نشأته
معموديته
سيامته أسقفًا
عمله الكرازي والرعوي
عجائبه
نهاية سيرته
تكريمه
ولد وثنيًا من أبوين وثنيين ذوى شهرة وكرامة عالية، ودُعِيَ اسمه ثيودورس Theodorus، ولم يعرف بالاسم اغريغوريوس إلا بعد قبول الإيمان المسيحي ومعموديته.
وكانت ولادته في قيصرية الجديدة بنواحي البحر الأسود من أعمال البونطس في آسيا الصغرى في أوائل القرن الثالث، حوالي سنة 213 م، وتوفى والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، لكنه أكمل تعليمه إذ كان محبًا للمعرفة ومشتاقًا إلى إدراك الحق... وكان مهتمًا بدراسة القانون والبيان.
وحدث أن زوج أخته كان قد عين معاونًا لحاكم فلسطين، فصاحبها عام 233 م. ومعه أخوه أثينودورس Athenodorus الذي صار بعد ذلك أسقفًا واحتمل الكثير من أجل الإيمان بالمسيح.
وهناك درس العلوم القانونية الرومانية، حيث كانت هذه العلوم في ذلك الوقت سمة كبار القوم، وكان يتأمل مظاهر العبادة الوثنية المحيطة به من يوم وإلى يوم... فنما فيه شعور بالنفور من ناحيتها، وبدأ يتلمس طريق الحق.
وفى قيصرية فلسطين التقى هو وأخوه بالعلامة أوريجانوس السكندري، الذي كان قد لجأ إليها أثناء فترة خلافه مع البابا ديمتريوس وأنشأ بها مدرسة لاهوتية ضخمة، فهزهما هزًا وغير أفكارهما وبرنامجهما.
وبالرغم من عدم معرفة أوريجانوس السابقة لهما، إلا أنه أحسن استقبالهما وهما بعد وثنيين، مظهرًا لهما سرورًا من أجل اصطيادهما وربحهما لحساب المسيح، وأنقذهما من ظلمة العبادة الوثنية.
وارتبطًا به وأحباه جدًا، وتتلمذا على كلماته وعظاته، واجتهدا في مطالعة الكتاب المقدس وفي الدراسة بمدرسة الموعوظين، وأعجب ثيودورس الشاب به جدًا إلى الحد الذي جعله يكتب خطابًا يذكر فيه تفاصيلًا ملموسة عديدة، ومدحه بدون تحفظ قائلًا: "إن ملاك الله أرشدنا في طريق هذه الحياة، وربطنا بحبل المودة مع هذا الرجل العظيم الذي سنستفيد منه جدًا، ومع كونه مسيحيًا ولا معرفه له بنا، إلا أنه أحسن استقبالنا وأظهر لنا سرورًا كأننا أناس قد هداهم الله إلى شباكه ليصطادنا ويربحنا للإنجيل وينقذنا من ظلام عبادة الأوثان".
كان العلامة أوريجين يهتم بتدريس شتى العلوم والمعارف والفلسفات معتبرًا أنها مقدمة للفلسفة الحقة الحقيقية التي هي دراسة الأسفار الإلهية، وطريق خلاص للعقلانيين والفلاسفة المعاصرين له.
وأيقن الأخان أن الحق الذي يطلبانه لا يوجد في كتب الفلاسفة ولا في الفكر البشرى المجرد، إنما خلال نور الإيمان وإعلانات الله، فقادهما أوريجانوس بلباقته وحكمته ونسكه إلى قبول الإيمان والدراسة في مدرسة الموعوظين.
وأشاد أوريجين باغريغوريوس معتبرًا إياه ابنًا مكرمًا له، حاثًا إياه أن يضرم مواهبه ويستثمرها لحساب ملكوت الله، وأن يوظفها درسه من فلسفات في خدمة العمل الكرازي لمواجهة خليط الفلسفات بذات أسسهم، وتفنيد حججهم وقيادتهم إلى الإيمان الحقيقي.
