LENT: STYLE OF LIFE
وأخيرًا يصبح لنا الصوم وممارسة العبادات والصلوات الفردية والجماعية كنمط للحياة كلها, فلا يكون انشطارًا في الوجود أو ثنائية في الحياة, ولكن نمط حياة تُعاش في ديمومة مستمرة, نقتبلها أثناء الصوم كنسق ووتيرة للحياة بجملتها.. لأنَّ الأرثوذكسية هي العيش والاختبار والممارسة والتذوق والتلامس المستمر من غير ازدواج ولا انفصام ولا ثنائية ولا سطحية.. فَلَنا حياة واحدة, لا حياتان ولنا رأى واحد لا رأيان.
إنَّ الصوم نمط حياة تُشدِّد فيه الكنيسة على التوبة كمعمودية ثانية [أعطني يا رب توبة لكي أتوب قبل أنْ يسد الموت فمي في أبواب الجحيم].
والذين يدركون ويعرفون ويفهمون جمال العبادات وعمقها يتمتعون بها, فالجهل بالليتورجيا هو السبب المباشر في ضعف ممارسة الصوم وإدراك غايته فيصبح مجرد مجموعة من فرائض وعادات غذائية, ولا طريق إلى إدراك روحانية الصوم كتدريب يصبح نمط حياة, إلاَّ بالسماع الواعي والاشتراك في العبادات الصيامية (نصلي بالروح ونصلي بالذهن أيضًا), فتصبح عبادتنا خشوعية سهمية تعبدية نسكية بعيدة عن الشكلية والآلية (حينئذٍ لا يتعب فَمُنا, ولا يسكت لساننا, إذ ننطق بكرامة الصوم والصلاة).
إنَّنا ندرك معاني الصوم بالليتورجيا خلال ذكصولوجيات وإبصاليات الصوم, تلك العبادة التي تنكشف من خلالها رؤية الحياة والموت والأبدية, ونترنم فيها بترنيمات الفرح السماوي اللذيذ والأصيل الذي يفصح عن روحانية وأصالة الكنيسة, فبينما نحن صائمون نحس خلال العبادة أنَّنا نرنو إلى شاطئ الوطن السماوي وأنَّ سفينة حياتنا تتهادى حيث تعيَّن نصيبنا كوطن وكمواطنين [أهدنا إلى ملكوتك], نقترب من أرض الأحياء وأهل بيت الله, ممَّا حدَا بالآباء أنْ يضعوا ضمن صلواتنا: [نعم يا سيدنا اقبلنا إليك وأعطنا كمالًا مسيحيًا يرضيك ونصيبًا مع جميع قديسيك].
ولا شيء يجعلنا نعيش الصوم بعيدًا عن مفهوم الفريسي التافه الذي يجعل الصوم سلبيًا, إلاَّ التأمل في صلواتنا الكنسية التي استطاعت أنْ تطبع في وجداننا حلاوة هذا الزمن الروحي, حتى أنَّ أعضاء الكنيسة كلها عبر ضفاف النيل, يعيشون روحانية الصوم متشبهين بالقديسين وسكان البراري!! أليس الصوم والتربية النسكية هي التي صنعت شهداء الكنيسة ومُعترفيها, [شهداء المسيح تغلبوا على العذاب بواسطة الصوم واحتمال صبره].
[العذارَى الحكيمات المتسربلات بالطهارة كانت مصابيحهن مملوءة زيتًا بالصوم والصلاة].
وأيّ مؤمن ذاق طعم الحياة الليتورجية الحقيقية يدرك يومًا بعد يوم ما معنى أنْ نترجى, وكيف أنَّ المسيحية هي قبل كل شيء رجاء وفرح وتهيئة للملكوت, لذلك تؤازرنا في الصوم قوة الروح القدس لِنُعيد النظر في حياتنا وسلوكنا الشخصي فنقطع الأهواء والشهوات بسكين الروح, ونضبط أنفسنا بتعفف, نامين في الفضيلة والرحمة ساهرين على كلمة الله مواظبين على الصلاة القلبية بندامة قرع صدر.
[تعالوا لِنَصوم صومًا كاملًا لأنَّ بالصلاة والصوم يغفر لنا الرب].
