب "إيمان الكنيسة حول آية: ونفخ الله في أنفه نسمة حياة" للكاتب.
[36] (حكمة 2: 23، 24).
[37] القديس كيرلس الكبير، جلافيرا سفر التكوين، ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الأبائية، المقالة الأولى.
[38] الأنبا أنطونيوس، مخطوط 23 دير أنبا مقار، الرسالة العشرون.
[39] يذكر كتاب فردوس الآباء الجزء الأول ص 92 أن هناك مخطوطة تقول إن هذا القول لأنبا أنطونيوس.
[40] فردوس الآباء الجزء الأول، ص418 و419.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-pakhomius-marcos/god-peace-vs-calamity/patristic.html
تقصير الرابط:
tak.la/jg2pqb8