|
محتويات: (إظهار/إخفاء) |
|
لقديس بولس وشخصيات العهد القديم هابيل نوح إبراهيم إسحق يعقوب يوسف أيوب موسى داود وإيليا ويوحنا المعمدان القديس بولس والملائكة تحذير أخير |
1- لن نخطئ أبدًا إذا قارنا نفس القديس بولس بمرعى تنمو فيه الفضائل، أو قارناها (أيضًا) ببستان للروح القدس، ففيه ازدهرت النعمة وفيه ظهرت تلك الروحانية الجديرة بهذه النعمة.
وبالحق عندما صار إناءً مختارا ً مُطهّرًا تمامًا، فإن عطية الروح القدس قد انسكبت فيه بغزارة. وهكذا صارت لنا (نفسه) منبعًا لأنهار عجيبة ليست أربعة فقط كالتي تدفقت في الفردوس (انظر تك 2: 10-14)، بل أكثر من هذا بكثير، وهذه الأنهار لم تتوقف عن الجريان كل الأيام، ولكنها بدلًا من أن تروي الأرض أنعشت نفوسنا لتجعلها خصبة وثمرتها هي الكمال.
أية كلمات يمكنها أن توفيه حقه؟ أية لغة يمكنها أن ترتقي إلى مستوى الفضائل التي تستوجب مدحه؟ كيف يمكننا أن نقدم مديحًا لائقًا بنفس حوت في آن واحد كل ما هو سامٍ ونبيل عند البشر وأيضًا عند الملائكة؟! لكن هذا العجز بالتأكيد لن يكون دافعًا لنا لالتزام الصمت، بل على العكس فهذا سيجيز لنا بالأولى سببًا رائعًا حقًا للكلام. وفي الواقع إن قصورنا وعجزنا عن مديح هذا القديس لهو أكثر بهاء ً من آلاف الانتصارات، ذلك لأن عظمة فضائله تتجاوز مهارة اللغة وحذق التعبير.
2- فكيف يمكننا إذن أن نصل إلى الطريقة المناسبة لمدحه؟ ذلك لن يكون إلا بإظهار -ما أكدته بالحق منذ قليل- بأن كل الفضائل المتنوعة التي يمكن رؤيتها في البشر قد اجتمعت فيه. فالأنبياء ورؤساء الآباء والرسل والشهداء قد اظهروا بعض العظمة (في بعض الفضائل)، بينما اجتمع في بولس وحده كل ما هو عظيم لدى كل واحد منهم، وقد اقتنى كل الفضائل إلى درجة لم يدركها أحد من هؤلاء الذين لهم هذه الفضائل.

3- فلنتأمل جيدًا... إن هابيل قد قدم ذبيحة (تك 4: 4) ولهذا السبب يُذكر اسمه بوقار إلى اليوم. لكن إن قارنا ذبيحة ذاك بتلك التي قدمها بولس سوف نجد أن ذبيحة القديس بولس قد فاقتها بالحقيقة وعلت عنها علو السماء عن الأرض.
لكن ما هي الذبيحة التي تريدونني أن أكلمكم عنها؟ إن الأمر هنا لا يتعلق بذبيحة وبذبيحة واحدة! لأن بولس كان يقدم نفسه بالحق كذبيحة وكانت ذبيحته متجددة فهو كان يموت كل يوم (1كو 15: 31) وكان يحمل في جسده (كل حين) آلام الموت (2كو 4: 10)، كما كان يتواجه مع الأخطار بلا انقطاع، وبدون توقف كان يقرب ذبيحة طواعية، وقد أمات غرائز الجسد إلى درجة أنه لم يعد يقلّ شيئًا عن الذبائح الدموية التي تًقدم، بل فاقها جميعًا، لأنه بدلًا من ذبح الغنم والبقر، كان يذبح نفسه يوميًا وبطريقة مضاعفة ولذا أستطاع أن يتجاسر ويقول: "فإني أنا الآن أُسكب سكيبًا" (2تي 4: 6) معطياُ اسم السكيب لدمه.
