St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

21- الفصل الحادي والعشرون: أبناء يعقوب يصلون إلى مصر ليشتروا قمح - يوسف يتعرف على إخوته - سجنه لشمعون - أبناء يعقوب يأتون مرة ثانية إلى مصر ويحضرون بنيامين معهم - يوسف يمتحن إخوته - يوسف يعرّفهم بنفسه - يعقوب وأسرته يستعدون للنزول إلى مصر (تك42-45)

 

الفصل الحادي والعشرون

أبناء يعقوب يصلون إلى مصر ليشتروا قمح - يوسف يتعرف على إخوته - سجنه لشمعون - أبناء يعقوب يأتون مرة ثانية إلى مصر ويحضرون بنيامين معهم - يوسف يمتحن إخوته - يوسف يعرّفهم بنفسه - يعقوب وأسرته يستعدون للنزول إلى مصر (تك42-45)

 

نحن الآن نقترب من فترة حاسمة في تاريخ بيت إسرائيل. لكن مرة أخرى يبدو أن كل شيء يحدث بصورة طبيعية تمامًا، بينما في حقيقة الأمر كل شيء فائق للطبيعة. نفس الأسباب التي أدت إلى قلة المطر على جبال الحبشة ومعها قلت مياه النيل، جلبت الجفاف والمجاعة إلى فلسطين.

إنه أمر ملائم تامًا أن يحدث في مثل هذه الضيقات أن يقف بني يعقوب الوحشيين والمتمردين في حالة عجز ويأس، بينما طاقات أبيهم بالمقابل تُستثار وتنهض. "لِمَاذَا تَنْظُرُونَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؟. إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ يُوجَدُ قَمْحٌ فِي مِصْرَ. انْزِلُوا إِلَى هُنَاكَ وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هُنَاكَ لِنَحْيَا وَلاَ نَمُوتَ" (تك 42: 1-2). فرحل آنذاك عشرة من أبناء يعقوب للقيام بهذه المهمة. أما بنيامين الذي حل محل يوسف في قلب أبيه لم يرسله معهم، ربما من خوف حقيقي من أذية تصيبه مصادفة، ربما لأن أبيه لا يثق تمامًا في صدق نوايا بنيه.

المشهد التالي يقدم لنا العبرانيين الغرباء بين جمع مختلط من المصريين والأجانب الذين جاءوا طلبًا للقمح، بينما يوسف كأعلى موظف مصري يشرف على البيع. فَأَتَى إِخْوَةُ يُوسُفَ وَسَجَدُوا لَهُ بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ، كما هو معتاد في الشرق. بالطبع لم يمكنهم التعرف علي من -يبدو مهندم الملبس أمامهم ويتكلم كنبيل مصري- بكونه الصبي الذي منذ عشرين سنة مضت توسل إليهم في ضيقة نفسه يرجوهم ألا يبيعوه عبدًا.

لم يتم فيهم نفس التحول فعرف يوسف في الحال ملامح إخوته التي يتذكرها جيدًا. لكن يا له من تغير هائل في موقفه وموقفهم. عندما رآهم ينحنون ويسجدون أمامه، استرجعت ذاكرته بصورة حية أحلامه السابقة. يقينًا أي شخص حتى لو كان أقل تقوى من يوسف سيشعر في تلك اللحظة أن يد إلهية قادت الماضي لأجل قصد إلهي.لم يستطع الغضب الشخصي أو الاستياء أن يدخل ذهنه في وقت كهذا.

لذلك -كما ظن البعض- لو أن الشدة والصرامة تجاه إخوته، حددت جزئيًا سلوكه، فيلزم أن هذا كان يقينًا لدافع ثانوي. على كل حال من المستحيل الافتراض أنه كان يأوي أي مشاعر للغضب بعد، بينما هو بعد ذلك بوقت قصير، عند تعبيرهم عن ندمهم "تَحَوَّلَ عَنْهُمْ وَبَكَى" (تك 42: 24). لكننا نفضل أن نعتبر سلوك يوسف كان متسقًا ومتناغمًا على طول الخط.

