محتويات: (إظهار/إخفاء) |
معرفة الله نزل إلى مستواهم رسم جوهر الآب كلمنا في ابنه في الابن نتأمل لاهوت الآب |
وهناك سبب آخر يوضحه معلمنا القديس أثناسيوس كهدف من أهداف التجسد وهو معرفة الله.
يقول إن فكر البشر كان قد أنحط نهائيًا إلى الأمور الحسية. لذلك استتر "الكلمة" بظهوره في الجسد حتى يستطيع -كإنسان- أن ينقل البشر إلى ذاته، ويركز إحساسهم في شخصه. وعندما يتطلع إليه البشر كإنسان، فإنهم يقتنعون في نفس الوقت أنه ليس مجرد إنسان بل هو الإله وكلمة الله الحق وحكمته، وذلك بسبب الأعمال التي يعملها.
ولكي يتمكن الإنسان من معرفة الله لم يقدم المسيح نفسه ذبيحة عن الجميع -بتقديم جسده للموت وقيامته ثانيًا- بمجرد مجيئه مباشرة، لأنه لو فعل ذلك لما أمكن أن يكون معروفًا لدى البشر. ولكنه بالآيات التي فعلها بمجيئه صار ظاهرًا جدًا، ولم يعد يُعرف بعد كإنسان، بل الله الكلمة.
وهكذا بتأنس المخلص تمم عملين من أعمال المحبة:
أولًا: رفع الموت عنا وجددنا ثانية..
ثانيًا: أعلن لنا نفسه، وعرفنا ذاته بأعماله أنه "كلمة الآب" وملك الكون ومدبره، بعد أن كان قبلًا غير ظاهر(26).
وكما ينزل المعلم الحنون إلى مستوى تلاميذه، هكذا الله إذ رأى البشر قد رفضوا التأمل فيه وأنحطت أفكارهم إلى أسفل باحثين عن الله في الطبيعة وعالم الحس، أخذ لنفسه جسدًا ومشى كإنسان بين الناس، حتى يستطيعوا أن يدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده، ويدركوا الآب فيه.
فإذا نظروا إلى الخليقة برهة رأوها تعترف بالمسيح ربًا. وإذا اتُجهت أفكارهم إلى تأليه البشر وجدوا أن أعمال المخلص - إذا قورنت بأعمال الناس – تظهره وحده دون غيره أنه ابن الله. وإذا أنحرفوا إلى الأرواح الشريرة يرون كلمة الله يطردها، فيدركون أنه هو وحده الله. وإذا إنحدرت بهم أفكارهم نحو الأموات يرون في قيامة المخلص أنه هو الإله الحق، كلمة الآب، ورب الموت أيضًا.
ولهذا ولد، وعاش كإنسان، ومات وقام، وغطى بأعماله على أعمال كل من سبقوه، حتى إذا اتجهت أفكار البشر إلى أية ناحية استطاع أن يستردهم منها إلى معرفة أبيه الحقيقية، لأنه "قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك" (لوقا 19: 10)(27).
وهكذا رأينا في المسيح أنه ابن حقيقي للآب، طبيعي وأصيل من جوهره الذاتي. فهو إله حقيقي واحد مع الآب. وهو بذلك "رسم جوهره" أي التعبير الموضح لذات الآب. نور من نور. إنه قوة الآب ونفس الصورة الحقيقية لجوهر الآب. من أجل ذلك يقول الرب "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9)(28).
وكما أنه إذا أراد أن يرى الله غير المنظور بطبيعته - لأن الله لا يمكن أن يُرى مطلقًا – فإنه يستطيع أن يعرفه من أعماله، وكذلك من يعجز عن رؤية المسيح وإدراكه بعقله وفهمه، عليه أن يدركه على الأقل من أعماله في الجسد، ليعرف إنها ليست أعمال بشرية بل هي أعمال الله، ويتعجب انه بالوسائل البشرية ظهرت الأمور الإلهية. وبالموت نال الجميع عدم الموت. وبالتجسد اُظهرت العناية الإلهية العامة، كما عرف واهبها وبارئها، كلمة الله نفسه(29).
← اقرأ المزيد من كِتابات الآباء هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في قسم الكتب.
ومعلمنا بولس يقول عن المسيح إنه "الكائن على الكل إلهًا مباركًا" (رومية 9: 5)، ويقول عنه إنه "قوة الله" (رومية 1: 16)، ثم يعود فيقول إن أموره غير المنظورة ترى بوضوح منذ خلقة العالم، حتى أن قوته الإلهية ولاهوته يمكن إدراكهما بواسطة الأشياء المخلوقة (رومية 1: 20)، وبولس بكل تأكيد يقصد بقوته الإلهية "الكلمة" بقوته المنظورة في الخليقة، فالإنجيل يقول "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 1: 3).
وبالتالي يتحتم أن مَنْ يتأمل الخليقة تأملًا صادقًا سوف يتأمل "الكلمة" الذي خلقها وبواسطته يمكن ان يدرك الآب. لذلك يقول المخلص "ليس أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (متى 11: 27). كما أن الرب لما سأله فيلبس "أرنا الآب وكفانا" لم يقل له "تأمل في الطبيعة" بل قال له "من رآني فد رأى الآب" (يوحنا 14: 9،8) وهذا يؤكد أن بولس الرسول عندما قال إن قوته الأزلية ولاهوته تدرك بالمخلوقات، إنما كان بحق وأصالة يقصد "الكلمة" الكائن في الخليقة. كما قال عنه الكتاب "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء، الذي به أيضًا عمل العالمين" (عبرانيين 1: 2)(30).
وكما أن الله معروف في الخليقة بأعماله، يجب أن يظهر أيضًا في الإنسان ويعمل فيه(31). لذلك إستطاع ان يكشف عن قدرة الله على الإتصال بالإنسان المخلوق علي صورته، والإتحاد به. كما كشف أن المسيح هو الله نفسه الذي صار جسدًا ورأينا مجده (يوحنا 1: 14) لذلك فكل الصفات التي يمكن أن تقال عن الآب قيلت عن المسيح. فالكتاب يذكر أنه الله "وكان الكلمة الله" (يوحنا 1: 1) وإنه قادر على كل شيء "هذا الذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء" (رؤيا 1: 8)، وأنه رب "ورب واحد يسوع المسيح" (1كورنثوس 8: 6)، وأنه "النور الحقيقي" (يوحنا 1: 9;8: 12) وغافر الخطايا "ان لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا" (لو 5: 24).
وهكذا فإن كل صفات الآب هي للابن، وصفات الابن هي للآب. يقول الرب "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" (يوحنا 17: 10). لذلك يمكن بواسطة الابن أن نتأمل لاهوت الآب، لأن الابن هو من ذات جوهر الآب. يقول المخلص "الذي رآني فقد رأى الآب"،"أنا في الآب والآب فيَّ"،"أنا والآب واحد" (1 يوحنا 14: 10،9;10: 30)(32).
وبالإجمال يؤكد القديس أثناسيوس أن من يدير ظهره مبتعدًا عن كلمة الله المتجسد ويصطنع له معرفة أخرى فإنه يسقط حتمًا إلى العدم(33).
_____
(28) ضد الأريوسيين 1: 9.
(29) تجسد الكلمة 54: 2،1.
(30) ضد الأريوسيين 1: 12،11.
(32) ضد الأريوسيين 3: 5،4.
(33) المرجع السابق 1: 7.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-matthias-farid/incarnation/knowing-god.html
تقصير الرابط:
tak.la/rng6y3j