الفصل الرابع عشر
تحليل لسفر اللاويين، خطية ناداب وأبيهو، الحكم على المجدف (سفر اللاويين)
كان المقصود من سفر الخروج أن يخبر كيف أن الرب الإله افتدى وأفرز لنفسه "شعبًا خاصًا". وبناء عليه كان من الملائم له أن يُختم بإقامة المسكن وتقديسه بحضور مرئي للرب في القدس. لكن تبقى إظهار الوجه الآخر للعهد. لأن تدابير وسبل النعمة يلزم قبولها واستخدامها لمن هي مخصصة لهم، وإفراز الشعب بواسطة الرب تضمن التكريس من جانب إسرائيل.
وهذا يشكل مادة موضوع سفر اللاويين(147)، والذي كاتب ألماني حديث عن صواب وصفه بكونه "الدستور المنظم للحياة الروحية لإسرائيل، في ضوء كونهم شعب الله". ولتلخيص محتوياته العامة، يخبرنا السفر في جزئه الأول (لا 1-16) كيف كان لإسرائيل أن تقترب من الله، مع -ما لو سنتكلم رمزيًا- لا يتوافق مع مثل هذا الاقتراب، وفي جزئه الثاني (لا 17-27) كيف إذ اقتربوا من الله، كان للشعب أن يديم ويستمتع ويُظهر حالة النعمة التي صاروا مشاركين لها.
بالطبع كل ما ورد هنا رمزيًا، ويلزم أن نعتبر التوجيهات والفروض والطقوس بكونها تنقل شكل خارجي لحقائق روحية كثيرة. بل ويمكننا أن نمضي إلى حد القول إن الجزء الأول من سفر اللاويين يعرض في صيغة رمزية عقيدة التبرير، والجزء الثاني يعرض عقيدة التقديس أو بدقة أكثر يعرض أسلوب الاقتراب إلى الله، والقداسة هي النتيجة لهذا الاقتراب.
لقد تم الإشارة سابقًا إلى أن سفر اللاويين يتكون من جزئين، الأول ينتهي بالإصحاح 16 (لا 1-16) والآخر لو تكلمنا كما ينبغي بالإصحاح (لا 25)، والإصحاح (لا 26) هو ختام عام يشير إلى بركات الالتصاق الأمين للعهد، بينما إصحاح (لا 27) يتعامل مع النذور للرب ويشكل ملحق ملائم جدًا للسفر.
في ختام السفر ذاته (لا 26: 46)، والإصحاح الذي لافتقاره إلى أسم أفضل أطلقنا عليه اسم "ملحق السفر" (لا 27: 34)، نجد تعبيرات(148) تشير إلى القصد من الكل، وأن سفر اللاويين يشكل في حد ذاته جزء خاص ومنفصل للأسفار الخمسة.
نحن نكرر القول إن سفر اللاويين كان مقصودًا لإسرائيل كشعب لله، وأنه سفر تشريع الحياة الروحية لإسرائيل، وعلى كلا هذين الأساسين، سفر اللاويين ليس مجرد سفرًا قانونيًا بمعنى التشريع العادي، بل ولا هو مجرد سفرًا طقسيًّا، بل يحمل في كل مداه معنى رمزي ونموذجي. بناء على ذلك حقائقه الأعمق تنطبق على كل العصور وكل البشر.
![]() |
الجزء الأول (1-16) والذي يخبر إسرائيل كيف له أن يقترب ويتقدم إلى الله لكي يكون لهم شركة معه، يُفتتح على نحو ملائم بوصف لمختلف أنواع الذبائح (لا1-7)، يتعامل بعد ذلك مع ما يختص بالكهنوت (لا8-10). الصفة الرمزية الشاملة للكل، ومن ثمَّ ضرورة الالتصاق الشديد بالتعليمات المعُطاة، يتم شرحها بعد ذلك بالحكم الذي حل على من قدموا بخورًا على نار غريبة (لا 10: 1-6).