ظهور إخوته أمامه بدا أنه يتضمن أن الله لم يقصد أن يفصله عن أسرته بل ولا حتى أن يرجع هو إليهم، بل إنه ينبغي لهم أن يأتوا إليه وأنه تم إرساله قبلهم لحفظهم أحياء ولا يموتوا من الجوع. لكن من أجل جمع شمل الأسرة ثانية كان مطلوبًا بوضوح أن تُجري قلوبهم وأذهانهم تغير تام من تلك الغيرة عديمة الضمير التي دفعتهم ليبيعوه عبدًا.

St-Takla.org Image: Joseph's cup found in Benjamin's sack (Genesis 44:12) - Bible Pictures by William de Brailes, circa 1250, ink and pigment on parchment, Walters manuscript W.106. صورة في موقع الأنبا تكلا: كأس يوسف التي وجدت في جراب بنيامين (تكوين 44: 12) - من صور الكتاب المقدس للفنان وليم دي بريلز، سنة 1250 م. تقريبًا، حبر وأصباغ على رِق، مخطوط والترز و. 106.

St-Takla.org Image: Joseph's cup found in Benjamin's sack (Genesis 44:12) - Bible Pictures by William de Brailes, circa 1250, ink and pigment on parchment, Walters manuscript W.106.

صورة في موقع الأنبا تكلا: كأس يوسف التي وجدت في جراب بنيامين (تكوين 44: 12) - من صور الكتاب المقدس للفنان وليم دي بريلز، سنة 1250 م. تقريبًا، حبر وأصباغ على رِق، مخطوط والترز و. 106.

يلزم التيقن من هذا قبل أن يعرّفهم بنفسه. علاوة على ذلك حقيقة هذا التغير يلزم امتحانها بأصعب اختبار يمكن إخضاع مشاعرهم المتغيرة له. إذ ننظر للأمر هكذا يمكننا أن نفهم كل سلوك يوسف. بالطبع سيكون أول هدف له أن يفصل أبناء يعقوب أبيه من بين بقية المشترين وهم كثيرين، لكي يتم التعامل معهم خاصة لكن بدون أن يثير شكوكهم، هدفه الثاني هو التيقن من أحوال الأمور في بيت أبيه. بعد ذلك سيجعلهم يتذوقون حزن لا يوجد ما يبرره بممارسة سلطة قهرية أمامها سيكونون عاجزين بنفس القدر الذي كانه يوسف في أيديهم.

بهذا قد يمكنهم رؤية خطيتهم الماضية في حزنهم الحاضر. كل هذه الأهداف تم إدراكها بنفس الوسيلة. اتهمهم يوسف بكونهم جواسيس تحت ادعاء شراء قمح جاءوا ليكتشفوا نقاط الضعف في أرض مصر. لم يكن الاتهام غريبًا وغير معقولًا في حالة مصر آنذاك بل ولا غير شائع في الأقطار الشرقية. هذه التهمة ليست فقط قدمت مبرر للتعامل معهم على انفراد، بل أيضًا إجابتهم على التهمة سوف تخبر يوسف عن ظروف عائلته.

لأنه من الطبيعي أنهم ليسوا فقط سيعترضون ببراءتهم، بل سيبينون الاستحالة المتأصلة لتهمة كهذه. لم يمكنهم أن يقدموا هنا حجة أكثر من أن يخبروه أنهم جميعًا أبناء رجل واحد، ويستحيل أنه سيخاطر بحياة كل أبنائه في مهمة خطيرة كهذه. لكن هذا لم يكن كافيًا ومقنعًا ليوسف.

بتكرار نفس التهمة قادهم للدخول في تفاصيل أكثر منها سيعرف أن كل من أبيه وأخيه بنيامين كانوا أحياء. لكن إشارتهم إليه بالقول: "وَالْوَاحِدُ مَفْقُودٌ" يبدو أنه يعني ضمنًا مثابرتهم في غشهم السابق ويلزم أنه قوّى شكوكه من جهة حالة ذهنهم. أما الآن بممارسة الشدة عليهم سيريهم ليس فقط خطيتهم الماضية، بل أيضًا أنه مهما بدا أن الله يتمهل، لكنه المنتقم عن كل ظلم.

