1- في الواقع إن الذين لم يقبلوا بعد رسالة المسيحية (أي يصيروا مسيحيين) يجنون من هذه التجارب منفعة عظيمة جدًا لو كانوا يقظين. لأنهم إذ يرون أناسًا يحتملون المظالم ويهانون ويُحبسون ويشهّر بهم، ويصيرون ضحايا للفخاخ (المنصوبة لهم)، تُمزق أجسادهم ويتم حرقهم وإغراقهم، ولا ينهاروا أمام أي خطر، تفكر أي إعجاب يبدونه كإعجابهم -سابقًا والآن- أمام هؤلاء المصارعون غير العاديين. وهكذا لا تكون الأحداث سبب عثرة لمن هم يقظون، بل فرصة أكثر أهمية للتعليم.
2- لهذا السبب سمع بولس هذه الكلمات: "قوتي في الضعف تكمل" (2كو 12: 9)، ويمكن إثبات هذا الأمر في العهد القديم والجديد. تفكر فيما اختبره نبوخذنصر عندما انهزم في محضر جيشه من ثلاثة فتية عبيد مسبيين، مقيدين ومطروحين في النار، وكيف أنه لم يستطع التغلب على هؤلاء الثلاثة الخاضعين له في العبودية، والواقعين تحت رحمته محرومين من وطنهم ومن الحرية ومن كرامة العز والغنى، مُبعدين من أقاربهم. لو لم يقام هذا الحريق الهائل ما كانت هناك مكافأة وما كان هناك إكليل متلألئ.
3- تفكر فيما كان ينبغي لهيرودس أن يختبره وهو منهزم من الضلال من إنسان مقيد بالسلاسل، إذ يرى أن قيوده لم تقلل من شجاعته الجسورة، بل إنه فضّل أن يُذبح على أن يفقد هذه الحرية العظيمة للكلمة.
![]() |
4- تفكر أنه بين الناس الذين عاشوا آنذاك والذين جاءوا بعدهم، من الذي يرى ويسمع هذا ولا يجني منه منفعة عظيمة، حتى لو كان فاتر الهمّة تمامًا، إنما بشرط أن يكون له بعض الذكاء؟ لا تحدثني عن هؤلاء الجهّال التعساء، عن الذين هم أغبياء هائمون في الجسد وأكثر خفة من أوراق الشجر. هؤلاء يسقطون، ليس تحت ضربات التجارب التي تكلمت عنها وحسب، بل أمام أي عقبة أيًا كانت، يسقطون مثل الشعب اليهودي الذي أكل الَمنْ والخبز وكان دائمًا عسير إرضائه، سواء كان في مصر أو خارج مصر، سواء كان موسى غائبًا أو حاضرًا.
5- لكن قدّم لي أناسًا يقظين منتبهين، وتفكر أية منفعة سيجنونها بدون شك من هذه الأمثلة، في رؤيتهم لنفس غير مقهورة، حكمة لا تدع نفسها تخضع، لسان ممتلئ شجاعة جسورة، إنسان يسكن الصحراء وينتصر على ملك، مقيد ولم يستسلم، رأسه مقطوعة ولم يصمت! ولا تتوقف عند هذا الأمر، بل افحص ما حدث بعد هذا.
6- قطع هيرودس رأس يوحنا المعمدان. من هو الذي يعلن الكل طوباويته، من هو الذي يثير الغيرة (للإقتداء به)؟ من هو الذي يُعلن اسمه (في كل العالم)؟ من هو الذي كُلل؟ من هو الذي تقام له التمجيدات؟ من هو الذي يُمدح؟ من هو الذي يثير الإعجاب؟ من هو الذي أيضًا يفحم الخطأ (إلى) الآن؟
7- ألا يصرخ المعمدان في كل كنيسة قائلًا: "لا يحل لك أن تأخذ زوجة فيلبس أخيك" بينما الآخر يُفضح حتى بعد موته، بسبب زناه وظلمه ووقاحته؟
بعد كل ما قلناه، انظر ما هي قوة من قُيد، وما هو ضعف الطاغي؟
8- هيرودس لم تكن لديه القوة الكافية ليضع لجامًا للسانٍ واحد. إنما بقطعه فتح بدلًا منه، وبفضله، آلاف الأفواه. ويوحنا على العكس أرعبه في الحال بعد القتل، والخوف قَلَبَ ضمير القاتل إلى درجة أنه اعتقد آنذاك أن يوحنا قام من الأموات ويُجري معجزات. والآن، ومنذ ذلك الحين، وبدون توقف، وفي كل أنحاء الأرض، يفحمه بنفسه وبواسطة الآخرين.
