ليس هناك غاية للصوم غير التخلص من الخطية، والجهاد ضد أهواء الجسد، لأن الاتحاد بالمسيح هو صميم الغاية التي من أجلها نجاهد ليس إذلالًا بل قبولا للحياة الجديدة من خلال عمل النعمة، والصوم ليس فضيلة في حد ذاته ما لم يقترن بالصلاة، فتركيزنا كله على الحياة الداخلية وإنساننا الباطني وعلاقتنا الكيانية الصميمة الاتحادية برب المجد يسوع.
إن امتناعنا عن الأكل يجعلنا نرتفع فوق مستوى الجسد والمادة، وما الصوم إلا سلاح غلبة، لأن آدم الأول انهزم بالطعام، وآدم الثاني غلب بالصوم، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله "كيريجما"، وبالصوم يتدخل الله، فقد اختبر هذا الأمر نحميا وعزرا ودانيال واختبرته إستير من أجل الشعب كله، وعاشته الكنيسة في القرن الرابع في عمق مشكلة أريوس الهرطوقي، وأصبح الصوم عقيدة راسخة في ضمير الكنيسة، لأنه فترة مصالحة يتدخل فيها الله ويتحنن، والصوم أيضًا مدرسة روحية تدربنا فيها أمنا البيعة على الاستشهاد والشهادة "مارتيريا".. وفعل الصوم هو أولًا وأخيرًا دليل على محبتنا لله وبه نتقرب إليه، فلا صوم من غير التوبة وأعمال الرحمة والصدقة، ولا صوم من غير الاعتكاف والصلاة والقراءات الروحية والتأمل والمطانيات metanoia وقرع الصدر والسهر وتكريس القلب والفكر والإرادة لله، ولا صوم من غير شركة مع المسيح الذي صام عنا، فالصوم بحق فترة تخزين روحي للعام كله..
والصوم هو بداءة طريق الله، وهو الصديق الملازم للفضائل كلها، يحفظ العفة، ويحفز للصلاة، ويساعد على الهدوء والسكوت، ويشوق العقل لعشرة الله، ويجعلنا نتشبه بسيرة الملائكة، نمتنع فيه عن الشهوة والأفكار الرديئة لأنه أيقونة للحياة العتيدة، والصوم يخضع الجسد للروح ويجعلنا ننال نصيبًا من جسد القيامة بقيادته إيانا نحو الله، وهو أيضًا طبيعة الحياة في الفردوس قبل السقوط فالإنسان أطاع بطنه فطرد من الفردوس وربنا يسوع كشف لنا الدواء لكي نغلب.. ذلك المدافع عنا، قرن خلاصنا الأكيد الذي يحتضن وجودنا ويحصنا على الدوام.
وليس كل صوم صومًا مقبولًا، لأنه ينبغي ألا نفعل شرًا، وأن نعبد الرب بقلب طاهر ونحفظ الوصايا بالانقطاع عن كل الشرور سواء بالفعل أو بالقول أو بالفكر وضبط اللسان والكف عن الغضب، وغياب الرذائل، لأن الصوم ليس صومًا جسديًا بل صومًا روحيًا، يغذي النفس ويهيئها لتجنح وتسمو فوق العالم فتعبر بحر هذه الحياة الحاضرة وتصل إلى نقاوة القلب، وأيضًا الصوم يصعد بالصلاة إلى السماء، وبدون العطاء والصدقة لا يحسب صومًا، وليس هناك سلاح أقوى من الصوم، فإن كنا قد انغلبنا في آدم بالأكل فبالإمساك عنه قد غلبنا في المسيح فالأول علة السقوط والثاني موضوع النصرة لأن منه وبه وله كل الأشياء.
والصوم في المفهوم الإنجيلي هو نظرة على الحياة الأبدية من خلال إحساسنا بالموت (جوع - عطش - إماتة) فهو تذوق لمجد القيامة بجسد مائت عن كل شهوات العالم الحاضر.. وجوعنا وعطشنا يجعل عيوننا شاخصة نحو الأبدية في انتظار البر الأبدي، لأننا حتما سنشبع سرًا من دسم الخيرات الغير منظورة التي للحياة الأبدية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.. ونحن نصوم لأن العريس قد رفع لذلك وجب على العروس أن تصوم، ويعلق القديس كيرلس الأول عمود الدين فيقول "لقد كان مجيء مخلصنا إلى العالم بمثابة عيد عظيم اتحد فيه روحيًا بطبيعة الإنسان كمثل عروس له".
فالاتحاد السري الذي حدث بيننا وبين المسيح مخلصنا بتجسده، جعل صومنا يسمو إلى مستوى الجوع والعطش إليه، وصارت نفوسنا عطشى إليه مثل أرض بلا ماء.. لذلك عندما رفع العريس عنا كان من الحتمي أن نصوم، فالذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات، وبهذا يصبح قبولنا الصوم على أساس الشركة في صليب المسيح.
ولابد أن يكون صومنا صومًا روحيًا، لأن المسيح صام من أجلنا وصام عنا، وكان يقتاد بالروح في البرية أربعين يومًا، فلنصم صومًا روحيًا لأن مخلصنا قدم نفسه أمامنا نموذج، لأن الصوم ليس هدف في ذاته إنما هو مجال للحياة المباركة التي فيها نغلب كما غلب ذاك الذي أحبنا وسلم ذاته لأجلنا، فنسير في أثر خطوات الرب نختط نفس الدرب، ونتحدى الكذاب المحتال إبليس الذي خدعنا بالاعتماد على الطعام ولقمة العيش، ويتحول فينا الجوع لا إلى شيء سلبي بل إلى كلمة الله، جوع لأجل الله، لذلك حرصت الكنيسة على أن تجعل صوم أبنائها مقترنا بالتناول حتى تتقدس ذبيحة صومنا فيكون المسيح هو خبزنا وماءنا وغلبتنا وحياتنا الحقيقية، ولكي يكون صومنا روحيًا يجب أن يكون بجدية وإخلاص قلب، لا مجرد شكليات بل حياة ايجابية، لا اكتفاء بما هو خارجي دون التعمق في الداخل.. وأعمق تغير يحدثه الصوم هو أن يغير اتجاه الشخص واتجاه الجماعة ليصبح الكلمة المتجسد هو مصدر حياتهم.
والصوم في المسيحية ليس قهرًا ولا كبتًا ولا قصاصًا ولا حزنًا مريرًا إنما هو استنارة وحزن مضيء وتذوق لغلبة العالم ومجد القيامة، لذلك لا نكون عابسين بل ممتلئين ببهجة الخلاص وفرح الروح.
والصوم أسلوب حياة وسعى نحو الحياة الجوانية المتخلصة من كل تشتت، ليتسع أمامنا مجال التأمل والدخول للعمق والسيطرة على كل ما لا يرضي الله، مع فعل الصلاة والاتضاع والتوبة والمحبة والطهارة والنشاط وعمل الرحمة والعطاء لنتعلم فيه كيف نتواضع؟ كيف نتسامح؟ كيف نرحم؟ كيف ندخل إلى أعماقنا؟ ونقف إلى حقيقة أنفسنا فنستعيد حياتنا الجديدة..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/lent/strife.html
تقصير الرابط:
tak.la/8xft5fj