أما عن فكر مدرسة اسكندرية، فنجد أن العلامة أوريجانوس قد أرسى مفهومًا انتهجه آباء مدرسة الإسكندرية من بعده. يقول العلامة أوريجانوس صراحةً أن الشرور لم تُخلق بواسطة الله ولكن الله هو طبيب شافي وأبٌ مربي. ووضع رأيه في بعض النقاط:
* تسمية بعض الأمور بـ“الشر" هي تسمية غير لائقة.
* كيف سيدين الله المسكونة إذا كان هو خالق الشر؟! كيف سيعاقب الأشرار إذا كان هو الذي خلق الشر وجعلهم يصنعونه؟!
* أعمال الله الأساسية هي خير، ولكن قد تنتج منها بعض الأمور التي نظنها شرًا. فمثلًا يمكن أن نظن أن النشارة الناتجة من عمل نجار أنها قمامة، في حين أنها كانت جزءًا من الخشب، كذلك لمن يبنى بيتًا، سينتج ترابًا وعفارة يمكن أن نراها قاذورات لكنها كانت جزءًا من مادة البناء. فما يحاول العلامة أوريجانوس فعله هنا هو أن يحول أعيننا عن فهمنا الضعيف الحالي للأمور، إلى الجمال الأصلي الذي صنعه الله.
يمكننا أن نضيف أمرًا يشرح لنا هذه النقطة التي يمكن أن يساء فهمها. لقد كان هدف الله أن يخلق الإنسان على صورته حرًا يختار بإرادته طريق الخير أو طريق الشر. فإذا لم يجعل له الله وصية فلن يكون الإنسان حُرًا. وبذلك وضع الله له وصية عدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. فلأجل أن يصنع الله عملًا عظيمًا -الذي هو الإنسان الكامل الذي يختار بإرادته الخير والشر- كان يجب أن يضع أمرًا قد نظن أنه شرًا. ولكن الله لم يخلق شجرة رديئة أو فاسدة لأن كل خلقه كان صالحًا، ولكن الوصية تقتضي وجودها.
* الأمر الذي يصفه الكتاب المقدس هنا هو "الشرور" الجسدية أو الخارجية، وهذه يمكن أن نقارنها بما يفعله الآباء والمعلمون في تربية أولادهم، الأمر الذي في بعض الأحيان يظنه الأولاد أنه شر.
ينتقل بعد ذلك العلامة أوريجانوس لتشبيه يشترك فيه مع القديس يوحنا ذهبي الفم، إلا أن الأخير قد استفاض فيه أكثر وهو تأديب الطبيب لمرضاه.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
* ترجمة نص العلامة أوريجانوس: الكتاب السادس، الفصلين 55 و56 من ضد كلسوس[44].
فصل 55
{الفصول المكتوبة بالفعل، من الممكن أن توصِف بطريقة متعسفة (غير لائقة) المنافع الخارجية والجسدية "بالخير"، وأقصد هذه الأمور التي تساهم في الحياة الطبيعية، بينما الأمور التي تفعل عكس ذلك، تصفها (الكتب) "بالشريرة". وفي هذا المعنى نجد أن أيوب يقول لزوجته: "أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟[45]". وهكذا نجد أن الكتب المقدسة، في مواضع معينة، تضع الكلمات الآتية على فم الله: "أنا صانع السلام وخالق الشر[46]". وأيضًا في موقع آخر حيث يقال عنه:" لأنَّ شَرًّا قَدْ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ إِلَى بَابِ أُورُشَلِيمَ...[47]" وهي فصولًا تصيب الكثير من القارئين بالاضطراب، الذين لا يرون ماذا تعني الكتب بـ"الخير" و"الشر". إنه من المحتمل أن كلسوس[48] وهو مرتبك، أعطى تعليقًا على السؤال: "كيف أن الله يخلق الشر؟"، أو بينما هو يسمع أحدهم وهو يناقش هذه الأمور بطريقة جاهلة، قد جعل هذه الكلمات التي لاحظناها. أما نحن، فنحافظ على أن "الشر" أو “الأذى" والأفعال التي تتقدم في هذا الاتجاه، فهي لم تُخلق بواسطة الله. لأنه لو كان الله قد خلق فعلًا ما هو بالحقيقة شرًا، فكيف ممكنًا إذًا إعلان الدينونة بثقة، والذي عَلِمناه أن الأشرار سيعاقَبون على أعمالهم الشريرة على قدر زيغانهم، بينما هؤلاء الذين عاشوا حياة فاضلة أو قاموا بأعمال فاضلة سيتنعمون في البركة، وسينالون مكافآت من الله؟ أنا أعلم جيدًا أن هؤلاء الذين بجرأة سيؤكدون أن هذه الشرور قد خُلقت بواسطة الله، سيقتبسون مصطلحات معينة من الكتب المقدسة (التي تسند آرائهم)، وذلك لأننا لا نستطيع بأسلوب واحد متصل من القطع الكتابية؛ لأنه بالرغم من أن الكتب المقدسة عمومًا تلوم الشرير وتستحسن الفاضل، إلا أنها تحتوي على بعض النصوص، وإن كانت قليلة نسبيًا، التي تصيب عقول الجهال بالاضطراب، ولكنني لا أعتقد أنه من الملائم لهذه الرسالة أن أقتبس هذه العبارات المتضاربة، والتي هي كثيرة في عددها، وشروحاتها، والتي ستتطلب الكثير من الإثباتات. "الشرور" وإن كانت هذه التسمية لائقة، لم تُخلق بواسطة الله. ولكن القليل (من الأمور الشريرة) -بالرغم من أنها قليلة بالمقارنة مع نظام العالم أجمع- قد نتجت من أعمال الله الأساسية، مثلما ينتج عن عمل النجار الرئيسي بعضًا من القشرة الملتوية أو النشارة. أو مثلما يظهر بعض المعماريين أنهم سبب القمامة التي تظهر محيطة بمبانيهم في صورة قاذورات ساقطة من الحجارة أو الجبس.
الفصل 56
إذا كنا نتكلم إذا عما نسميه "الشرور" الجسدية أو الخارجية، والتي هي تسمية غير لائقة، فإنه في بعض المناسبات، حين بعض من هذه الشرور قد أُوجد بواسطة الله، حتى أنه عن طريقها (هذه الشرور) يصير تغيير (تأثر) لبعض الأشخاص، وما هو العبث الذي سيتبع هذا الأمر؟ فإنه إن سمعنا عن هذه المعاناة -والتي تم اصطلاحها خطأَ بالشرور- التي يسببها الآباء، والمعلمين، والمربين على أولئك الذين هم تحت رعايتهم، أو على المرضى الذين تُجرى لهم عمليات أو يتم كيّهم من الجراحين من أجل شفاءهم، كنا سنقول إن هذا الأب كان يسيء معاملة ابنه، أو المدرسين (يسيئون لـ) تلاميذهم، أو الأطباء (يسيئون لـ) مرضاهم، (لكننا) لا نلوم الجراحين ولا المُعاقِبين (المربين). إذا بنفس هذه الطريقة، نقول إن الله يأتي بالرجال مثل هذه الشرور من أجل تحويل وعلاج أولئك الذين يحتاجون إلى هذا الانضباط (التقويم)، ولن يكون هذا الرأي سخيفًا، ولن "يأتي الشر من عند الرب إلى بوابات أورشليم". فهذه الشرور هي عبارة عن عقوبات يلقاها الإسرائيليون من أعدائهم وذلك لأجل تغييرهم (إصلاحهم). ولا "يفتقد بعصا (بقضيب) معصيتهم، وبضربات إثمهم[49]". ولا يمكن أن يُقال "أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ. لاَ يُنَجُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ يَدِ اللَّهِيبِ.[50]" وبنفس الطريقة أيضا نشرح المصطلحات:" صانع السلام وخالق الشر"، لأنه يدعو إلى الوجود "الشرور الجسدية" و"الخارجية" بينما يُنقي ويُدَرّب أولئك الذين لا ينضبطون بالكلمة والعقيدة السليمة. هذا هو إذن جوابنا على سؤال: "كيف خلق الله الشر؟"
_____
[44] Origen, ANF04, Against Celsus, Ch. LV & LVI, Pg 599 & 600.
[45] (أي 2: 10).
[46] (إش 45: 7).
[47] (ميخا 1: 12).
[48] أحب كلسوس الحضارات القديمة التي آمنت بتعدد الآلهة، وأُعجب بتعدد الآلهة المصري، حتى أنه انتقد موسى الذي قال إنه أضل بني إسرائيل بعبادة إله واحد، كما أنه نادى بأن يسوع صنع معجزاته بالسحر.
[49] (مز 89: 32).
[50] (إش 47: 14).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-pakhomius-marcos/god-peace-vs-calamity/origen.html
تقصير الرابط:
tak.la/64hr24x