ويشهد اغريغوريوس لمعلمه ومعينه أوريجين بأنه قدم حياته مثلًا للحياة الإنجيلية وأن سر انجذابه له كان في أعماله التي فعلها أكثر من التعاليم التي عمله إياها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى...... وكان اغريغوريوس يذكر دائمًا كيف قدم له أوريجين التعاليم المسيحية العلمية، كيف علمه كلمة الله وكيف ساعده ليترك حياته البربرية الوثنية، وكيف تتلمذ عند قدميه قرابة خمس أعوام، وكيف سلمه لاهوت الحياة الروحية، وكيف قدم له الإيمان المستقيم بطريقة شاملة.
وأشاد أيضًا اغريغوريوس العجائبى بمعلمه أوريجين، عندما وصف إمكانياته في تفسير كلمة الله قائلًا عنه: "الروح القدس الذي يوحى للأنبياء، كرمه كصديق، وعينه كمفسر خاص به"، "له القدرة أن يصغى لله ويفهم أقواله ويشرحها للبشر لكى يفهموها هم أيضًا".
ويذكر علم الباترولوچى أن أوريجانوس أرسل رسالة إلى تلميذه القديس اغريغوريوس كتبت ما بين عام 238 وعام 243 م. بينما كانا أوريجين في نيقوميديا يطلب فيها منه أن يقتطف من الفلسفات اليونانية ما يمكن أن تنتفع به المسيحية، كما انتفع اليهود بالأواني الذهبية والفضية التي أخذوها من المصريين في خدمة الإله الحقيقي، كما طالبه بالاهتمام الشديد بدراسة الكتاب المقدس وأن يقرع الباب ويسأل خلال الصلاة لكي يتفهم الأسرار الإلهية.
يوصى أوريجين تلميذه اغريغوريوس قائلًا له: "جاهد في قراءة الكتب الإلهية، نعم كن مثابرًا.. اقرع فسيفتح لك الباب... ولا تتوقف عن القرع والسؤال، فإن الصلاة هي أهم عون لازم لمعرفة الحق الروحي، لهذا قال الرب اقرعوا فسيفتح لكم، اطلبوا تجدوا كما قال اسألوا تعطوا".
وبالجملة لقد استمر اغريغوريوس وأخوه ملتصقين بأوريجين، إلى أن ثار اضطهاد مكسيميانوس، مما اضطر معه أوريجين إلى ترك قيصرية إلى حين، وحينئذ أتى اغريغوريوس إلى الإسكندرية المدينة العظمى المحبة للمسيح، ودرس الطب والفلسفة اللذين كانا في أوج شهرتها هناك.
وفى الإسكندرية كان غريغوريوس وأخوه اثينودوراس يتعلمان في مدرسة الموعوظين التي كان يديرها ويرأسها وقتئذ القديس ديونيسيوس (انظر كتاب "البابا ديونيسيوس السكندري "ضمن هذه السلسلة (أخثوس) IXΘYΣ الذي صار فيما بعد البابا السكندري.
وبعد ذلك بقليل عاد ثيودورس إلى مدينته ونال سر المعمودية ودعى باسم غريغوريوس، ولا نستطيع أن نتيقن تاريخ ومكان اقتباله المعمودية، وإن كان البعض يرجح تاريخ معموديته هو وأخيه في سنة 239 م، ثم بدأ منذ ذلك الحين يرتقى سلم الفضائل.
وهناك في مدينته انطلق إلى البرية ليعيش حياة الخلوة والتأمل ودراسة الكتاب المقدس والتدرب على الحياة النسكية، إلا أن الرب حركك قلب القديس
أفديموس مطران أماسيا الذي كان متصفًا بروح النبوة، والذي كان قد بلغه خبر قداسة غريغوريوس، فأرسل أفديموس يستدعيه، إلا أنه هرب من برية إلى برية.