ينتقل النص المقدس من الكهنوت للكلام عن العابدين (لا11-15). يلزم لأولئك أن يكونوا طاهرين بصفة شخصية (لا 11: 1-47)، في حياتهم العائلية (لا12)، وكمجتمع (لا13-15). وفوق كل هذا هو يوم التطهير العظيم ليوم الكفارة (لا16)، والذي به يُختم الجزء الأول من السفر والمختص بالاقتراب من الله.
الجزء الثاني من سفر اللاويين والذي يصف بطريقة رمزية القداسة التي تليق بشعب الله، يتعامل أولًا مع القداسة الشخصية (لا17)، ثم القداسة في الأسرة (لا18)، ثم القداسة في العلاقات الاجتماعية (لا19-20)، والقداسة في الكهنوت (لا21-22).
من هناك ينتقل النص المقدس للكلام عن المواسم المقدسة (لا23-24). مثلما أن واجب الالتصاق الشديد بالتعليمات الإلهية فيما يرتبط بالكهنوت قد تم شرحه بالحكم الذي صدر في حق ناداب وأبيهو (لا 10: 1-6)، كذلك الآن الواجب المقدس الإلزامي لكل بني إسرائيل بمعاملة اسم الرب بالتقديس، تم إظهاره بالعقوبة التي صدرت في حق من جدف على اسم الرب (لا 24: 10- إلخ.). أخيرًا يصف (لا25) قداسة الأرض.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
هكذا الجزء الثاني يتعامل بخصوصية أكثر مع التكريس. كما أن الجزء الأول بوصف الاقتراب من الله قد وصل ذروته في طقس يوم الكفارة، كذلك الجزء الثاني وصل ذروته في سنة اليوبيل.
أخيرًا (لا26) يشدد على التعلق المبارك للحفظ الأمين للعهد، بينما (لا27) يصل -لو جاز القول- إلى ما وراء المطالب العادية والتكريسات، فيتكلم عن التقدمات الطوعية من القلب كما تمثلها النذور.
يتبقى لنا الآن فقط أن نصف مثلين توضيحيين تم الإشارة إليهما من قبل، واحد يرتبط بالكهنوت والآخر بالشعب. هارون وبنيه تم تكريسهما رسميًا لوظيفتهم المقدسة، والتقدمة التي قدموها التهمتها على مرأى من كل الشعب نار من أمام الرب لتدل على قبوله إياها (لا9). فكم بالأولى أي تعدي على ما يرتبه الرب خصوصًا لو أن الذي اقترفه كهنته، يستدعي لعقوبة علنية ومميزة. لكن ناداب وأبيهو أكبر أبناء هارون: "َقَرَّبَا أَمَامَ الرَّبِّ نَارًا غَرِيبَةً لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِهَا" (لا 10: 1).
استنتج بعض الكتّاب من منع الخمر أو أي شراب مُسكر للكهنة أثناء وقت خدمتهما، والذي أعقب تسجيل هذا الحدث (لا 10: 8-11) إلى أن هذين كانا تحت مثل هذا التأثير في وقت محاولتهما الوقحة.
النقطة لها قليل أهمية، أتكلم نسبيًا. ليس من السهل القول ماذا يعني بالضبط تعبير "نَارًا غَرِيبَةً". من الواضح أن الاثنين كانا ماضيان لتقديم بخور على المذبح الذهبي (ع1)، وكان واضح أيضًا أن هذه الخدمة كانت على وشك أن تُعمل في وقت لم يقرره الرب. لأنه بمقارنة (ع12، 16) يتبين أنه حدث بين الذبيحة التي قدمها هارون (لا9)، والوليمة التي أعقبت تلك الذبيحة، بينما البخور كان له أن يُحرق فقط عند الذبائح الصباحية والمسائية.