وأكثر من ذلك لو أنه تم وضع بنيامين نسبيًا بالنسبة لهم في نفس ظروف التفضيل والمحاباة كالتي كان فيها يوسف، فلو بدلًا من أن يحسدوه ويبغضوه، كانوا مستعدين حتى لأن يتعرضوا للخزي والخطر لأجله، ليس فقط بالوقوف بجانبه، بل أيضًا أن يتألموا بدلًا منه، فهم يكونوا قد تابوا وندموا بأصدق معنى وحالة ذهنهم تكون العكس لما كانت عليه منذ عشرين سنة مضت.

وإذ شرع في هذه الخطة، قام يوسف أولًا بسجن كل العشرة ثم عرض أن يطلق واحد فقط من بينهم ليحضر بنيامين لكي يتحقق كما قال من صدق أقوالهم. ربما كان المقصود من هذه القسوة المفرطة أن تثير الرعب في قلوبهم، وفي نهاية ثلاثة أيام هو تهاود ورق لهم جدًا بحيث احتفظ بواحد منهم كرهينة، وفي نفس الوقت شجعهم بالقول أنه بتصرفه هكذا كان دافعه الخوف من الله وأنه يضمن لهم أنه بمجرد أن يقتنع ببراءتهم لن يضمر أي قصد شرير ضدهم.

هذه الإشارة إلى "الخوف من الله" من جانب مصري وهذا التراجع الواضح عن شدة لا ضرورة لها، يلزم أنها وخزت قلوبهم ونخستها لأنه جعلهم يقارنون بينه وبين سلوكهم الحقود تجاه يوسف. تم اختيار شمعون ليبقى رهينة عنده لأنه كان التالي في العمر بعد رأوبين، الذي لم يتم حبسه لكونه سعى في إنقاذ حياة يوسف.

يلزم أن هذا أيضًا ساهم في تذكيرهم بخطأهم السابق، ولأول مرة يعترفون لبعضهم البعض بجرم الماضي المر وكيف أن الله كان يجازيهم ويفتقدهم الآن لأجله. كانت مشاعرهم حادة حتى أنهم في محضر يوسف تكلموا عن الأمر بلغتهم العبرية غير مدركين أن يوسف الذي كان يتحدث معهم عبر مترجم كان يفهم كلماتهم. كان يوسف مضطر لأن ينسحب بسرعة لكي لا يكشف نفسه، لكنه لم يتزعزع ويتنازل عن قصده. فتم تقييد شمعون أمام أعينهم وتم صرف بقيتهم، لكن مع كل واحد زادًا وافرًا للطريق بخلاف القمح الذي اشتروه وتم إرجاع مال الشراء سرًا إليهم.

إن الرعب الذي أثاره وألهمه تحول سير الأحداث قد تعمق وزاد عندما في أول محطة باتوا فيها اكتشف أحدهم المال في كيس قمحه. لكن كما من قبل فإن الانطباع والتأثير كان مفيدًا وصحيًا. فهم رأوا في هذا أيضًا يد الله المنتقمة: "مَا هَذَا الَّذِي صَنَعَهُ اللهُ بِنَا؟" (تك 42: 28).

إن الرواية التي كان لهم عند عودتهم أن يسردوها لأبيهم كانت محزنة بما فيه الكفاية. لكن الاكتشاف الذي اكتشفوه الآن بكون المال الذي دفعوه تم رده إليهم سرًا يبدو أنه يتضمن أذى له مغزى أعظم ملأ قلب يعقوب وقلبهم بمخاوف جديدة. لو أن شرط ظهورهم ثانية أمام حاكم الأرض كان يُلزمهم بإحضار بنيامين معهم، فإن من قد فقد فعلًا اثنين من أبنائه سيرفض أن يعرّض لمثل هذا الخطر حبيبه بنيامين آخر ما بقي له من محبوبته راحيل.