بعد أن عطرت سيرة اغريغوريوس الأرجاء، وصار مشهودًا له من الجميع، رأوا سيامته أسقفًا على مدينة قيصرية الجديدة التي لم يكن بها من المسيحيين سوى 17 شخصًا، وصار أسقفًا لهذه المدينة التي بلا رعاية، بعد إلحاح وصلوات كثيرة، وكانت في حال أسوا مما سواها، وكانت تحتاج إلى أسقف كارز وراعى له سيرة نقية وبلا عيب.
طلب القديس اغريغوريوس متوسلًا لكي يهبه الله نعمة الفهم والشرح لحقائق الإيمان، ولا سيما سر التثليث والتوحيد، وسر التجسد الإلهي، وتدبير الخلاص... فسمح الله أن تظهر له السيدة العذراء في رؤيا ومعها القديس يوحنا الرائي واللاهوتي الذي شرح له الحقائق الإيمانية وسلمه قانون العقيدة، وقام غريغوريوس وسجل صورة هذا الإيمان بحسب ما روى لنا القديس اغريغوريوس النيصي كاتب سيرته.
بدأ الأسقف الجديد يسير في المدينة، وهو يحمل في داخله قوة إلهية وغيرة رسولية، وإذ به يرى هياكل الأوثان، فدخل بها وصار يصلى، وفي الصباح جاء كاهن الوثن فوجد الشياطين قد هربت من الهيكل، وسمع أصواتهم تصرخ قائلة: "إن اغريغوريوس قد أخرجنا من الهيكل" فذهب كاهن الوثن إلى حاكم المدينة ليشكو إليه هذا الغريب الذي تخضع له الشياطين.
ومن فرط عجائبه وعمل الله معه، أن هذا الكاهن الوثني آمن على يديه فيما بعد وصار له تلميذًا لا يفارقه، ويرى البعض أنه خلفه على كرسي قيصرية الجديدة بعد نياحته.
تأيدت خدمته بالعجائب حتى أن كثيرين آمنوا، وأخذ يعلمهم الإيمان المسيحي بقدوته وسلوكه كما بعلمه ومعرفته، حتى أن الفضائل كانت تتلألأ في كل أفعاله وحركاته، وببركة صلواته وجهاده وسعيه الكرازي الكبير، قبل عدد كبير من أهل المدينة نعمة المعمودية المقدسة.
جاهد اغريغوريوس من أجل العملي إلى واقع الكرازة فاستخدمه المخلص ليكون كأسًا ثمينًا يسكب فيه نعم الخلاص لشعب إيبارشيته، وكان شغله الشاغل هو أن يجعل من قيصرية الجديدة مدينة تعرف الله ومن شعبها شعبًا مستعدًا لله، فعاش من أجلهم ومن أجل خلاصهم.
صار صوته صوتًا رسوليًا ولسانه بوقًا سمائيًا، فأودع في أذهان ونفوس شعبه وديعة الإيمان، وكشف سيرته عن شخصية أسقف يعشق الكرازة ولا يكف عن العمل لمجد الله، كارزًا بالحب والعمل، يعد لسر المعمودية بخدمة الكلمة ثم يتمم السر.... وبصلاحه أغلق حتى أفواه الأعداء وصار حتى غير المؤمنين يوقرونه.
وعاش يرعى ويصلى ويكرز ويضم للإيمان وقدم حياته قبل كلماته حياة غير ملونة، بل بسيرة حسنة صار نورًا وملحًا وسفيرًا، صار حياة تضئ وأعمال تتكلم وقوة تسد الشيطان وتبكمه، فآمن على يديه كثيرون واجتذب قلوب شعب قيصرية الجديدة إلى شخص المسيح المخلص.