![]() |
4- على أن هذه الذبائح لم تكفه، فبعد أن كرّس نفسه تمامًا، قدم أيضًا كل الخليقة: الأرض والبحر والعالم اليوناني والعالم البربري، وبكلمة واحدة كرّس كل الأمم التي تحت الشمس، كما لو كان أُعطى أجنحة واجتازها كلها، بل لم يكتف بالعبور فيها، وإنما في اجتيازه لها كان يقتلع منها الخطايا مع أشواكها لكي يغرس بدلًا منها حياة التقوى الحقيقية وينتزع جذور الضلال ويقيم الحق محولًا البشر إلى ملائكة، وماذا أقول؟! إنه جعل الشياطين ملائكة، فهكذا كان حال البشر (آنذاك).
وفي تذكره لليوم الذي سينحل فيه عن العالم بعد أن جاز أتعابًا كثيرة وأحرز انتصارات عديدة، شدد تلاميذه بهذه الكلمات: "لكنني وإن كنت أنسكب أيضًا على ذبيحة إيمانكم وخدمته أُسر وأفرح معكم أجمعين. وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضًا وافرحوا معي" (في 2: 17-18).
فأية ذبيحة إذن يمكنها أن تعادل ذبيحته طالما أن السكين الذي أمسك به كان هو سيف الروح القدس (أف 6: 17)، وطالما أن المذبح الذي سيقدم عليه الذبيحة (كائن) في أعلى السموات؟
نعم لقد قُتل هابيل غدرًا بواسطة قايين (تك 4: 8)، وهذا يُحسب له مجدًا. لكني لا أستطيع أن أُحصي لكم ربوات الميتات التي ماتها الطوباوي بولس لأنها تُقَدَّر بعدد الأيام التي جازها في الكرازة بالإنجيل.
وإن أردتم أن تقيّموا ذبيحة هابيل التي بلغت هذه المرة إلى حد خبرة الموت نفسها، فسترون كيف أن هابيل سقط تحت ضربات أخيه قايين مع أنه لم يكن قد ظلم قايين في شيء بل إنه قد أسبغ عليه كثيرًا من الإحسانات، هكذا أيضًا بولس كان ضحية لأولئك الذين اجتهد أن ينتزع منهم الشرور الكثيرة والذين من أجلهم قد احتمل كل تجاربه.

5- ستقولون لي: نوح كان رجلًا بارًا كاملًا في وسط جيله ولم يوجد من يماثله (تك 6: 9)، أقول لكم إن بولس أيضًا كان هو الوحيد الذي له مثل هذه القداسة في وسط جيله.
نوح نجا هو وأولاده فقط، لكن بولس إذ رأى كارثة مخيفة جدًا محدقة بالعالم، لم يجمع ألواحًا خشبية لكي يصنع منها فلكًا، بل أعدَّ رسائله وخلص بها -من وسط الأمواج (والتيارات العالمية)- ليس فقط اثنين أو ثلاثة أو خمسة من أقاربه، بل خلص المسكونة التي أوشكت على الغرق في وسط العاصفة. لأن فلكه لم يُصنع ليذهب ويجئ في منطقة واحدة، بل ليصل إلى أقصى أطراف الأرض، ومنذ ذلك الوقت وحتى أيامنا هذه لم يتوقف الرسول عن إدخال كل الناس (الذين يريدون الخلاص) إلى هذا الفلك. وهو قد بناه بقدر يتناسب مع (قامة) الذين يخلصون ويستطيع أن يستقبل فيه الناس الأقل تعقلًا من الحيوانات ويجعلهم قادرين على منافسة الملائكة ومؤكدًا بذلك سمو هذا الفلك عن ذاك الذي لنوح.