تطوع رأوبين بتقديم ضمانة من نوع غريب فقال: "اقْتُلِ ابْنَيَّ إِنْ لَمْ أَجِئْ بِهِ إِلَيْكَ. سَلِّمْهُ بِيَدِي وَأَنَا أَرُدُّهُ إِلَيْكَ" (تك 42: 37). لكن مثل هذه اللغة لم تستطع أن تطمئن قلب يعقوب. لبعض الوقت بدا كما لو أن حزن يعقوب السابق كان له أن يزيد بفقد شمعون وكما لو أن يوسف وأسرته ليس لهم أن يلتقوا ثانية مطلقًا.

لو نسأل أنفسنا لماذا خاطر يوسف بهذا أو أضاف إلى حزن أبيه حزنًا آخر. نجيب عن السؤال الأول بالقول إنه من حيث كون يوسف الآن عرف أحوال وظروف عائلته ولديه شمعون بجانبه، يمكنه في أي وقت لو تطلب الأمر ظهوره أن يتصل بأبيه. وبالنسبة إلى المعضلة الثانية يلزمنا أن نشعر جميعًا أن هذا الحزن والهّم ما كان يمكن تجنيب أبيه لهما لو كان لإخوته أن يتم امتحانهم واختبارهم وإعدادهم لمهمتهم.

ثم ألا يبدو كما لو أن يوسف قد فهم بحق مشيئة الله في هذا الأمر، حيث أن قلب إخوته قد تأثر في الحال فاعترفوا بخطيتهم السابقة ويد الله في الأمر؟ ألم يمكنه بعد ذلك أن يواصل تسليم نفسه لله في عمل الخير والثقة به والاتكال عليه؟ بل ألم يمكنه أن يثق أيضًا في إيمان أبيه ليحتمل هذه التجربة بصبر؟ على الأكثر ستكون التجربة قصيرة الوقت، وكم ستكون مباركة للكل الثمار المتوقعة منها!

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

مرة أخرى برهنت الأحداث صحة رأيه ووجهة نظره. عندما كاد أن يفرغ مخزون القمح الذي اشتروه، كان ضروريًا بصورة مطلقة شراء حصة جديدة من المخازن الملكية بمصر. هذه المرة كان يهوذا هو الذي تقدم بعرض لضمان سلامة بنيامين. كانت لهجته هادئة جدًا وودودة ولكنها حاسمة بحيث أنها ألهمت يعقوب بثقة يمكن أن يستمدها من قصد صالح وجاد لإنسان صادق.

لكن كانت له تعزية أعلى وأسمى وتلك من صلاة الإيمان: "وَاللهُ الْقَدِيرُ يُعْطِيكُمْ رَحْمَةً أَمَامَ الرَّجُلِ حَتَّى يُطْلِقَ لَكُمْ أَخَاكُمُ الْآخَرَ وَبِنْيَامِينَ"، ولكن حتى لو عيّن الله شيئًا بخلاف هذا، لو هو رأى أنه من المناسب أن يأخذ منه بنيه، فإيمانه سيرتفع لهذا المستوى أيضًا: "وَأَنَا إِذَا عَدِمْتُ الأَوْلاَدَ عَدِمْتُهُمْ!" حسنة هي مشيئة الرب وهو سينحني أمامها.

إنه أمر مؤثر أن ترقب اليدين المرتعشتين ليعقوب العجوز وهما كما لو أنهما يصنعان محاولات ضعيفة لتفادي غضب السيد المصري المخيف. لقد كانت السنة سنة مجاعة ومن الطبيعي أنه ستوجد ندرة في الأطعمة الفاخرة التي كان عادة يتم تصديرها إلى مصر. لكن فليأخذوا معهم هدية من مثل هذه الأطعمة اللذيذة للمصري: "خُذُوا مِنْ أَفْخَرِ جَنَى الأَرْضِ فِي أَوْعِيَتِكُمْ وَأَنْزِلُوا لِلرَّجُلِ هَدِيَّةً. قَلِيلًا مِنَ الْبَلَسَانِ وَقَلِيلًا مِنَ الْعَسَلِ وَكَثِيرَاءَ وَلاَذَنًا وَفُسْتُقًا وَلَوْزًا". أما بالنسبة إلى المال الذي تم رده إليهم في أكياسهم فقد يكون حدث سهوًا. فليأخذوه معهم ثانية ويردوه مع ثمن القمح الذي سوف يشترونه الآن. 