في غيرة مقدسة قدم للمسيح نفوس كثيرة كما لو كان ينفث نارًا، وفي حرارة ومثابرة حول الوثنيين إلى مسيحيين، بعد سهر واضطهاد كما لو كان قائد جيش، وبصلاحه خلص مدينة بأسرها، بعد أن تراكم داخله عدد كبير من الشهداء، إذ أن الشهيد يموت مرة من أجل سيده، أما اغريغوريوس فكان يموت كل يوم من أجل قطيعه، وبشر الكل وسلك كحمل وسط ذئاب ليحولها إلى حملان، فأخذ المكافأة.
أراد أهل المدينة أن يبنوا كنيسة، إلا أن جبلًا أعاق أن تكون هذه الكنيسة واسعة، فصلى القديس وإذ بالجبل ينتقل مسافة مناسبة لبنيان الكنيسة.
كان نهر ليكوس يفيض ويغرق المحاصيل فقام القديس ووضع عصاه على ضفة النهر، وطلب من الله أن لا يتخطى النهر هذا الحد، وإذ بالنهر لا يتجاوز العصا بل وصارت هي شجرة كبيرة.
استخف بالقديس شخص محتال بإدعاء انه يحتاج إلى مال ليدفن صديقه، ولما قدم له القديس ثوبه مع مساعدة، وجد أن صديقه قد مات فعلًا.
تقاطرت عليه الجموع ليصلى من أجلها فشفى كثيرين من وباء الطاعون الذي استشرى في المدينة، وكان الموضع الذي يزوره لا يأتي إليه الوباء مرة أخرى، وبذلك انتهى هذا الوباء من قيصرية الجديدة وآمن الجميع بالسيد المسيح وهدموا معبد الأصنام.
حدث اضطهاد في البلاد فقام القديس بافتقاد كل عضو من أعضاء كنيسته الحية والفتية، وضمد الجراح وجمع رفات الشهداء ورتب تذكاراتهم ورسم يومًا للاحتفال بهم.
ودبر شئون غنمه الناطقة مدة تزيد على 26 سنة في رعاية وأبوة رسولية نادرة، وقبل نياحته اشتاق أن يفتقد أولاده ليعرف كم بقى في قيصرية الجديدة من الوثنيين، فإذ به يعرف أنه لم يبق بها سوى 17 وثنيًا، بينما كان عدد المسيحيين عند رسامته أسقفًا هو 17 مسيحيًا فقط.
و تنيح بسلام ودفن في مقابر الغرباء المساكين حسب وصيته حوالي سنة 271 م.
وقد كتب كتابات غنية بالفكر اللاهوتي العميق وبالشروحات العقيدية التي تفصح عن قدراته الفلسفية والعلمية في الوصف والتحليل والاستنتاج والشرح، تلك الأمور التي جعلت منه كارزًا ومبشرًا ناجحًا.
يعتقد أن سميه اغريغوريوس أسقف نيصص هو الذي كتب سيرته، كما مدحه القديس باسيليوس الكبير نقلًا عن جدته ماكرينا التي التقت بالقديس اغريغوريوس صانع العجائب واستمعت إلى عظاته... قال عنه باسيليوس: "إنه قديس مزين بروح الأنبياء والرسل، ظهرت في سيرته سمة الكمال الإنجيلي، في جميع طرقه التقوية.... فلم يصل مطلقًا ورأسه مغطى، وكان يتكلم باحتشام ووقار، ولم يرى أبدًا في غضب، ولم تخرج من فمه كلمة رديّة".
وقد دعاه باسيليوس بموسى الثاني، ولقبته الكنيسة بصانع العجائب أو العجائبي، وهو من المعترف بقداستهم في الكنيستين اللاتينية واليونانية، حيث تحتفلان بتذكار نياحته في اليوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) أما الكنيسة القبطية فتحتفل بتذكار نياحته في الحادي والعشرين من شهر هاتور، وتذكره في مجمع القداس الإلهي.
بركة صلاته تكون معنا آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/st-eghrighorios/story.html
تقصير الرابط:
tak.la/n4dqtc4