كان نوح قد قبل غرابًا (تك 8: 7) وتركه يخرج كما هو (غرابًا)، وآوى ذئبًا ولم يغير من طباعه الوحشية، أما بولس فهو على العكس قد قبلهم وهم ذئاب وصيّرهم حملانًا، قبلهم نسورًا وصقورًا (أي جوارح) وحولهم إلى حمام وديع. وجرد الطبيعة البشرية من حماقتها ووحشيتها وغرس فيها عذوبة الروح القدس، وهكذا استمر هذا الفلك في المسير دون أن يتفسخ. وبدلًا من العواصف التي يثيرها الشر لتأتي إلى تمزيق ألواحه، فهو بالأحرى له قدرة أن يقهر الأمواج ويكسر حدة العاصفة. وهذا شيء يفوق الطبيعة لأن ألواحه ليست مطلية بالزفت أو القار بل ممسوحة بالروح القدس.

6- ستقولون لي: لقد كان إبراهيم محلّ إعجاب الجميع، لأنه ما أن سمع هذه الكلمة: "اذهب من أرضك ومن عشيرتك" (تك 12: 1) حتى تخلى عن وطنه وبيته وأصدقائه وعشيرته وفضّل أمر الله على الكل.
نعم، ونحن أيضًا بدون شك نعجب به، لكن من يستطيع أن يضعه على نفس المستوى مع بولس؟ الذي لم يتخل فقط عن وطنه وبيته وعشيرته بل تخلى أيضًا عن العالم كله لأجل يسوع. ولنذهب أبعد من هذا فنقول إنه ازدرى بالسماء وسماء السموات ولم يطلب إلا شيئًا واحدًا ألا وهو محبة يسوع. اسمعوه وهو يشرح لكم هذه المحبة في قوله: "لا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله" (رو 8: 38-39).
ستقولون لي: إن إبراهيم واجه المخاطر لكي ينقذ ابن أخيه من أيدي الغرباء (تك 14: 12-16)، وهل أنقذ بولس ابن أخيه فقط؟ هل أنقذ مدينتين أو ثلاثة فقط؟ لا، بل الأرض كلها وليس من أيدي الأعداء وحسب، بل أيضًا من أيدي الشياطين، معرضًا نفسه يوميًا لأخطار لا تُعدَّ ولا تُحصى، وصار ضامنًا لخلاص الكثيرين بثمن موته هو شخصيًا كل يوم.
لكن ستقولون لي: ألم يبلغ إبراهيم بتضحية ابنه أعلى درجات الفضيلة ومنتهى الحكمة؟ وهنا أيضًا سترون أن بولس له السبق في ذلك فهو قد ضحى ليس بالابن فقط، بل بنفسه ربوات المرات كما سبق وقلت لكم.

7- ما الذي يعجبكم في إسحق؟ هل في فضائله الكثيرة وبالأخص صبره على المتعدين عليه؟ إنه حفر آبارًا (تك 26: 15-22)، وطُرد من الأراضي التي كانت له واحتمل هذا دون أن ينتقم لنفسه، بل على العكس عندما رأى آباره تُردم احتمل ذلك بثبات وانتقل على الفور إلى موضع آخر، وبدلًا من أن يواجه الذين يضايقونه، اعتزل عنهم وترك لهم الأراضي (والآبار) حتى ترتوي نفوسهم الظامئة. لكن انظروا لبولس فإنه لم يكن له آبار بل لما رأى الأحجار تنهال على جسده ليس فقط لم يعتزل كما فعل إسحق بل على النقيض من ذلك ذهب إلى الذين رجموه، مريدًا بكل قوة أن يرفعهم إلى السماء. وبقدر ما اجتهد أعداؤه في طمّ هذا النبع، بقدر ما تدفق بحيوية أكثر وفاض التيار الذي يغذي صبره.