وهكذا فلينطلقوا، بنيامين وبقية الإخوة باسم إله إسرائيل. وهو سيبقى وحده خلفهم كما كان عند مخاضة يبوق، لا ليس وحده، بل بالإيمان والصبر ينتظر النتيجة. وفي الحال كان الإخوة العشرة -بقلوب أكثر توترًا عما كان يوسف من قبل في طريقه إلى مصر أو في سوق العبيد- هم كانوا مرة أخرى في الحضرة المرعبة للمصري سيد الأرض. رأى يوسف القادمين الجدد ومعهم من حكم أنه أخيه الأصغر والذي تركه في البيت وعمره سنة واحدة فقط.

من الواضح أنه لم يكن الوقت ولا المكان مناسبًا لكي يتحدث إليهم، لذلك أعطى وكيله الأوامر بأن يأخذهم إلى بيته لكي يأكلوا معه عند الظهر. تكلم يوسف باللغة المصرية والتي يبدو أنها كانت غير معروفة لأبناء يعقوب. وعندما رأوا أنفسهم في بيت يوسف خطر في بالهم في الحال أنه تم اتهامهم بسرقة ثمن القمح السابق. لكن الوكيل بكلمات طيبة هدأ من مخاوفهم التي جعلتهم مترددين قبل الدخول عند باب البيت. إن رؤية شمعون الذي تم إخراجه إليهم في الحال يلزم أنه زاد من ثقتهم وطمأنينتهم. وفي الحال عُملت الاستعدادات لأجل الوليمة.

إن المشهد الذي نشأ عندما قابل يوسف إخوته عند عودته إلى البيت كان مشهدًا فوق قدرة احتماله. ما كان يمكنهم قط تخيل الأفكار التي جازت في ذهنه، وكما يحدث في الشرق أَحْضَرُوا إِلَيْهِ الْهَدِيَّةَ الَّتِي فِي أَيَادِيهِمْ إِلَى الْبَيْتِ وَسَجَدُوا لَهُ إِلَى الأَرْضِ. بالكاد أخفت لهجته مشاعره. مرارًا وتكرارًا سألهم عن أبيه: فَقَالُوا: "عَبْدُكَ أَبُونَا سَالِمٌ. هُوَ حَيٌّ بَعْدُ". وَخَرُّوا وَسَجَدُوا. لكن عندما ثبت عينيه على بنيامين ابن أمه وتلعثم عندما قال ما هو غير متوقع من مصري: "اللهُ يُنْعِمُ عَلَيْكَ يَا ابْنِي"، اضطر إلى الانسحاب بسرعة، لأَنَّ أَحْشَاءَهُ حَنَّتْ إِلَى أَخِيهِ، فقد مرت 22 سنة منذ أن فارق أخيه وبنيامين يقف أمامه الآن شاب أكبر من سنه عندما بدأت عبوديته المرّة في السجن.

فهل هم الذين ضحوا به من قبل لأجل الغيرة، سيكونون مستعدين مرة ثانية للتخلي عن أخيه لأجل الأنانية؟ على مائدة الطعام كانت هناك مفاجأة جديدة تنتظر أبناء يعقوب. بالطبع كان ليوسف بحسب النمط المصري أن يأكل وحده والمصريين وحدهم، هو لأجل كونه عضو في أعلى فئة في المجتمع، وهم لأجل شكوك دينية: "لأَنَّ الْمِصْرِيِّينَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَأْكُلُوا طَعَامًا مَعَ الْعِبْرَانِيِّينَ لأَنَّهُ رِجْسٌ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ". نحن نعلم من التاريخ المدني أن المصريين امتنعوا عن بعض أنواع من الأطعمة ولن يأكلوا بالسكاكين والشوك ولا بأواني الطهي التي استخدمها أحد من الأمم الأخرى.