بخلاف هذا قد يكون أنهما أخذا أيضًا نارًا غريبة بمعنى أنهما أخذ فحمًا متقدًا من موضع غير مذبح المحرقة. في طقس يوم الكفارة، تم توصيف هذا بوضوح (لا 16: 12)، وإنه استنتاج جيد أن نفس التوجيه ينطبق على كل وقت فيه تقديم بخور. على كل حال نحن نعلم أن مثل هذا كان القانون الدائم في الهيكل في زمن المسيح.
لكن ناداب وأبيهو لم يُسمح لهما أن يتمما مقصدهما. فنفس النار التي منذ قليل التهمت الذبيحة المقبولة (لا 9: 24)، الآن "أَكَلَتْهُمَا فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبّ" (لا 10: 2)، أي ماتا أمام مسكنه وفي الأرجح في الدار (قارن لا 1: 5)، عندما كانا على وشك أن يدخلا القدس. هكذا في ذات يوم تكريسهما للكهنوت هلك أبني هارون الكبيرين، لأنهما لم يقدسا الرب في قلبيهما، بل قدما له عبادة من اختراعهما، بدلًا من ذلك البخور المقدس الذي تلتهمه نار من المذبح والذي مثّل الصلاة المقدمة على أساس الذبيحة المقبولة.
وهذا الدرس المضاعف قدمه الرب كتعليم لتفسير هذا الحكم (لا 10: 3). فعلى قدر ما الأمر يختص بالكهنوت: "فِي الْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّس"، وعلى قدر ما الأمر كان يختص بالشعب: "وَأَمَامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ أَتَمَجَّد". وبتعبير آخر إن كان الذين تكرسوا له لن يقدسوه في قلبهم وحياتهم فهو سوف يقدس ذاته فيهم بأحكام قصاصه (قارن أيضًا حز 38: 16)، وهكذا يمجد اسمه أمام الكل، بكونه القدوس الذي لا يمكن أن يفلت من عقوبته من يثير غضبه.
لقد تصرف هارون بمنتهى الوقار حتى أنه بلغة الكتاب قيل: "فَصَمَتَ هَارُون" لم تفلت من شفتيه كلمة شكوى بل ولا سمح من جانبه أو من جانب ابنيه الآخرين أية علامة للحزن أن تُظهر ولو ظل من مشاعره الشخصية أو حتى أسف كامن على هذه النقمة المتميزة للقداسة الإلهية (لا 10: 6). وفقط سُمح لإخوتهم كل بيت إسرائيل أن يبكوا على هذا الحريق الذي أحرقه الرب.
إن رواية حكم القصاص على المجدف (لا 24: 10-14)، قد حُشرت في السفر حيث وُضعت، إما لأنها حدثت في ذات الوقت عندما أُعطيت التشريعات المسجلة هناك، وإلا لأنها تشكل مقدمة مناسبة أو شرحًا وتفسيرًا لواجب الاعتراف بالرب والذي يجد تعبيره الخارجي التام في السنة السبتية وفي ترتيبات سنة اليوبيل التي جاء أمر بها في (لا25).
وهو يقدم لنا مثالًا آخرًا على المخاطر التي نتجت لإسرائيل عن حضور اللفيف الذين تبعوهم من مصر (خر 12: 38). لا يبدو أنه يوجد سبب يبرر التشكك في وجهة النظر اليهودية بأن اللفيف احتلوا موضع منفصل في المحلة حيث أن بني إسرائيل كانوا مرتبين بحسب أسباطهم، كل شخص عند رايته بأعلام بيوت آبائهم (عد 2: 2). لكن حيث أن المجدف كان ابن لأم من سبط دان تُدعى شلومية بنت دبري (عد 24: 11)، وأباه كان مصريًا(149)، فلم يُخول له أن ينصب خيمته بين التي لسبط دان.