8- وما الذي يعجبكم في يعقوب ابن إسحق؟ ألم يمدح الكتاب ثباته؟ لكن أي نفس صلبة كالماس يمكنها أن تنافس صبر بولس؟ فهو الذي لم يبع نفسه لمدة أربع عشرة سنة فقط (تك 29: 15-30)، بل صار عبدًا لعروس المسيح (الكنيسة) كل أيام حياته، ولم يأكله فقط حر النهار وصقيع الليل بل احتمل عواصف التجارب التي لا تُحصى، طورًا في جلدات (أع 16: 19-40؛ 2كو 11: 24-25)، وطورًا في رجم (أع 14: 19؛ 2كو 11: 25)، وطورًا حارب ضد الوحوش (1كو 15: 32)، وطورًا صارع مع البحر (2كو 11: 25-26)، وكان فريسة لجوع متواصل بالليل والنهار وبالمثل فريسة للبرد (2كو 11: 27)، وكان يقفز في خفة ورشاقة لينتزع الخراف من بين براثن الشيطان.

9- وماذا عن يوسف؟ ألم يكن عفيفًا (تك 39: 7-20)؟ لكن أخشى أن أسيئ إليه إن قارنته من هذه الوجهة ببولس، ذاك الذي صلب نفسه للعالم والذي نظر ليس فقط للأجساد على أنها تراب أو رماد، بل أيضًا لكل الأشياء التي تراها بالعين، وجعل نفسه كمائت عند رؤيته لأجساد أخرى، واهتم بعناية كثيرة أن يهدئ من هجمات الطبيعة ولم يترك نفسه يتأثر قط بأية أهواء بشرية.

10- ألم يُصب أيوب كل الناس بالدهشة؟ فقد كان بارً تمامًا ومجاهدًا صنديدًا (في الفضيلة) ويمكن مقارنته ببولس بسبب صبره ونقاوة حياته، وبسبب الشهادة التي شهد بها الله عنه، ثم بسبب هذا الجهاد الشديد والنصرة العجيبة التي أعقبته.
وماذا نقول عن بولس؟ ألم يجاهد ليس فقط لشهور عديدة، بل لسنوات كثيرة. إنه لم يهادن تراب الأرض بخطواته ولم يبق جالسًا على الرماد (أي 2: 8)، بل هاجم الأسد غير المرئي في عرينه وبلا توقف جاهد ضد تجارب لا تُعد، وكان ثابتًا أكثر من أية صخرة ولم يحتمل التوبيخات (والتعييرات) من ثلاثة أو أربعة أصدقاء (كأيوب) بل من كل الإخوة الكذبة الذين لم يؤمنوا، متعرضًا لبصاقهم وإهاناتهم.
11- إن أيوب الصديق قد مارس بكثرة ضيافة الغرباء؛ ألم يهتم كثيرًا بالفقراء والمحتاجين (أيضًا)؟ نعم! نحن لا نستطيع أن ننكر هذا ولو أننا نؤكد أن هذا الاهتمام لم يرق إلى مرتبة اهتمام بولس الرسول بالمعوزين. وفي الواقع إن ما أظهره الأول من جهة الاهتمام بالعاهات الجسدية، أتمه الثاني بالنسبة لجروح النفس، مقومًا كل من كان عقله مشلولًا أو عاجزًا، ومن كان عاريًا من حشمة الفضيلة، كساه بلباس الروحانية المسيحية. وحتى إذا تكلمنا على المستوى المادي نجد أن بولس كان متفوقًا على أيوب. فإن كانت هناك كرامة عظيمة لمن يغيث المحتاجين، إلا أنه عندما يرزح بولس نفسه تحت نير الفقر والجوع، يكون بذلك أفضل من الذي يعطي من فضلته. وعلاوة على ذلك إن كان أيوب قد فتح أبواب بيته أمام كل قادم، فإن قلب بولس قد اتسع ليشمل كل الأرض ويقبل جميع الناس. لهذا السبب قال أيضًا: "لستم متضيقين فينا بل متضيقين في أحشائكم" (2كو 6: 12). فأيوب كان كريمًا مع المحتاجين والفقراء من قطعان ماشيته وأغنامه الكثيرة، أما بولس الذي لم يكن يمتلك سوى جسده فقط، فقد أنجد به المحتاجين وهتف: "حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان" (أع 20: 34)، وكان يغيث من عائد عمله الشخصي كل من افترسه الجوع وأنهكه.