والناظر بعمق إلى منهج كنيستنا الليتورجي, يعرف أنَّ كل مقومات الصوم, ليست مجرد "وصفات" ولكنها اقتراب وذبيحة نقدم فيها ذبيحة حبنا للمسيح العريس السماوي الذي صام عنَّا, حينئذٍ لا ننظر للصوم من بعيد, ولكن كأمر آتٍ إلينا من الله نفسه ليس فيه مساومة, رتَّبته أُمنا الكنيسة كفرصة للتغيير والتجديد والتوبة والتعمق, وهي فرصة نركز فيها أبصارنا نحو ربنا يسوع المسيح الذي صام من أجلنا لكي ما نتغَّذى به [تعالوا انظروا مخلصنا محب البشر الصالح, صنع فعل الصوم بتواضعه العظيم فوق الجبال العالية بانفراد جسدي, وعلمنا المسلك الذي نسلك مثله, أبطل قوة العدو وحيله وحججه, وافتضح المجرب أمامه].
وتنتهز العبادة خلال فترة الصوم الفرصة لِتُذكرنا وتُحضرنا إلى اكتشاف الحياة المسيحية كجهاد وتوبة مستمرة لا تنتهي, وكذلك تحرص على الجهاد وضبط النفس والمواظبة على الصلوات [قانون الأجبية] وحضور القداسات, وكل هذا يجعلها تفصح عن قانونية الجهاد الروحي الذي ينبغي أنْ يلفّ أعضاء الكنيسة, وهي أيضًا تُشير إلى قوة الصوم وبركاته كسلاح قوي له فاعليته, [المتمسكون بالصوم والصلاة دائمًا بأيديهم سيوف وأسلحة, ربنا يسوع ملك السلام يغبط الصوم وكل من مارسه, جنس الأشرار يهربون ويهلكون بواسطة الصلاة والطلبات مع الصوم, شهداء المسيح تغلبوا على العذاب بواسطة الصوم واحتمال صبره, العذارى الحكيمات المتسربلات بالطهارة كانت مصابيحهن مملوءة زيتًا بالصلاة والصوم].
إنَّ الآباء المسترشدين بالروح القدس الذين وضعوا البنية العامة للعبادة الليتورجية في الصوم أرادوا أنْ يجعلوا من الصوم نموذج ونمط الحياة بجملتها, حتى أنَّ المنهج الليتورجي القبطي رسم للعابدين طريق نموهم الروحي, مؤكدًا على محبة المسيح عريس الكنيسة لكل الخاطئين الذين يشتاق إلى رجوعهم إليه [لأني أعلم بالحقيقة أنِّي خاطئ وأعمالي الرديئة كلها ظاهرة أمامك, أقول بصوت العشار صارخًا قائلًا اللهم اغفر لي أنا الخاطئ].
لأنَّنا بالصوم ننال غفران الخطايا والتطهير [إنَّنا نحن شعبك وغنم قطيعك, تجاوز عن آثامنا كصالح ومحب البشر] [أيها المتحنن على الخطاة من أجل الصوم اغفر لنا خطايانا] [برودة وراحة ونياحًا من أجل الصوم تكون في الدينونة].
والصوامون سيكافأون عن ذبيحة صومهم مثلما نال الغلبة داود بن يسى ومثلما تحنن الرب على حواء وآدم بعد أنْ خدعتهما الحية, وأيضًا مثلما استنار عقل أخنوخ ورُفِعَ إلى السماء, وقبلت السماء صلاة إيليا وذبيحة إبراهيم من أجل الصوم, ومثلما خلص اسحق بتهليل من أجل الصوم, ومثلما نظر يعقوب السلم من أجل الصوم, ومثلما خضعت الأسود لدانيال النبي من أجل الصوم, وطالت أيام صموئيل ماسح الملوك، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.. وختامًا نقول أنَّ إله الآلهة يسوع الديان من أجل الصوم ثبَّت المجاهدين.
والعبادة الكنسية تشير إلى قانونية الصوم كممارسة روحية وتدريب إلهي إنجيلي رسولي, آبائي, ومن ثَمَّ يلزم ممارسته, فالذي يعتبره البعض رموز وممارسات وقراءات وتلاوات, هو في الحقيقة عمل وسائط النعمة وأساس الجهاد الروحي.