لكن يلزم أنها بدت أمر لا تعليل له كونهم جالسين على مائدة الطعام بحسب أعمارهم. كيف كان للمصري أن يعرفهم وأية ظروف غريبة أحاطت بهم في محضره؟ لكن يلزم أن شيئًا آخر أثار أدهشهم. في بيت أبيهم، كان أصغر عضو -ابن راحيل- على الدوام مفضّل عليهم جميعًا، والآن نفس الشيء يحدث في القصر المصري! لأن يوسف: "رَفَعَ حِصَصًا مِنْ قُدَّامِهِ إِلَيْهِمْ. فَكَانَتْ حِصَّةُ بِنْيَامِينَ أَكْثَرَ مِنْ حِصَصِ جَمِيعِهِمْ خَمْسَةَ أَضْعَافٍ". لماذا علامة التمييز هذه غير العادية مثلما كانت تُراعى في الأزمنة القديمة(55)؟

لكن مرت الوليمة ذاتها بسلام وهناء وفي صباح اليوم التالي كان الأحد عشر بشكر وابتهاج في طريقهم إلى أرض كنعان. لكن وكيل بيت يوسف تلقى تعليمات خاصة. كما في المرة السابقة كل واحد منهم تم رد ماله إليه في عدله، لكن بالإضافة إلى ذلك وضع أيضًا في عدل بنيامين طاس يوسف الخاصة به أو بالأحرى وعائه الفضي الكبير.

لم يكن الإخوة قد سافروا طويلًا عندما باغتهم الوكيل بسرعة. بعد أن نعتهم بالخسة ونكران الجميل، اتهمهم بسرقة الوعاء الذي كان يشرب منه سيده والذي به يتفاءل. بالطبع مقولة الوكيل هذه لا تبرهن على الإطلاق أن يوسف كان فعلًا يستخدم هذا الوعاء للتفاؤل. بل على العكس مثل هذا لا يمكن أن يكون الحال حيث أنه بالطبع يستحيل إجراء سحر من وعاء تم سرقته منه...!

إن تهمة الخيانة والسرقة قد فاجأت الإخوة تمامًا حتى أنهم ثقة منهم ببراءتهم عرضوا تسليم من يثبت جرمه للقتل والباقين يكونون عبيدًا لو وجد المسروق مع أي واحد منهم. لكن الوكيل تلقى تعليمات بخلاف ذلك. كان عليه أن يعزل بنيامين عن بقية إخوته. بكرم متصنع رفض عرضهم وأعلن قائلًا: "الَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ يَكُونُ لِي عَبْدًا وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَكُونُونَ أَبْرِيَاءَ". فَفَتَّشَ مُبْتَدِئًا مِنَ الْكَبِيرِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الصَّغِيرِ. فَوُجِدَ الطَّاسُ فِي عِدْلِ بِنْيَامِينَ.

والآن بدأ أول امتحان عظيم لمشاعرهم. كان لهم أن ينطلقوا جميعًا أحرار إلى بيوتهم لزوجاتهم وبنيهم، وبنيامين وحده كان له أن يبقى عبد. لقد وجد الطاس في عدله!

لو افترضنا جدلًا أنه بالرغم من المظاهر هم عرفوا أنه برئ، لماذا لهم أن يقفوا بجانبه؟ ففي البيت كان أبيه يفضّله أكثر منهم، بل أبيه خوفًا من تعريض حياته للخطر كان على وشك أن يقبل بموتهم جميعًا هم وزوجاتهم وأطفالهم من الجوع. وفي مصر أيضًا كان وهو أصغرهم وابن من أم أخرى مفضّل عنهم بطريقة ملحوظة.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

لقد تخلصوا من قبل من أخ كان محبوب ومفضل أكثر منهم، فلماذا التردد الآن بينما العناية الإلهية ذاتها يبدو أنها تخلصهم من الآخر؟ بل ما هي الحاجة أو أي شأن لهم للتضامن معه؟ ألم يكن يكفي أنه كان يوضع قبلهم في كل موضع، فهل يلزمهم الآن أن يهلكوا كل أسرتهم ويسمحوا لصغارهم بالهلاك لأجل من يبدو أنه تربى على أن يورطهم في البؤس والهلاك؟

هكذا كان يمكنهم أن يتعللوا. لكنهم لم يتعللوا هكذا بل لم يتعللوا بأية حجة على الإطلاق من هذا القبيل، لأنه في كل أمور الواجب يكون التعلل في منتهى الخطورة وفقط بالطاعة المطلقة والفورية بما هو صواب يكون الأمان.

