1- لهذا السبب عندما أكمل الله الخليقة كلها وزّينها بالجمال، فمع أن هذا العمل المتناسق غير العادي يصيب من يراه بذهول عظيم، سبق الله فوجد أن كثير من الحمقى والمخبولين قد أعدوا أنفسهم لمهاجمة الأشياء المخلوقة، لذلك دحض رأيهم الوقح بكلمة واحدة فقال: "ورأى الله كل ما عمله وإذا هو حسنٌ جدًا" (تك 1: 31).
2- في الواقع بين الأشياء التي رآها الله (حسنة) ليس فقط النور بل الظلمة (أيضًا)، وليس فقط الثمار بل الأشواك، ليس فقط الأشجار المزروعة بل الأشجار البرية، ليس فقط السهول المنبسطة بل الجبال والوديان والشقوق، ليس فقط البشر بل أيضًا الحيّات السامة، ليس فقط الأسماك بل أيضًا الحيتان البحرية، ليس فقط الأمواج الهادئة، بل أيضًا البحر الذي يرفض كل ملاحة فيه (عندما يهيج).
![]() |
3- ليس فقط الشمس والقمر والنجوم، بل أيضًا الرعد والبرق والأعاصير، ليس فقط الهواء العليل بل أيضًا الزوابع. ليس فقط الحمام والطيور المغردة، بل أيضًا النسور والصقور والحيوانات الأخرى التي تفترس البشر، ليس فقط الغنم والبقر بل أيضًا الذئاب والفهود والأسود، ليس فقط الأيائل والأرانب البرية والغزلان، بل أيضًا العقارب والحيّات، وبين الأعشاب ليس فقط النباتات التي تجلب الشفاء، بل أيضًا النباتات السامة، وكثير من هذه الخلائق صارت معثرة وجلبت هرطقات.
4- أما موسى فقد أعلن أنه لما جاءت الخليقة إلى الوجود وتزينت بكل زينتها مجدّها الله (بمعنى أنه استحسنها). أقصد أنه مجدّ كل شيء منها على حده، كما مجد الخليقة في مجموعها. بهذا لا يجسر أحد -مهما كان تهوره- أن يفكر في فحص باقي الأشياء المرئية.
5- لهذا السبب بعد أن قال "ليكن نور" أضاف قوله "ورأى الله أن النور حسن" (تك 1: 4). بعد ذلك ولكي لا يطيل حديثه بتسمية كل الأشياء باسمها، عبّر بكلمة واحدة عن استحسانه للكل معًا فكرر القول "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا" (تك 1: 31).
6- هذا لا يعني أن الله اكتشف جمالها بعد خلقتها. كلا!
لأنه إن كان الفنان -وهو إنسان- يستطيع أن يدرك جمال عمل يديه قبل تنفيذه(82)، فكم بالحري (الله) الحكمة الفائقة الذي بعث الحياة في الكل بإرادته وحده عرف روعة خليقته قبلما يخلقها.
7- وما كان قد جاء بها إلى الوجود لو لم يكن قد سبق فعرفها. فلماذا إذًا هذه الكلمات؟ للسبب الذي ذكرته (من قبل).
وأيضًا بعد أن سمعت النبي (موسى) يقول لك، إن الله رأى كل شيء (حسن) ومدحه، فلا تسعى لحجر محك آخر ولا لبرهان آخر (يدل) على عظمتها ولا تقل ما هو الحسن الذي فيها؟
في الواقع إن إعلان حكم خالقها ورأيه بحسنها لهو دليل مقنع أكثر من البرهان (على حسنها) المأخوذ من الأعمال ذاتها.
8- لأجل هذا استخدم (موسى) طريقة كلام قاطعة (حرفيًا أولية) بما فيه الكفاية. في الواقع لو أراد شخص أن يشتري أدوية دون أن يعرفها، فهو يطلب أولًا أن يراها الطبيب، وعندما يرى أن الطبيب قد استحسنها بعد أن عاينها، فإنه لا يعود يطلب دليل آخر على فاعليتها، بل إذ علم أن الطبيب قد تعرّف عليها واستحسنها فإنه يكتفي برأيه.
9- كذلك موسى إذ أراد بتر كل فضول وقح من جانب الذين فيما بعد سيسخرون من الخلقة فأعلن وقال إن الله رأى كل الأشياء (التي خلقها) واستحسنها ووصفها بأنها حسنة وليس فقط "حسنة" بل وأيضًا "حسنة جدًا".