12- لكن هل كان الدود والقروح هما سبب أتعاب وآلام أيوب التي لا تُحتمل؟
نعم وأنا أقرّ بهذا، إلا أنك لو وضعت أمامهما الجلدات التي احتملها بولس على مدى سنوات كثيرة، والجوع المتواصل والعري والقيود والسجن والمخاطر والمكائد التي حاكها له أهل عشيرته والغرباء والطغاة وكل الأرض، وبخلاف هذا التجارب الأكثر وحشية أيضًا. هذا بالإضافة إلى معاناته النفسية لتفكره فيمن سقطوا والاهتمام بكل الكنائس، واللهيب الذي كان يأكل قلبه عندما يتفكر في الذين عثروا (2كو 11: 28-29)، سترى كيف أن النفس التي احتملت هذه التجارب كانت أكثر صلابة من الصخر وأنها فاقت الحديد والماس. وفي الحقيقة إن ما عاناه أيوب في جسده، جازه بولس في نفسه، فالغيرة والاهتمام اللذين كانا يشتعلا في داخله بقسوة بالغة من أجل الذين عثروا لا يضاهيه أبدأً الدود الذي كان يعاني منه أيوب في جسده. لهذا السبب كان بولس يسكب الدموع دوامًا ليس فقط أثناء النهار بل أيضًا أثناء الليل (أع 20: 31؛ 2كو 2: 4) وفي آلام أكثر حدة من آلام المخاض، كان قلبه يتمزق أثناء تفكره في كل واحد من أولاده الذين سقطوا، فلذلك هو يقول: "يا أولادي الذين أتمخض بكم إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غلا 4: 19).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

13- وبعد أيوب من يمكنه أن يدهشنا؟ بالتأكيد إنه موسى النبي. لكن حتى موسى فإن بولس فاقه جدًا. فمن بين الفضائل العظيمة التي للنفس البارة لهذا النبي هو رغبته أن يُمحَى اسمه من سفر الله لكي ينقذ اليهود (من الهلاك). موسى قد اختار أن يهلك مع الآخرين، أما بولس فلم يشأ أن يهلك معهم، بل فضّل أن يُحرم وحده من المجد الأبدي شريطة أن يخلصوا هُم (رو 9: 3).
بالإضافة إلى هذا إن كان الأول قد حارب (عماليق) فإن الثاني كان يصارع يوميًا ضد الشيطان، وإن كان الأول قد أخذ على عاتقه مسئولية الدفاع عن أمة واحدة فقط، فالآخر قد اهتم بخلاص العالم كله، وكان جسده يقطر ليس عرقًا بل دمًا بدلًا من العرق، لكي يضع على الطريق المستقيم ليس فقط العالم المأهول بالسكان بل أيضًا المناطق غير المأهولة، وليس فقط العالم اليوناني (المتحضر)، بل أيضًا عالم البرابرة (المتخلف).

14- ويمكننا أيضًا أن نقارنه بيشوع وصموئيل والأنبياء الآخرين. ولكن لكي لا يطول الحديث، فسنذهب لمن لهم المرتبة الأولى بينهم، لأنه عندما يظهر تفوق بولس -بكل تأكيد- عليهم، فلن يعد هناك مجال للجدال بالنسبة للآخرين. فمن هم هؤلاء الطلائع؟
بعد الذين ذكرناهم لا يوجد غير داود وإيليا ويوحنا المعمدان، والاثنان الأخيرين كان الواحد منهما هو السابق لمجيء الرب الأول، كما سيكون الآخر عند مجيء الرب الثاني، ولهذا السبب فقد تشاركا في نفس الاسم.