9- في الواقع إن كل من يقرأ الإنجيل يقول: "لا يحل لك أن تأخذ زوجة فيلبس أخيك" (انظر مت 14: 4)، وحتى بدون قراءة الإنجيل، إذ في المحادثات والاجتماعات التي تتم في البيوت وفي السوق أو في كل موضع، حتى إن ذهبت إلى بلاد الفرس أو في الهند أو في الغرب أو إلى أي موضع على الأرض تشرق عليه الشمس، حتى إلى أقصى الأرض، ستسمع هذا الصوت وسترى هذا البار يتحدث إلى الآن بصوت عالي، يتكلم ويفحم شر الطاغي ولم يسكت، وعلى الرغم من مضي الزمن فإن اتهامه لم يفقد قوته.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
10- أي ضرر سببته هذه النهاية لهذا البار؟ ماذا استطاع أن يصنعه له هذا الموت العنيف؟ ماذا استطاعت أن تصنعه له القيود، وماذا فعل به السجن؟ من هم الذين لم يضعهم على الطريق المستقيم -بشرط أن يكونوا أذكياء- بما قاله وبما تألم به وبما يعلنه الآن أيضًا والذي هو شبيه لما قاله عندما كان حيًا؟ لا تقل لي: ماذا استفاد هو من الموت؟ لأنه لم يكن موتًا بل إكليلًا. ما حدث له لم يكن نهاية بل بداية لحياة أكثر عظمة. تعلّم أن تناضل بطريقة روحية وليس فقط لا شيء يستطيع أن يؤذيك وحسب، بل أيضًا ستجني أعظم المكافآت.
11- ماذا كان من المرأة المصرية؟ ألم تتهم وتشتكي وتقيد يوسف البار وتلقيه في السجن؟ ألم تعلق على رأسه أسوأ الأخطار؟ ألم تخسف به بقدر ما كان في استطاعتها؟ ألم تشمله بسمعة رديئة؟ فبماذا تضرر في تلك اللحظة أو الآن؟ وكما أنه عندما تغطي الفحم المتقد بقش يبدو في البداية أنه اختفى، لكنه في الحال يلتهم ما قد وضع فوقه، وبفضل هذا القش نفسه يصعد لهيبه عاليًا، هكذا الفضيلة، حتى لو تثقلت بالإساءات، فبفضل العقبات نفسها، تزدهر بالأكثر بعد ذلك وترتفع إلى السماء.
12- من هو أكثر سعادة من هذا الشاب (يوسف) وذلك بفضل التشهير الذي حل به، والفخ الذي نصب له، وليس بفضل عرش مصر ولا بفضل المملكة الأرضية التي كانت له؟ لأن المجد والاعتبار والأكاليل محفوظين في كل موضع للآلام. وغير هذا ألا يُحتفل به في كل الأرض؟ ثم إن طول الزمان الذي مضى لم يجعل ذكراه تذبل، بل أن صور فضيلته وحكمته موجودة على الأرض بأكثر لمعان ودوام مما لتماثيل الملوك عند الرومان وفي البلاد البربرية، وفي ضمير ولسان كل أحد.
14- نحن نراه وهو سجين مجبرًا على الطاعة، يقوم بواجبه من جهة هذه المرأة التعيسة الخليعة، صانعًا كل ما في وسعه من أجل إنقاذها وإجبارها على الخجل وإطفاء الأتون، مجتهدًا في انتشالها من العاصفة المرعبة، واقتيادها إلى الميناء (بسلام). لكن لما ازدادت العاصفة وغرقت السفينة، وإذ هي قد اكتأبت (من صده لها) نراه يفلت من الأمواج (الهائجة)، تاركًا ثيابه بين يدي تلك المرأة، وهو أكثر بهاء في عريه عن أناس يلبسون الأرجوان، ومثل سنبلة أو نصب تذكاري أمام نصب حكمته.
15- ونحن لم نفقد تذكره على مدى الأحداث الواقعية، بل نراه من جديد سجينًا مقيدًا عائشًا في القذارة ومتضجرًا هناك على مدى وقت طويل وبسبب هذا على الأخص نحن نبدي إعجابنا به، ونقول بطوباويته ونصاب بدهشة منه ونمدحه. إن كان أحد حكيمًا، في تأمله في يوسف يصير أكثر حكمة، وإن كان أحد شهواته هائجة، فإنه يوجها بواسطة هذه القصة نحو الحكمة، وهذه القصة تجعل حاله أفضل.
16- وفي قراءتكم لكل هذا لا تضطربوا، بل انتفعوا بما حدث. وليت صبر الذين يجاهدون يكون معلمًا لكم للصمود. وفي رؤيتكم لحياة الناس النبلاء وذوي النفوس السامية -منسوجة بمثل هذه الأتعاب- فلا تخوروا من التجارب الحادثة لكل واحد وللمجتمع والمسيحي بصفة عامة، إذ أن الأمر هو هكذا بالنسبة للكنيسة منذ البدء، إذ أنها تغتذي بالمعاناة وبها تكبلا وتتمجد. لا تكونوا مندهشين، فلم يحدث شيء أبدًا غير عادي.
17- وكما أنه في الحياة العامة فإن اللصوص والقراصنة وثاقبي الحوائط يسببون دائمًا انزعاجًا ومضايقة لمن يملك الذهب والأحجار الكريمة، وليس لمن لديه قش وتبن ورمل، هكذا عندما يرى الشيطان غنى متراكم لدى النفس، وتقوى فائضة لا يمكن إنكارها، ففيها ينفّذ مكائده ويتقدم لمحاربتها. لكن لو كان ضحايا هذه الهجمات يقظين، ليس لن ينهزموا أبدًا وحسب، بل وسيجمعون كنزًا عظيمًا جدًا من الفضائل، وهذا هو ما يحدث بالفعل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/smps3bd