10- إذًا لا تحاول البحث في أمور الخليقة باندفاع، فإن لديك شهادة عالية تعلن امتيازها (على كل شهادة أخرى). فإن لم تكتفِ بهذه الشهادة باحثًا في الخليقة بأفكار متضاربة وسط جو عاصف، لن تتقدم في شيء، إنما تهيئ لنفسك فشلًا ذريعًا. لأنك ليس فقط لن تستطيع أن تجد تفاسير لكل الأشياء المخلوقة، بل وأيضًا ما قد تستحسنه من الخليقة الآن قد ترذله غدًا، وذلك بسبب عقم تفكيرك.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
11- في الواقع إن فكر البشر ضعيف، وفي أغلب الأحيان ينجذب نحو اتجاهات متضاربة، وتتعارض وجهات كثير من الناس تجاه الخليقة الآن، فاليونانيون بسبب شدة إعجابهم غير اللائق بها صيّروها آلهة.
12- وعلى العكس فبين أتباع ماني وهراطقة آخرين، البعض يقول أنها ليست من صنع إله مُحب، والبعض الآخر بعد أن اقتطع منها جزء نسبوا للمادة أنها تتولد من نفسها، وقرروا أنها لا تستحق أن تكون من عمل إله خلاّق. لذلك بادرت بالقول أنه عند استخدام المنطق والتفكير السقيم سنذم أشياء كثيرة من بينها أشياء مؤكد حسنها.
13- أي شيء في رأيك أكثر جمالًا من الشمس؟ ومع هذا فذلك الكوكب المضيء والجميل يؤذي عين المرضى ويكلس الأرض بإرسال أشعته الحارقة ويسبب الحمى للبعض وكثيرًا ما ييبس المحصول ويجعله عديم النفع ويجعل الأشجار عقيمة (وذلك عندما تأتي الريح اللافحة وقت التزهير فتسقط زهور شجر الزيتون والموالح وغيرها من الأشجار)، ويحول جزءًا من الأرض إلى منطقة لا نستطيع الإقامة فيها.
14- قل لي، هل نذم الشمس بسبب هذا؟ لا، بل إذ ندع جانبًا التعليلات والإزعاج الذي تولده، فإننا نلتصق إلى الصخرة التي هي الكلمة القائلة: "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا" (تك 1: 31) إذًا فكل ما سبق أن أعددته هو حسن جدًا ومفيد. وكما سبق أن أكدت، فإنه ينبغي الرجوع بدون توقف إلى هذه الكلمة القائلة: "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا".
15- لكن هل الانهماك في الاستكانة والضحك وحياة الملذات هو شيء حسن؟ بالتأكيد لا. أسمع سليمان -وهو الذي اختبر حياة الفسق- وهو يقول "الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة" (جا 7: 2)، وهل ينبغي أن نقول أن الليل رديء باستخدامنا لمنطق معارضينا (يقصد المانيين)؟
16- نعم، لكنه أيضًا مسكّن للبلايا، ومبعد للهموم، ومخفف للأمراض، وهو هدنة من الأخطار والمخاوف. إنه ينعش الجسد، ويعيد القوة للذهن ويُريح الجسد المُتعب.
وهل المرض شر؟
نعم، لكن لأي سبب (غيره) تكلل لعازر؟
وهل الفقر؟
إذًا لأي سبب (آخر) صار أيوب مشهورًا؟ أليس لكون البلايا كانت تلاحق بعضها البعض بلا توقف؟
17- وأيضًا لأي سبب قد انتشرت أسماء الرسل؟ وما هو الطريق الذي يؤدي إلى الحياة؟ أليس هو الطريق الضيق والكرب؟ فلا تقل: لماذا هذا؟ وما الهدف من ذاك؟ لكن عندما يختص الأمر بتدابير الله وأعماله، ينبغي كما أن الخزف يلزم الصمت أمام الخزاف، هكذا أنت أيضًا احفظ الصمت أمام الله الذي خلقك.
_____
(82) يُروى عن الفنان الإيطالي الشهير مايكل أنجلو Michelangelo أنه عندما مر على قطعة رخام خام -كانت محل استقباح من الناس لمنظرها المشوه- هتف عندما رآها لأول مرة لجمالها! فاندهش الناس وظنوه مخبولًا ولكن روعة التمثال الذي صنعه للملاك منها أزالت دهشة الناس!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-providence-of-god/moses.html
تقصير الرابط:
tak.la/rcjn3a9