فما هي إذًا الصفة المميزة لداود؟ هل تواضعه أو محبته لله؟
فمن الذي فاق بولس أو حتى تساوى معه في ممارسة هاتين الفضيلتين دفعة واحدة؟
وما الذي يثير الإعجاب في إيليا؟ هل إغلاقه للسماء وجلبه للمجاعة وإنزاله النار من السماء؟ بالنسبة لي أنا لا أعتقد هذا، لكن الذي يثير الإعجاب هو الغيرة التي أظهرها للرب انظر 1مل 19: 10) وحرارته التي تفوق حرارة النار.
فإن نظرتم لغيرة بولس سترون أن الرسول متفوق على النبي، كتفوق النبي على الآخرين. فمن يمكنه أن يجد كلمات معادلة للكلمات التي نطقها بولس في غيرته على مجد الرب إذ قال: "إني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 3). لهذا السبب بينما كانت السماء في انتظاره بأكاليلها ومكافآتها، فإنه تردد وتباطأ قائلًا: "لكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في 1: 24)، كما أن العالم المرئي الحاضر نفسه والعالم الروحي الآتي لم يكونا كافيين لإظهار مدى حبه وغيرته ولذلك فقد تخيل عالمًا آخرًا غير موجود (انظر رو 8: 39) لكي يظهر اشتياقاته ورغباته.
ألم يأكل يوحنا المعمدان الجراد والعسل البري (مت 3: 4)؟ أما بولس فقد عاش وسط العالم حياة النسك التي عاشها في البرية، وبدلًا من أن يغتذي بالجراد والعسل البري، كانت أيضًا مائدته أكثر بساطة وكان يعوزه أيضًا الغذاء الضروري الذي كان يناسب حرارته (وما يبذله من جهد جسدي) في البشارة بالإنجيل.
ألم يبرهن يوحنا على منتهى الشجاعة عندما تكلم في محضر هيرودس؟ حسنًا فبنفس الطريقة أسكت بولس أفواه ليس واحدًا أو اثنين أو ثلاثة بل طغاة كثيرين من هذا النوع بل ومن كانوا مخيفين جدًا أكثر منهم.

15- لم يعد يتبقى أمامنا إلا أن نقارنه بالملائكة. لهذا السبب نترك الأرض ونصعد إلى قباب السموات وأرجو ألا يتهم أحد حديثنا بالجسارة. لأنه إن كان الكتاب قد أعطى ليوحنا لقب ملاك (مت 11: 10)، وكذلك الكهنة (ملا 2: 7)، فأي شيء يثير الدهشة في مقارنتنا بولس المتقدم في الفضيلة على سائر الناس بالقوات السماوية؟ ففيما تكمن إذن عظمة الملائكة؟
إن عظمتهم تكمن في طاعتهم التامة لله، وهذا هو بالتحديد ما نقله داود لنا بقوله: "ملائكته المقتدرين قوة الفاعلين أمره" (مز 103: 20). ولعل هذا ما يجعلهم خارج المقارنة، فضلًا عن طبيعتهم (في حد ذاتها) لكونهم خليقة غير مادية. نعم هذا ما يجعلهم فوق كل طوباوي أرضي وهذا ما يجعلهم يطيعون الوصايا الإلهية ولا يمتنعوا عن تنفيذها أبدًا.
يمكننا أن نؤكد أيضًا بيقين أن بولس قد راعى هذه الطاعة بتدقيق شديد. وليس فقط كلمة الله هي التي مارسها باجتهاد، بل أيضًا كل وصاياه وأكثر من وصاياه، وهذا ما أظهره بقوله: "فما هو أجري إذ وأنا أبشر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة" (1كو 9: 18).
أية صفة أخرى مثيرة للإعجاب أشار إليها النبي في حديثه عن الملائكة؟ "الصانع ملائكته رياحًا وخدامه نارًا ملتهبة" (مز 104: 4).
حسنًا... يمكننا أن نؤكد نفس الشيء من جهة بولس. فهو بالحق قد طاف مثل الريح والنار، الأرض كلها وطهّر العالم. لكم ألم يصعد أيضًا إلى السماء؟ هذه هي النقطة المثيرة للإعجاب وهي أنه أثناء حياته الأرضية وبينما هو ملتحف بجسد مائت نافس القوات الملائكية.