[بصوتي صرخت إليك يا إلهي فمن أجل الصوم أعطني خلاصًا, أَعِنْ ضعفي أيها المخلص ومن أجل الصوم اغسل أقذارنا].
ووسط الجوع والعطش, تشبعنا الكنيسة أُمنا بمائدة عبادتها حتى نقف عمليًا على عدم مصداقية المبدأ القائل أنَّ الإنسان هو ما يأكل, فتضفى الكنيسة في عباداتها طابع الدالة البنوية وتَرجِّى الميراث الأبدي.
[كل النفوس التي أرضت الرب الإله بالأعمال, بالصلاة والصوم فازت بملكوت السموات]
وفيما نحن نصوم ترفعنا الكنيسة فوق ضعف الجسد وحروبه, لِنَقرن الصوم بالتسبيح [نعم يا سيدنا يا ذا السلطان نسبحك بالمدائح ونسجد لك في الكنائس من الآن وإلى الانقضاء, حينئذٍ لا يتعب فَمُنا ولا يسكت لساننا إذ ننطق بكرامة الصوم والصلاة].
ولِنَسد جوع الجسد بشبع الروح, بالتقدم للزاد السماوي حيث الذبيحة الإلهية [الجسد والدم اللذان لك هما لمغفرة خطايانا مع العهد الجديد الذي أعطيته لتلاميذك] [الآن تناولنا من جسدك ودمك الحقيقيين تجديدًا لقلوبنا وغفرانًا لخطايانا]..
أخيرًا تُقدِّم لنا الكنيسة نماذج من الأنبياء والرسل والقديسين والقديسات الشفعاء, ليكونوا لنا في الطريق آثار غنم, وفي السماء سحابة شهود فنقول:
بالصوم استحق إبراهيم أنْ يضيف الله عنده مع ملائكته الأطهار.
بالصوم أصعد اسحق ذبيحة طاهرة معطيًا إشارة للمسيح.
بالصوم خلص يعقوب من عيسو أخيه وأخذ بركة من أبيه.
بالصوم تراءف الله على عبده الصالح البار أيوب ومنحه الشفاء.
بالصوم ارتفع يوسف وملك على مصر.
بالصوم رفع الله غضبه عن أهل نينوى.
بالصوم تنبأ جميع الأنبياء والأبرار من أجله بأنواع كثيرة.
بالصوم أرسل القديسين لِيَكرزوا في جميع المسكونة.
بالصوم نال الشهداء المجاهدون الأكاليل غير المضمحلة.
وهذه هي الأرثوذكسية, كما أنَّها استقامة الرأي والعقيدة هي استقامة الحياة أيضًا.. ويتم ذلك بالجهاد الروحي لاستعادة العادات المسيحية المستمدة من التسليم والتي تُذكِّرنا دائمًا بما ينبغي أنْ نكون عليه حسب بدايات الحياة المسيحية, فالصوم هو برنامج عمل, لا مجرد عظات ولا صلوات وعادات إنَّما هو توبة ومحبة وزهد ومصالحة وبذل وعطاء.
لا بُد من أنْ نبدأ من البيت [المذبح العائلي], لا بُد أنْ نُغير نمط حياتنا ونفرغ هذا المجتمع الضوضائي, ونستبدله بالاعتكاف الإيجابي, من خلال القراءات والمواظبة على الليتورجية, والإقتداء بمعلمي الكنيسة العظام وسير حياتهم كالأنبا أنطونيوس ومريم المصرية والقديس القوي موسى الأسود والأنبا بيشوي حبيب مخلصنا الصالح.
والمجد والإكرام لمن جاع ليظهر أنَّه أخذ الجسد وصار معنا من أجلنا, غير المنظور الذي جاء وأشرق علينا فصيَّر الخاطئ مُبررًا.
ارحمنا ثم ارحمنا وارث لضعفنا واقبلنا وجِدْ علينا بالغفران, واجعلنا لأوامرك طائعين يا صاحب الأمر والتدبير.
نسألك أن تحفظ بيدك العالية حياة البابا شنودة الثالث عمود الدين وكل الآباء والمدبرين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/lent/style.html
تقصير الرابط:
tak.la/db3gwk2