يضيف التقليد العبري أيضًا أن هذا كان سبب المشاجرة عندما خرج المجدف بين بني إسرائيل، وابن الإسرائيلية هذا والرجل الإسرائيلي تشاجرا في المحلة (لطلبه الإقامة فيها) وأخيرًا يضيف التقليد أن دعوى الإقامة بين الدانيين حكم بها موسى ضده، فجدف(150) على الاسم ولعن (لا 24: 11). أيًا كانت الحقيقة، لو كان يوجد حق في هذا التقليد، فإن الجريمة في حد ذاتها كانت خطيرة جدًا. إن كان حتى لعن أحد الوالدين يُحكم عليه بالموت، فكم بالأولى تكون العقوبة صارمة جدًا على من شتم الرب ولعن!
لكن لأن القضية كانت خطيرة جدًا، لم يتسرع موسى في البت فيها وإصدار حكم [قارن التأخير المقابل في (عد 15: 34)]: "فوضعوه في السجن ليحددوا ما يختص بهم (يختص بالمجدفين) بحسب فم (أو أمر) الرب" (عد 15: 34 بحسب النص).
بعد ذلك بتوجيه إلهي أُخذ المجدف خارج المحلة، ومن سمعوا تجديفه وضعوا أيديهم على رأسه، كما لو كانوا يزيلون التجديف عنهم ويضعوه على رأس المذنب (قارن 21: 6)، وشاركت كل الجماعة في تنفيذ الحكم برجمه. لكن القانون العام الذي قضى بعقوبة الموت للمجدف (لا 24: 16)، كان له أن يُطبق على الإسرائيلي كما أيضًا على الغريب، مثلما هو الحال أن كل الجرائم تحمل مجازاة عقوبتها وبالأخص تلك التي ضد الحياة أو الأشخاص، كان على السواء يتم معاقبتها سواء كان المذنب يهودي أو أجنبي.
هذا هو الهدف من وراء تكرار هذه القوانين في هذا الصدد (لا 24: 17-22). لأن الرب لم يكن إله قومي ومحلي مثل آلهة الأمم، ولا كانت امتيازات إسرائيل تعطي لهم رضا ومحاباة استثنائية في حالة الإساءات، بل الرب كان هو قدوس إسرائيل والقداسة تليق ببيته إلى الأبد.
_____
(147) سفر اللاويين أو سفر "حول الطقوس والفرائض اللاوية" يشتق اسمه من الاسم المقابل في الترجمة السبعينية واسمه اللاتيني في الفولجاتا. وهو يقابل للتسمية الربانية "شريعة الكهنة" و "سفر شريعة التقدمات"، وبين اليهود يُعرف عادة باسم "فاجيكرا" حيث أن النص العبري يُدعى بأول كلمة في السفر "فاجيكرا".
(148) تعليق للمترجم: يبدو لي أن الكاتب يشير هنا إلى (لا 26: 46) حيث نصها كالآتي: "هَذِهِ هِيَ الْفَرَائِضُ وَالأَحْكَامُ وَالشَّرَائِعُ الَّتِي وَضَعَهَا الرَّبُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي جَبَلِ سِينَاءَ بِيَدِ مُوسَى".
(149) يوجد تقليد يهودي قديم مفاده أن أب هذا المجدف كان المصري الذي قتله موسى لأجل سوء معاملته للعبري (خر 2: 11-12)، وهذه تفاصيل خرافية تُضاف إلى الإساءات السابقة لذلك المصري ليست بحاجة إلى تكرارها هنا. وهدفهم الواضح هو من ناحية ليجعلوا الغضب المحموم لموسى له ما يبرره، ومن ناحية أخرى للتعليل لحقيقة أن مصري كان والد ابن أمة عبرية.
(150) الربيون والترجمة السبعينية جعلت تعبير "جدف" أنه "نطق بوضوح" باسم الرب، والتقليد اليهودي قائم على المنع الدائم لنطق اسم "يهوه" وهو فرض يتم مراعاته بتدقيق حتى أن النطق الصحيح للكلمة غير معروف يقينًا. والمرجح جدًا أنه ينبغي نطقه "يهفيه". وفي ترجمتنا الإنجليزية كما في السبعينية جُعل "الرب" وتكُتب بالحروف الكبيرة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-2/leviticus.html
تقصير الرابط:
tak.la/wgfh675