"فَمَزَّقُوا ثِيَابَهُمْ وَحَمَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِمَارِهِ وَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ". مرت وانتهت أول تجربة وامتحان والتجربة الثانية والأخيرة كان لها أن تبدأ. في محضر يوسف: "وَقَعُوا أَمَامَهُ عَلَى الأَرْض" سجدوا في حزن صامت. كان يهوذا هو المتكلم باسمهم وكم أجاد الدفاع وسبق فرمز لشفاعة المسيح العظيم الذي جاء من صلبه.

لم ينطق يهوذا كلمة تبرير أو التماس عذر. هذه هي الفكرة الوحيدة التي سيطرت على قلبه: "اللهُ قَدْ وَجَدَ إِثْمَ عَبِيدِك". هم في الواقع غير مذنبين بهذه التهمة بل مذنبين أمام الله الذي انتقم من إثمهم! فكيف يمكنهم أن يتركوا بنيامين في عبودية لا يستحقها، بينما ليس هو بل هم الذين كانوا فعلًا سبب هذا الحزن؟ لكن يوسف -كما فعل وكيله من قبله- رفض هذا العرض بكونه ظالم وعرض أن يطلق سراحهم عدا بنيامين.

وجد يهوذا في هذا العرض مخرجًا لأن يتوسل في لغة رقيقة وتصويرية وجادة حتى أن قليلين يمكنهم أن يقاوموا ما تثيره من عواطف وأشجان. فهو أعاد سرد الرواية البسيطة كيف أن السيد المصري العظيم سأل في البداية إن كان لهم والد أو أخ، وكيف أخبروه أن والدهم في البيت وله ابن شيخوخته كان معه وكان أخر ما تبقى من زوجته المحبوبة، وبه التصق قلب والدهم الشيخ. ثم طلب سيد الأرض إحضار الفتى فاحتجوا بأن إحضاره قد يكلف أباه حياته. لكن المجاعة أجبرتهم على أن يطلبوا من أباهم هذه التضحية.

وذكّرهم الرجل بما يعرفوه جيدًا كيف أن زوجته، والتي إلى الآن يعتبرها هي امرأته الفعلية وقال: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ لِي اثْنَيْنِ. فَخَرَجَ الْوَاحِدُ مِنْ عِنْدِي وَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ قَدِ افْتُرِسَ افْتِرَاسًا. وَلَمْ أَنْظُرْهُ إِلَى الآنَ. فَإِذَا أَخَذْتُمْ هَذَا أَيْضًا مِنْ أَمَامِ وَجْهِي وَأَصَابَتْهُ أَذِيَّةٌ تُنْزِلُونَ شَيْبَتِي بِشَرٍّ إِلَى الْهَاوِيَةِ. وما كان يخشاه العجوز قد حدث أيًا كانت الطريقة.

فكيف ليهوذا أن يعاين حزن وموت أبيه بهذه الطريقة؟ ألم يكون هو الملوم خاصة لأنه بناء على ضمانته وافق أبيه على أن يغادر معه؟ بل هو كان كفيله وضامنه، وهو لا يسأل المغفرة أو المعروف، وهذا كل ما يتوسل لأجله الآن أن يُسمح له بالبقاء كعبد وأن يدع الفتى يرجع مع إخوته. هو طلب العبودية كهبة، لأنه كيف يمكنه أن يرى الشر القادم على أبيه؟.