16- أية دينونة نستحقها نحن إذًا، عندما نجد إنسانًا بمفرده كانت له كل هذه الفضائل مجتمعة ونحن لم نجتهد في الإقتداء به ولو في أقل القليل؟
حسنًا... فلنتفكر في هذا حتى ننجو من هذه الدينونة ولنسع للوصول إلى غيرة بولس حتى يمكننا نحن أيضًا أن نقتني نفس الخيرات (الأبدية) بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
يمكن هنا إضافة مقارنة بين بولس وداود مع المزيد من التقريظ له وقد ورد في العظة 25 من شرح رسالة كورنثوس الثانية لذهبي الفم:
Wonderful was David who laid Goliath low with a single stone; but if thou wilt examine Paul’s achievements, that is a child’s exploit, and great as is the difference between a shepherd and a general, so great the difference thou shall see here. For this man brought down no Goliath by the hurling of a stone, but by speaking only he scattered the whole array of the Devil; as a lion roaring and darting out flame from his tongue, so was he found by all irresistible; and bounded everywhere by turns continually; he ran to these, he came to those, he turned about to
these, he bounded away to others, swifter in his attack than the wind;
governing the whole world, as though a single house or a single ship;
rescuing the sinking, steadying the dizzied, cheering the sailors, sitting at the tiller, keeping an eye to the prow, tightening the yards, handling an oar, pulling at the mast, watching the sky; being all things in himself, both sailor, and pilot, and pilot’s mate, and sail, and ship; and suffering all things in order to relieve the evils of others. For consider. He endured shipwreck that he might stay the shipwreck of the world; “a day and a night he passed in the deep,” that he might draw it up from the deep of error; he was “in weariness” that he might refresh the weary; he endured
smiting that he might heal those that had been smitten of the devil; he
passed his time in prisons that he might lead forth to the light those that were sitting in prison and in darkness; he was “in deaths oft” that he might deliver from grievous deaths; “five times he received forty stripes save one” that he might free those that inflicted them from the scourge of the devil; he was “beaten with rods” that he might bring them under “the rod and the staff” of Christ; (Psalm 4: 23.) he “was stoned,” that he might deliver them from the senseless stones; he “was in the wilderness, that he might take them out of the wilderness; “in journeying,” to stay their wanderings and open the way that leadeth to heaven; he “was in perils in the cities,” that he might show the city which is above; “in hunger and thirst,” to deliver from a more grievous hunger; “in nakedness,” to clothe their unseemliness with the robe of Christ; set upon by the mob, to extricate them from the besetment of fiends; he burned, that he might quench the burning darts of the devil: “through a window was let down from the wall,” to send up from below those that lay prostrate upon the ground. Shall we then talk any more, seeing we do not so much as know what Paul suffered? shall we make mention an y more of goods, or even of
wife, or city, or freedom, when we have seen him ten thousand times
despising even life itself? The martyr dies once for all: but that blessed saint in his one body and one soul endured so many perils as were enough to disturb even a soul of adamant; and what things all the saints together have suffered in so many bodies, those all he himself endured in one: he entered into the world as if a race-course, and stripped himself of all, and so made a noble stand. For he knew the fiends that were wrestling with him. Wherefore also he shone forth brightly at once from the beginning, from the very starting-post, and even to the end he continued the same; yea, rather he even increased the intensity of his pursuit as he drew nearer
to the prize. And what surely is wonderful is that though suffering and doing such great things, he knew how to maintain an exceeding modesty. For when he was driven upon the necessity of relating his own good deeds, he ran quickly over them all; although he might have filled books without number, had he wished to unfold in detail every thing he mentioned; if he had specified the Churches he was in care for, if his prisons and his achievements in them, if of the other things one by one, the besetments, the assaults. But he would not.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-paul-praise/all-saints.html
تقصير الرابط:
tak.la/2cn5gg3