وبالحق قال أحدهم: "ما الذي لن أعطيه وأقدمه لكي أصير قادرًا على أن أصلّي أمام الرب كما شفع يهوذا هنا لأجل بنيامين؛ لأنه نموذج كامل للصلاة، بل شعور قوي يلزم أن يشكل الخلفية لكل صلاة". وتبارك الله أن السيد المسيح شفع لأجلنا هكذا وبذل ذاته كضامن وصار لأجلنا عبدًا (مز 40: 6-7؛ في 2: 6-8). شفاعته سُمعت وقُبلت، وحلوله محلنا قُبل، وشفاعته لأجلنا مستمرة على الدوام ودائمًا تغلب. الرب يسوع المسيح هو "أسد سبط يهوذا، أصل داود، وقد غلب ليفتح السفر ويفك ختومه السبعة" (رؤ 5: 5).

لقد مر الآن وانتهى آخر امتحان. وفي الواقع كان من المستحيل الاستمرار في هذا أكثر من ذلك: "فَلَمْ يَسْتَطِعْ يُوسُفُ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ" أكثر من ذلك، وتم إخراج كل الغرباء على وجه السرعة، وقام يوسف بكل عاطفة جياشة وبرقة المشاعر بتعريف نفسه لهم بكونه أخوهم الذي باعوه في مصر، بينما الله في حقيقة الأمر أرسله أمامهم ليس فقط بحفظ حياتهم وعدم موتهم جوعًا، بل أيضًا لحفظ نسلهم لكي بهذا تتحقق مشورة رحمته للعالم.

لذا ليتهم لا يحزنوا ولا يتأسفوا لأن الله قد هيمن وسيطر على كل المواقف السابقة. تحتم الأمر أن يقولها ثلاث مرات ويبرهن مغفرته لهم بكافة علامات المحبة قبل أن يمكنهم تصديق كلماته أو نوال تعزية منها.

أما الآن فلا يوجد في بال يوسف سوى أن يحضروا أباه وكل أسرته ليكونوا بالقرب منه لكي يعولهم لأنه لم تمر بعد سوى سنتين فقط من سنوات المجاعة السبعة. ولأجل تحقيق هذا الغرض أعانته العناية الإلهية على نحو استثنائي وفريد. فأخبار ما حدث وصلت لمسامع فرعون، والتصرف الكريم لنائبه يوسف قد حاز رضاه، ومن تلقاء ذاته قدم هو أيضًا عرضًا بما عزم عليه يوسف، وأرفق دعوته بوعد ملكي بمئونة وافرة للطريق وأرسل مركبات لنقل النساء والأطفال. ويوسف من جانبه: "أَرْسَلَ لأَبِيهِ عَشَرَةَ حَمِيرٍ حَامِلَةً مِنْ خَيْرَاتِ مِصْرَ وَعَشَرَ أُتُنٍ حَامِلَةً حِنْطَةً وَخُبْزًا وَطَعَامًا لأَبِيهِ لأَجْلِ الطَّرِيقِ".

عندما رجع الأحد عشر، بمفردهم أولًا إلى أبيهم وأخبروه بكل شيء: "جَمَدَ قَلْبُهُ (أي خار وكاد أن يُغمى عليه) لأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ"، لكن بمجرد رؤيته للعجلات التي أرسلها يوسف حدث رد فعل عظيم: "فَعَاشَتْ (انتعشت) رُوحُ يَعْقُوبَ أَبِيهِم"، فبدا أن الماضي بكل أحزانه وخطيته قد تم محوهم من ذاكرته.

مرة أخرى لم يكن يعقوب المتكلم كما من قبل بل إسرائيل (الرئيس مع الله والإنسان): "كَفَى! يُوسُفُ ابْنِي حَيٌّ بَعْدُ. أَذْهَبُ وَأَرَاهُ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ" (تك 45: 28).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(55) بين أهل اسبرطة كانت الضعف وبين الكريتين الحصة التي كانت توضع أمام الرؤساء والحكام أربعة أضعاف، لكن يبدو في مصر أنها كانت خمسة أضعاف.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/jacob-sons-egypt.html

تقصير الرابط:
tak.la/kr74ghn